كتبت غير مرة في الأشهر الأخيرة منتقداً السياسة التركية من التعاون العسكري مع اسرائيل، الى الحملة على المسلمين بحجة أنهم اسلاميون متطرفون، والبطش بالاكراد. ثم انتقدت الولاياتالمتحدةتركيا للمرة الأولى على ما تعيه ذاكرتي، ولكن عندما درست هذا الانتقاد اليتيم وجدت انه في المجال الوحيد الذي لا يستحق الاتراك فيه الانتقاد. المبعوث الاميركي ريتشارد هولبروك أنحى باللائمة على القبارصة الاتراك الذين لا يمكن ان يتصرفوا مستقلين عن توجيهات الحكومة التركية في انهيار المفاوضات لإعادة توحيد شطري الجزيرة، وقال ان زعماءهم غيّروا موقفهم، بعد ان كان قضى يومين في مباحثات مع الرئيس القبرصي اليوناني غلافكوس كليريديس والرئيس القبرصي التركي رؤوف دنكطاش. وربما كان القبارصة الاتراك غيّروا موقفهم، ولكن السبب هو الاتحاد الأوروبي، فهذا دعا قبرص الى التفاوض للانضمام الى الاتحاد، وأخّر النظر في طلب تركيا، وهكذا اصبح القبارصة الاتراك مدعوين عبر الحكومة القبرصية اليونانية المعترف بها وحدها، في حين ان بلدهم الأم مستبعد، ما أدى فوراً الى تشدد الموقف التركي. الجيش التركي له انجاز واحد في العقود الأخيرة هو تدخله لحماية الأقلية القبرصية التركية سنة 1974. اما ما عدا ذلك فهو نصّب نفسه حكومة فوق كل حكومة تركية، وقام بانقلابات عسكرية ثلاثة ضد حكومات منتخبة، وهو بحجة حماية الدولة العلمانية التي اسسها كمال أتاتورك قبل 75 سنة، يحارب الدين الاسلامي في بلد 99.98 في المئة من سكانه مسلمون، ويمنع ارتداء الجبة والعمة، والصلاة في الثكنات. ويشن هذا الجيش منذ سنوات حرباً قاسية على الانفصاليين الاكراد في جنوب شرقي البلاد، وهو يربح معارك ويخسر الناس باستمرار، ويبدو انه عاجز عن التصرف بعقل أو صبر، وخارج مظاهر القوة المجردة. وقد اعتبر هذا الجيش اعتقال شمدين صاقيق، المنشق عن عبدالله اوجلان وحزب العمال الكردستاني انتصاراً، مع ان مراقبين كثيرين يقولون انه لو انتظر الجيش التركي قليلاً، لربما كان صاقيق استطاع ان يؤسس حركة واسعة القاعدة تضعف أوجلان وحزبه، وربما كان الجيش التركي استطاع التعاون معه ضد أوجلان بعد ذلك. ولكن عسكر تركيا يتمتعون بحماية قوية في الولاياتالمتحدة لأسباب عدة، أهمها حلفهم غير المعلن مع اسرائيل، وهي حماية "تغطي السموات بالقبوات" وقت الحاجة، فقد وُجد من انتقد الاتحاد الأوروبي لاستبعاده تركيا، مع ان وضع تركيا لا يسمح لها بالانضمام إطلاقاً، فهي تعاني من تضخم نسبته السنوية 97 الى 99 في المئة. وهناك اعتداء على الحريات العامة، وحقوق الانسان، وحرب معلنة على أقلية كبيرة داخل البلد، وكل من هذه الاسباب يكفي وحده لبقاء تركيا خارج الاتحاد الأوروبي، بغض النظر عن وضع القبارصة الأتراك. غير ان الانتقاد الاميركي الى القبارصة الأتراك، وتركيا بالتبعية، يأتي في النقطة الوحيدة التي نجد الحق فيها الى جانبهم، فإعادة توحيد الجزيرة، في ظل الظروف الحالية، تعني تبعيتهم مرة اخرى للقبارصة اليونانيين، وهؤلاء لم يخفوا يوماً رغبتهم في الانضمام الى اليونان وقد كان وراء سقوط الكولونيل جورج بابادوبولس في أثينا محاولة انقلابية فاشلة في نيقوسيا لضم الجزيرة الى اليونان. غير ان هولبروك ليس معنياً بمخاوف القبارصة الاتراك، وهي حقيقية، وانما يوجه اليهم اصبع الاتهام، وينسى ان استقلال قبرص الموقع سنة 1960 يجعل الدول الثلاث، بريطانياوتركيا واليونان، ضامنة لدولة تعددية رفضها القبارصة اليونانيون خلال ثلاث سنوات فقط. والعرب تعاطفوا دائماً مع اليونان ضد تركيا، بسبب العسكر التركي المعادي لكل مظاهر الاسلام والمتحالف مع اسرائيل. الا ان هذا التعاطف يجب ان يتوقف عند حدود قبرص، فهناك أقلية تركية تستحق الدعم والحماية، لأن الغالبية اليونانية لم تعاملها بعدل في الماضي، والأرجح الا تعاملها بعدل اذا عادت للإمساك بزمام الأمور في الجزيرة كلها في المستقبل. ومع ذلك، يغض الاميركيون النظر عن مئة تجاوز عسكري تركي، ثم ينتقدون انجازهم الوحيد.