كانت "اللازمة" في تعليقات وسائل الاعلام الاسرائيلية كافة على أحداث الاسبوعين الماضيين هي تأكيد وحدة الاسرائيليين في مواجهة أعمال العنف. غير ان الاسرائيليين غير موحدين، فهناك غالبية علمانية وأقلية كبيرة دينية، وداخل كل من هذين الفريقين هناك معتدلون ومتطرفون، وهؤلاء من الاختلاف ان التعاون بينهم مستحيل، ناهيك عن توقع تعاونهم مع المتطرفين من الجانب الآخر. ومثل واحد يكفي، ففيما كان رئيس الوزراء ايهود باراك يتحدث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة طوارئ، قرأنا هذين التعليقين: - رئيس حزب ميريتز اليساري يوسي ساريد قال: لدينا مشكلة هي ان نوجد في حكومة واحدة مع شارون رئيس ليكود. ان مشاركته في مثل هذه الحكومة تجعلها مصابة بالبرص. - رئيس الفريق الديني الوطني بني ألون قال: حكومة طوارئ؟ هناك شرط واحد هو ان يعين شارون وزيراً للدفاع، وان الوزير بيلين وزير العدل، أبا أوسلو والانسحاب من لبنان، يعتزل الحياة العامة فوراً. وقال شارون نفسه انه: في كل مرة يريد باراك ان يضغط على حلفائه يزعم انه يتفاوض معي. لقد شكوت له من ترويجه اشاعات عن هذا التفاوض. ربما كان وراء تمديد باراك الانذار للرئيس عرفات لوقف أعمال العنف ادراكه انه لن يستطيع ان يجمع الأضداد في حكومته، وهو اذا كان فشل في ابقاء تماسك الحكومة وهي تضم شاس واسرائيل بعاليا والحزب الوطني الديني، فلن ينجح بحكومة تضم ليكود وبقية الاحزاب الروسية والدينية واليسارية العلمانية، من نوع ميريتز وشينوي. ولم يقل باراك انه مدد الانذار لعجزه عن تشكيل حكومة طوارئ، وانما برر موقفه بضغط الموقف الدولي، والاتصالات التي تلقاها من قادة العالم، بمن فيهم الرئيس كلينتون، ووجود وسطاء دوليين اساسيين في المنطقة، مثل وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف والأمين العام للامم المتحدة كوفي انان. والضغط الدولي موجود فعلاً، الا ان المهم فيه انه ضغط على اسرائيل لا السلطة الوطنية الفلسطينية، فبعد قمة كامب ديفيد وجد أبو عمار نفسه متهماً بعدم المرونة، في مقابل "التنازلات غير المسبوقة" التي عرضها عليه باراك. وهو قام بعد تلك القمة بجولة دولية فاشلة، فدول العالم كافة نصحته بعدم اعلان الدولة من طرف واحد، وباعطاء المفاوضات فرصة اخرى. اليوم انقلب الوضع، ودول العالم كله تنصح باراك بعدم طي صفحة المفاوضات، فقد أصبحت اسرائيل هي المتهمة بالتصعيد، وبالرد على الحجارة بطائرات الهليكوبتر المسلحة والصواريخ. ولعل الرئيس جاك شيراك عبر عن رأي الأسرة الدولية كلها عندما قال لباراك انه لن يقنع أحداً في العالم بصواب موقفه اذا استمر جيشه في اطلاق الصواريخ من طائرات هليكوبتر على ناس سلاحهم الحجارة. والضغط الدولي من هذا النوع هو الذي جعل باراك يعيد النظر في النهاية من موقفه ازاء عقد قمة مع الرئيس الفلسطيني قبل وقف اعمال العنف، كما كان مصراً في البداية. ويبدو اليوم ان الأمل الوحيد للخروج من دوامة العنف هو قمة في شرم الشيخ بحضور الرئيسين مبارك وكلينتون ايضاً. وكتب اوديد غرانوت في "معاريف" امس ان الرئيس مبارك هو "نور الأمل الوحيد في الوقت الحاضر"، الا ان كل النوايا الحسنة والقدرات المعروفة عن الرئيس مبارك، والرئيس كلينتون، قد لا تكفي للخروج بحل سياسي، فرئيس وزراء اسرائيل يتهم الرئيس الفلسطيني بأنه اطلق موجة العنف الأخيرة عمداً، ولكن اذا كان هذا صحيحاً فكيف يفسر باراك العنف بين اليهود والفلسطينيين داخل اسرائيل؟ الواقع ان باراك نفسه اطلق أعمال العنف عندما لم يترك للفلسطينيين املاً باتفاق عن طريق المفاوضات، وهو يراوغ ويماطل ويرفض تنفيذ اتفاقات موقعة، ثم يدبر حملة اعلامية - اعلانية ليبدو أبو عمار في موقف المتطرف الرافض حلولاً "معقولة" عرضت عليه. باراك يظل أفضل من بنيامين نتانياهو، وهذا ليس صعباً فسلوبودان ميلوشيفيتش أفضل من نتانياهو، ومع ذلك فإذا لم يستطع الفلسطينيون الاتفاق مع باراك فإن البديل منه هو نتانياهو أو مجرم الحرب أريل شارون. ونتانياهو عبر عن احقاد البديل وعنصريته وتطرفه في مقال له في "يديعوت احرونوت" زعم فيه ان وجود اسرائيل في خطر، واقترح: أولاً ان ترد اسرائيل بشدة على العنف العربي، كأن باراك يرمي المتظاهرين بأطباق الورد، وثانياً الا تتفاوض اسرائيل تحت تهديد العنف، وثالثاً خفض توقعات العرب جغرافياً ونفسياً. وفي حين دعا نتانياهو الى ان يقوم السلام مع "الانظمة الدكتاتورية العربية" على قوة الردع، اي ان تبقى اسرائيل وحدها أقوى من العرب مجتمعين، فإن أهم ما في المقال ربما كان شيئاً لم يقله، فنتانياهو لم يذكر فلسطين أو الفلسطينيين مرة واحدة بالاسم في مقاله، وانما تحدث عن العرب، كأن طائرات الهليكوبتر المسلحة تطلق صواريخها على مغاربة أو سودانيين أو يمنيين. وهذا يعني ان تنتهي رحلة أوسلو كلها الى عدم اعتراف متبادل، فالاسرائيليون يقولون انه لم يكن يوجد فلسطينيون عندما أقاموا دولتهم، والفلسطينيون يطالبون بتدمير اسرائيل واقامة دولتهم على كامل التراب الفلسطيني. والطلوع بحل سلمي من وسط هذا التطرف يتطلب معجزة ذات أبعاد توراتية بعد ان ولى زمن المعجزات.