بعد دير ياسين، القرية الفلسطينية بجوار القدس، إلى الغرب منها، الطنطورة، البلدة الفلسطينية الساحلية، إلى الجنوب من حيفا. وبعد مجزرة الأولى، فجر 9 نيسان أبريل 1948، وهي أودت بمئة وعشرين قتيلاً من ستمئة وعشرة أشخاص أو نسمة كانت تعدهم قبل أربع سنوات من المجزرة، مجزرة الثانية، ويبدو أنها أودت بنحو مئتين من أهلها البالغ عددهم، يومها، ليل 15 أيار مايو 1948، 1490 عربياً إحصاء 1944/1945 كذلك. وآحاد أو عشرات من اليهود ربما. ولعل ما يجمع بين المجزرتين - إلى وقوعهما عن يد قوات إسرائيلية، "منشقة" على ما يصف "تاريخ الهاغاناه" العسكري جماعة "شتيرن"، أو نظامية، في السنة المشهودة، 1948 - إذاعة روايتهما عن رواة إسرائىليين، مؤرخين أو عسكريين. وعندما يتصدى إلياس صنبر، الديبلوماسي والصحافي الفلسطيني بالفرنسية، في 1984، لرواية مَقْتلة دير ياسين "الأنموذجية"، ويستشهد الشهود، من تراه يستشهد؟ مئير فيليبسكي، المعروف بالكولونيل مئير بايل، الذي ينقل عن شهادة كتبها قبل أربعة وعشرين عاماً، ونشرتها الصحيفة العبرية الاسرائىلية "يديعوت أحرونوت" في 4 و29 نيسان 1972. وكان يهودا سلوتسكي، المؤرخ الإسرائىلي، كتب في "تاريخ الهاغاناه"، المجلد الثالث، الجزء الثاني، الصادر عن دار عام عوفيد، تل أبيب، 1972 وهو عينه، في العربية، "حرب فلسطين، 1947-1948"، من مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت، 1984، ان "المنشقين" قتلوا الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يميزوا جماعة من جماعة، فبلغ عدد قتلاهم 245 ضحية" وأركب المهاجمون القتلة "أسراهم" والتحفظ من سلوتسكي "سيارات وطافوا بهم شوارع القدس في موكب نصر حيته الجماهير اليهودية بالهتاف". وحين كتب وليد الخالدي كتابه المصور، "قبل الشتات / التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948" مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1987، لم يعدُ استرجاع الرواية الإسرائيلية "الرسمية". ولم يزد كتابه "كي لا ننسى"، بعد عقد من السنين، على الرواية، أي على الشاهد، شيئاً. وفي الأثناء كان الباحثون، "الإسرائىليون والفلسطينيون"، على قول الوكالات الصحف في 20 كانون الثاني/ يناير 2000، تواضعوا على تقدير الضحايا بمئة وعشرين، وتركوا تقدير عددهم السابق، على رغم وروده في التاريخ العسكري الإسرائيلي، وقبول المؤرخين "الرسميين" به. ولم يحاول المؤرخون هؤلاء التقليل من الرقم المتداول الكبير، ورضي المؤرخون الفلسطينيون به، وربما كان السبب في قبولهم إياه ارتفاعه وإدانته، تالياً، مرتكبيه. واليوم، يذهب طالب تاريخ إسرائيلي، يدعى تيدي كاتس، في رسالة جامعية، إلى ان جنوداً إسرائيليين قتلوا من أهل بلدة الطنطورة، وهي بلدة قياساً على دير ياسين القرية، مئتي رجل فلسطيني. وهذا، أي المقتلة، ما لم يكن ليحدس فيه مجرد حدس المؤرخون الفلسطينيون. فتقتصر رواية وليد الخالدي في كتابه "كي لا ننسى" 1997، على ما مر على شاهد من مؤرخ إسرائيلي "جديد"، بِنِّي موريس، يذهب إلى أن كتيبة من "لواء ألكسندروني" هاجمت البلدة، في 22 إلى 23 أيار 1948، فسقطت بعد مقاومة ضعيفة. وعلى رغم خبر "نيويورك تايمز"، في 24 أيار، عن وقوع مئات من السكان الفلسطينيين أسرى بين أيدي المهاجمين، اقتصر رأي المؤرخ الإسرائىلي على أن "بعض هؤلاء السكان على الأقل طردوا". وكان تاريخ الجيش الإسرائىلي وصف مهمة "لواء ألكسندروني" وصفاً ميدانياً وحربياً ينبىء بمعركة. فبعض هذه المهمة السيطرة على سكة حديد إلى الخضيرة، ولا يتأتى هذا إلا بالإستيلاء على الطنطورة والفريديس. ويشير هذا التأريخ إلى مضايقة "العرب" حركة المواصلات "العبرية" على الطريق الساحلي، فاضطرت القوات المسلحة إلى ترك طريق تل أبيب إلى حيفا إلى طريق أخرى تمر بوادي المَلَك. وتقع الطنطورة برأس طريق وادي الملك. ولم تستول القوات الإسرائىلية على قريتي صرفند وكفرلام، بين الطنطورة وعتليت، إلا بمساندة الوحدات البحرية. وهذه القرى والبلدات تتصل ب"المثلث الصغير" عين غزال وجبع وإجزم، معقل مقاومة شديدة استمرت إلى تموز يوليو، وكان للقوات العراقية في "المثلث الكبير" طولكرم ونابلس وجنين سهم فيها. ولم يشك الباحثون والمؤرخون والإخباريون والرواة الفلسطينيون في مصير الطنطوريين - ويمر ظل امرأة طنطورية في رواية إميل حبيبي الأولى - ولا حسبوا أن مصير بعضهم كان غير "الإجلاء" وهو وسم كتاب الياس صنبر أو الطرد. وهم على هذا إلى حين تصدي تيدي كاتس إلى تحقيق بعض روايات الإجلاء، وسؤاله جنوداً قاتلوا في الموقع وأهالي فلسطينيين أجلوا بالقوة وطردوا. وينسب المؤرخ إلى "كتب فلسطينية قليلة" تدوينها خبر المجزرة. ولكن بعض الكتب الفلسطينية الأخيرة، ومرَّ بعضها، لا تبدو على علم، قليل أو كثير، بالأمر. فهي تقنع بما يعلمه، عن تحقيق أو عن غير تحقيق مثل عدد ضحايا دير ياسين، بعض المؤرخين والباحثين الإسرائىليين. ولا يعقل أن يقنع الباحثون والمؤرخون والصحافيون الفلسطينيون، وبعض العرب من غير الفلسطينيين، بما سبقهم إلى نقده أو تحقيقه من مصادره الأولى، "زملاؤهم" الإسرائىليون. وإذا كان العقيد الكولونيل المتقاعد بينتس بريدان، قائد الكتيبة التي هاجمت الطنطورة قبل نيف ونصف قرن، ومثله شلومو أمبر، أحد جنود الكتيبة يومها، بمنأى من استجواب المؤرخين الفلسطينيين، فليست هذه حال فوزي الطنجي، الطنطوري واللاجىء إلى مخيم في الضفة الغربية منذ اثنين وخمسين عاماً. واليوم، وقد بلغ الطنجي الثالثة والسبعين، تعثر إحدى وكالات الأخبار عليه في مخيمه، وتسأله عما رأى وشهد. فيروي كيف اقتاد الجنود عشرة من أهل البلدة، وقتلوهم بإزاء سور المقبرة. ويروي انتظاره الموت، وتسليمه بالأمر إلى حين مجيء "يهودي من مستوطنة ريشون ياكوف وتهديده الكتيبة بقتل نفسه إذا لم يوقف الجنود أعمال الإعدام". وإلى الرجل الذي يروي اليوم ما كان عليه شاهداً قبل نيف ونصف قرن، ثمة ألف وثلاثمئة لم يقضوا في المقتلة، نصفهم كان في سن الرواية والخبر والنقل. وهؤلاء ولدوا أولاداً، وأخبروهم خبر ما جرى لإخوتهم وبني عمومتهم وآبائهم وأعمامهم، المئتين القتلى. ولا ريب في ان الخبر ذاع وانتشر في الجهات التي هاجر إليها الطنطوريون ولجأوا. ولم ينته الخبر، على رغم هذا، إلى أسماع "باحثين" فلسطينيين دأبهم بعث "الذاكرة" وصونها وإسناد الهوية العميقة والمديدة إليها. وقد يكون هذا، أي شهود المقتلة وحفظ وقائعها وروايتها وتناقلها وإذاعتها، قد يكون افتراضاً غير صحيح ولا قائم. فربما لم يَرَ الشهود إلا جزءاً يسيراً مما جرى، وحملوه على جواب مقاومتهم التي قتلت خمسة عشر جندياً إسرائىلياً" وربما بعثرت الهجرة التي قسروا عليها، وشتتتهم وفرقتهم، الرواية، وجعلت جمعها وتحقيقها محالين وممتنعين" وربما أراد المهجَّرون نسيان ابتداء رحلتهم، وتقطع الطرق والسبل بهم، فعللوا بتقطع السبل صمت من لم تبلغهم أخبارهم منذ تركهم "المثلث أو ربى صفد"، على قول يوسف الخطيب القديم، من غير ان يخبئوا "بين الجناح وخفقة الكبد" "قشة" أو "مزقة سوسن". وهذا جائز، على نحو جواز صمم "المؤرخين" الفلسطينيين عن سماع روايات المنفيين، وإحجامهم عن العناية بتعقبها وجمعها، وعلى قدر هذا الجواز. ولكن إخفاق المثقفين الفلسطينيين حيث أفلح بعض الفلاح باحثون إسرائىليون، ينبه إلى وجوه أخرى من المسألة لا يختصرها الإحتمالان المتقدمان، ولا تعللها "قوة" الإعلام الإسرائىلي المفترضة والحقيقية. والمقارنة بين الوقائع الفلسطينية المنسية والمهملة وبين وقائع عربية معاصرة، في أكثر من بلد عربي واحد، تقود إلى احتمالات وافتراضات أخرى. ومن الوقائع المعاصرة الحوادث الجزائرية، وقبلها الحوادث اللبنانية والعراقية والسورية والفلسطينية، وبعدها حوادث يمنية ومصرية وليبية وسودانية. فرواية هذه الحوادث، على اختلافها، تنزع إلى تخليطٍ على نحو يستحيل معه تخليص معنى أو ضبط سياقة. والتذكر تأليف وتركيب، شأن النظر والسمع والشهود و"إدراك الشيء حيث هو"، على ما كان يحسب بعض المتكلمين. وعليه، فليس التذكر انبعاث الحوادث المحض من سباتها ورقدتها "في" الماضي، وحضورها اليومَ مؤرخة ورافلة في حلة الوقائع الثابتة والمحكمة. بل إن الآتي، وأهومته ومخاوفه وأحلامه ومقاصده، يغشى الوقائع، وينيخ عليها بثقله، ويصورها في صور بينها وبين "لحم" هذه الوقائع العاري ما بين الإنسان الحي وبين مادته و"جرمه" من استعادة وتضمين وتحوير تمثيل وبناء. وإذا اقتصر الواحد على أخبار حوادث الكشح المصرية، وهي البلدة المصرية الصعيدية التي شهدت في صيف 1998، ثم في اليوم الثاني من كانون الثاني 2000، حوادث أودت بضحايا لم يحصوا بعد إحصاءً جامعاً، امتنع إيكال رواية متماسكة، ولو على مثال تماسك الرواية الخرافية، إلى التذكر، ومن بعده إلى التأريخ. ويعود الإمتناع إلى وقوع الحادثة نفسها، وإلى ما جوَّز وقوعها وجعله ممكناً. وتدل "وقائع" الحادثة، أي رواياتها المتناقضة، الرسمية والقبطية والإسلامية وكل واحدة روايات، على صدور نواتها الثابتة، وهي الضحايا وعددهم وتعريفهم ومواضع قتلهم ووقته وحال جثثهم والتمثيل فيها، عن إرادة تقويض جامحة لأركان العلاقة الإجتماعية الأساس. ومثل هذه الإرادة لا تروي، إذا روت، إلا مسوغها الضروري، أي ما تزعمه ضرورة واضطراراً، وتنشئه على مثالات محفوظة ومتوارثة. ومن تقع عليهم هذه الإرادة، ويقع عليهم فعلها المدمر والمميت، من العسير عليهم ضبط مصابهم على رواية إذا لم يتناول الحوادث هذه "ترجمان" يتولى ترتيبها على مراتب العدل والظلم والأمر والنهي والحسن والقبح. فهذا الترجمان يرعى تداول الحوادث بين أهل المجتمع الواحد، ويسلك تراويها وتناقلها وتداولها في هيئات اجتماعية مشتركة. ويُخرج التداول والسَّلك الحوادث من وقوعها المحض والمجرد، ويدرجها في زمن إنساني يستعيدها، ويرد بعضها على بعض، ويقرن بعضها ببعض. ولكن التداول والسَّلك يفترضان، من وجه آخر، أمرين: الأول ألا يجمد أهل المجتمع الذي يقع فيه المصاب على دور وحال "طبيعيَّين"، أو مقسومين، يتلقونهما بالقبول على نحو تلقيهم الكوارث الطبيعية، ويدخلون المصاب أو القتل الظالم في سلسلة الزلازل والأعاصير وسني الجفاف التي لا راد لها، ولا علة لها، اللهم ربما تكاثر الآثام التي اقترفوها واستجرارها عقاباً مستحقاً وعادلاً" والثاني أن يقبل الأهل، ولو على مضض شديد، تفرقهم "أحزاباً" مختلفة، فبعضهم قاوم، وبعضهم أذعن، وبعضهم هرب، وبعضهم تعاون مع المحتل، وبعضهم أرجأ العمل، وبعضهم توسل ببعضهم الآخر في سبيل منفعة أو سلطة، وبعضهم كان بوجهين... ولعل تحجر الجماعات العربية عموماً، والفلسطينية خصوصاً، على طلب مثال واحد ومتماسك لما فعلته في ماضٍ عاثر، ولما تفعله في حاضر ليس أقل عثاراً أي تحمله هي على العثرة، يجعل عسيراً عليها تناول حوادث الماضي بالرواية والخبر والتأريخ. فهي تعول على تصوير حالها في صورة ضحية محض لأجل تسويغ ما حلَّ بها من نكبات وكوارث، لا فرق فيها بين النكبة والأخرى، أو بين النكبة الكبرى الخمسة عشر ألف قتيل وقتيلة الذين يحصيهم عارف العارف في 1948 والنكبات المحلية والصغرى. أو هي توحد نفسها في فعل مقاومة باسلة لم يؤد إلا إلى موت طوعي، والسلاح باليد. والترجح بين الحالين المفترضتين، والإنحياز إلى حال واحدة، يحملان على ترك استجواب الحوادث واستقرائها، بل على ترك استنطاقها. ويحمل الترجح والإنحياز على الإسراع إلى نصب المعاني العظيمة أنصاباً ومزارات يُحج إليها، وعتبات يتمسح بها، وأضرحة مقدسة يُتبرك بها وتوسَّط في توحيد الجماعة والأهل. وقد يجدد بعض المثقفين الفلسطينيين الوصف والتعليل. فيذهبون إلى أن "النكبة" نجمت عن المجابهة بين "مجتمع متقدم"، أوروبي، وبين "مجتمع متأخر"، عربي، فكانت هزيمة الثاني حتماً. ويذهب آخرون إلى تحميل مقالات السيطرة الغربية التبعة عن ضعف ذاكرة المغلوب، وعن ضعف هويته ومبادرته تالياً. والتعليلان ذريعة إلى دوام حال الغلبة والتنديد الخلقي أو التقدمي بها، أو إلى البحث عن موارد مقاومة وتصدٍ وغلبة في هوية عميقة تتعالى على التاريخ وعلله المفهومة والمعقولة وفي هذا المعرض ينبغي تذكر تعظيم "الغيب" وشيوعه في المقالات الخمينية وأمثالها، قبل عقدين، وطوال عقد لم يستنفد أصداء هذا التعظيم المتمادية. وقد يكون إقدام مؤرخين وصحافيين وسياسيين ومثقفين وناشطين إسرائىليين على جلاء حوادث معتمة من ماضي دولتهم ومجتمعهم، وقد أمنوا عليهما وعلى قوتهما على خلاف مذهب خطباء حزب اللهيين، وجهاً من وجوه إرساء القوة على شرعية عامة ومشتركة لا يستثنى منها المغلوبون، وينبغي ألا يستثنوا منها. والإنكار، إنكار المجازر والقتل العمد خارج ميدان القتال على ما جرى في بعض أسرى سيناء المصريين في 1956، يخرج المغلوبين من الإشتراك في الدولة الواحدة والمتماسكة، وهي "الترجمان" الذي مر الكلام عليه. وإنكار جماعاتنا و"دولنا" حوادث تاريخها، ومماشاة المثقفين هذا الإنكار ونأيهم بأنفسهم من رواية الحوادث المختلطة، من القرائن على استغناء عن اشتراك الجماعات كلها في دائرة عامة، سياسية واجتماعية وثقافية، واحدة. * كاتب لبناني.