استمرار الوضع الراهن في العراق بقي سيد الساحة في اعتبارات مختلف اللاعبين المعنيين، على اختلاف حوافزهم ومقاصدهم، بغض النظر عن الانتصارات والهزائم الصغيرة على هامش معركة اختيار الرئيس التنفيذي للجنة المراقبة والتحقيق والتفتيش "انموفيك" التي تخلف اللجنة المكلفة إزالة الأسلحة العراقية المحظورة أونسكوم. والملفت ان حسابات انتخابية لأكثر من طرف وفي أكثر من ساحة اقتحمت الملف العراقي في الأممالمتحدة معظمها في اتجاه التملص منه أو تحييده حتى اشعار آخر. فلا أحد في عجلة، وليس هناك من يعير التفاصيل صفة الالحاح. والقاسم المشترك بين الأكثرية الساحقة المعنية بالملف العراقي هو الرغبة في تجنبه في هذه المرحلة وكأنه البطاطا الساخنة التي يتراشقها كل لاعب بخفة وخفاء ليتملص من حروق ليس مضطراً إليها. والأمر لا يزعج بغداد طالما ان الوضع الراهن يعفيها من الضغوط الدولية وطالما النظام في أمان. فالإثارة في الجولة الراهنة مجرد تفاصيل عابرة في عام المرحلة الانتقالية. بعض هذه الإثارة نتج عن تقدم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، بترشيح الرئيس التنفيذي السابق للجنة "اونسكوم" رئيساً للجنة "انموفيك" التي هي وليدة القرار الأخير 1284، الشاهد على وفاة "اونسكوم" الرسمية. أثار اسم المرشح في حد ذاته زوبعة بسبب ارتباط رالف اكيوس بملف نزع الأسلحة المحظورة في العراق، لستة سنوات، منذ انشاء لجنة "اونسكوم" إلى حين ورثها عنه ريتشارد بتلر وقادها إلى تفككها. القرار 1284 كلف الأمين العام ترشيح شخصية لتترأس "انموفيك"، وأعطى مجلس الأمن سلطة غير اعتيادية عبر وضع ترشيح الأمين العام رهن مصادقة المجلس عليه. وحدد القرار فترة 30 يوماً لكوفي أنان، كي يتقدم بمرشح، انتهت الأحد الماضي. وللتذكير، فإن القرار 1284 حصل على دعم 11 دولة وامتنعت ثلاث دول دائمة العضوية عن التصويت عليه وهي، روسياوفرنسا والصين، إلى جانب ماليزيا وهي عضو مُنتَخب. وكانت ولادة القرار استغرقت حوالى السنة عندما طرحت بريطانيا وهولندا مشروع قرارهما الذي وضع شروط وظروف "تعليق" العقوبات المفروضة على العراق، ثم تطور المشروع ليُعرف ب"اومنيبوس" نظراً إلى شموليته واحتوائه انشاء لجنة "انموفيك" خليفة للجنة "اونسكوم"، وأصبح حاملاً الرقم 1284 لدى تبنيه في المجلس. فهو وليدة الانقسام والمفاوضات المريرة، وهو قرار مليء بالثغرات التي تفسح المجال إما للتعطيل والمناورة أو للاستفادة من "الغموض البنّاء". الحكومة العراقية رفضت التعاطي مع القرار، في مراحل صياغته وبعد تبنيه، واعتبرته رقماً مجهولاً لا علاقة لها به رسمياً. إلا أن بغداد أطلقت إشارات تفيد بأنها في انتظار الرسالة السياسية من نيويورك، خصوصاً من بريطانياوالولاياتالمتحدة، عبر الشخصية المختارة لترأس لجنة "انموفيك". وعلقت على اختيار الشخصية أهمية الدلالات السياسية لجهة المواجهة أو ترغيب الحكومة العراقية بالتعاون مع القرار. أولى ملامح الرسالة السياسية الأميركية والبريطانية تجسدت في اعتبار باسي باتوكاليو الشخصية المفضلة والمرشح المقبول. باتوكاليو سبق وطُرح اسمه لدى استقالة اكيوس من منصب الرئيس التنفيذي للجنة "اونسكوم"، لكنه واجه الاعتراض، وفضل ريتشارد بتلر عنه، إلا أن وجود باتوكاليو الآن سفيراً لفنلندا لدى إسرائيل جعله مرفوضاً قطعاً لدى العراق بسبب الإرث والانطباع الذي يحمله كسفير لدى إسرائيل يتوجه إلى العراق لنزع سلاحه ومراقبته. قد لا يكون هذا الاختيار أساسياً في الحسابات البريطانية، مثلاً، ولكنه حتماً أساسي في الاعتبارات العراقية. فإما ان العنصر الإسرائيلي في خلفية باتوكاليو كان أصلاً استفزازي الهدف، إلا أنه كان بريئاً بسبب سطحية القراءة السياسية لبغداد التي اغفلت مثل هذا الجانب الرئيسي. المهم ان "ظاهرية" باتوكاليو انطوت على رسالة سياسية غير تلك التي تمنتها بغداد. ثم جاءت المعارضة الأميركية، ومعها البريطانية، للمرشح المفضل لدى الدول الثلاث الأخرى دائمة العضوية في المجلس، روسياوفرنسا والصين، سفير البرازيل السابق لدى الأممالمتحدة والحالي في جنيف، ساسو اموريم الذي ترأس لجان تقويم العلاقة بين العراقوالأممالمتحدة، وتقدم بتوصيات ومقترحات كان بعضها أساس القرار 1284. فبغداد لمحت إلى أنها قد تعيد النظر في موقفها من القرار 1284 عبر الاستعداد للنظر في التعاون مع اموريم إذا أوكلت إليه مهمات رئاسة "انموفيك". وشكل الرفض الأميركي - البريطاني له رسالة سياسية أخرى إلى بغداد فحواها ان رسائلها مفروضة. أكثر من 25 اسماً طُرح بصورة أو بأخرى على قائمة الترشيحات ولم يحصل واحد منها على توافق الدول الخمس. والأكثرية الساحقة لاقت المعارضة الأميركية والبريطانية. الاسم - المفاجأة الذي تقدم به كوفي أنان هو رالف اكيوس وخلفية طرح اسمه قابلة للتفسيرات والتكهنات. فالبعض يعتقد أنه كان منذ البداية المرشح السري المفضل لدى واشنطن ويستشهد بمسارعة الناطق باسم الخارجية الأميركي جيمس روبن إلى الترحيب بترشيح كوفي أنان له، كذلك تصديق المجلس على الترشيح، وتبعتها الرسالتان الفرنسية والصينية، ثم رسالة تونس، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن. والبعض الآخر يعتقد ان كوفي أنان وجد حقاً في اكيوس مرشح الحل الوسط، بين باتوكاليو المدعوم أميركياً وبريطانياً وبين اموريم المدعوم روسياً وفرنسياً وصينياً. شرح أنان للجميع ، ولأكثر من أسبوع، ان اكيوس مرشحه المفضل، لأنه يجد فيه ما يلزم من الخبرة، والمهنة، والنزاهة والاطلاع على الملف، والعلاقة الشخصية المتينة والثقة بقدرته على تصحيح ما خلفه ريتشارد بتلر وإتمام الملف العراقي بما يعيد للأمم المتحدة الصدقية والهيبة. الملفت ليس منطق ترشيح أنان لأكيوس، وإنما قفزه على وضوح التحفظ الروسي والفرنسي والصين عن اكيوس ليس بسبب الاعتراض على الشخص، وإنما بسبب الاعتراض على الرمز. فقد أبلغت الديبلوماسية الروسية على مستوى وزير الخارجية والسفير لدى الأممالمتحدة عدم موافقتها على ترشيح اكيوس انطلاقاً من اقتناعها بأنه، كرمز للجنة "اونسكوم"، لن يُرحب به في العراق، ولن ينقل القرار 1284 إلى خانة التنفيذ بسبب المعارضة العراقية القاطعة له. كذلك أوضحت الديبلوماسية الفرنسية لأنان تحفظها، وإن كان باللغة الديبلوماسية الفرنسية المعهودة المغلفة بمثل القول إن فرنسا "غير متحمسة" لمثل هذا الترشيح. أما الديبلوماسية الصينية، فإنها فعلت ما تفعله دائماً بقولها "إنها لا تعارض اكيوس كشخص لكن موافقتها عليه تبقى رهن موافقة الآخرين" وهي عالمة بالموقف الروسي منه. فلماذا قرر كوفي أنان التقدم رسمياً باسم اكيوس على رغم مواقف الدول الثلاث؟ قد تكون ذلك بسبب قراءة خاطئة لمواقف الدول الثلاث، مفترضاً ان تحفظها لن يتطور إلى معارضة مسجلة في رسائل رسمية، إذا واجهت ترشيحاً رسمياً يتقدم به الأمين العام، وبذلك يكون أنان غامر وأخذ بنصائح سيئة. وقد يكون لأنه سئم محاولات التوفيق بين الدول الخمس وأصابه الاحباط، فقرر ان يرمي الكرة إلى مجلس الأمن ليكون مسؤولاً عن قراراته، وبذلك يكون كوفي أنان شريكاً في عملية تراشق "البطاطا الساخنة". وقد يكون أيضاً بسبب اقتناعه العميق بأن لا مرشح أفضل من اكيوس للعراق ذاته، انطلاقاً من نفوذ اكيوس لدى واشنطن وقدرته على الاستقلالية عنها نتيجة وزنه السياسي وسيرته المعروفة. وبما ان اكيوس على وشك التقاعد فقد يكون تقدير أنان أن هذا الرجل سيسرع في إكمال الملف العراقي بما هو في صالح الأممالمتحدة. وقد يكون مثل هذا الانجاز مهماً في الاعتبارات الانتخابية لطموحات أنان بولاية جديدة. وقد يكون العكس تماماً هو الصحيح في المعادلات الانتخابية ذاتها انطلاقاً من ان ترشيح اكيوس يبعث رسالة إلى الإدارة الأميركية، ولكل من يرغب بأن يرث البيت الأبيض، فحواها ان كوفي أنان ليس متساهلاً مع بغداد، كما أشاع البعض، وإنما يرشح اكيوس اثباتاً لعزمه على التشدد معها. فكوفي أنان لا يريد لنفسه مصيراً كذلك الذي لاقاه سلفه بطرس غالي، وهو يدرك دقة وهشاشة منصب الأمين العام في الاعتبارات الانتخابية في الولاياتالمتحدة الأميركية. قد تكون الاعتبارات الانتخابية أيضاً، جعلت روسيا تقرر أنها لن تتساهل في مسألة ترشيح اكيوس. فالرئيس الروسي الانتقالي فلاديمير بوتين يصر تكراراً على أولوية "احترام" روسيا واخذها في الاعتبار، ويريد الاستفادة من كل فرصة غير مكلفة جدياً للظهور بمظهر القوة والاعتبار. وليس صعباً الاستفادة من فرصة "تجاهل" كوفي أنان للموقف الروسي من اكيوس لاثبات الجدية في رفضه، لفرض الاعتبار والاحترام الضروريين لموسكو هذه الأيام. أما الاعتبارات الانتخابية الأميركية فهي في منتهى البساطة. إن الإدارة الأميركية ليست في وارد رفع موضوع العراق إلى مرتبة اهتماماتها الأساسية، وتريد أن يبقى هذا الملف على نار خافتة إلى حين الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل. إذ أن استمرار الوضع الراهن هو الأولوية الأميركية في الملف العراقي. وواشنطن لا تعير الملف أهمية إلا إذا اضطرت أو جُبرت إلى ذلك. إنها اليوم مضطرة للاهتمام بتفصيل تعيين رئيس للجنة "انموفيك" لكنها لن تجعل من المسألة قضية. اللاعبون الآخرون أقل اهتماماً. بريطانيا ارادت أكثر ما ارادت استصدار القرار 1284، ونجحت. وهي الآن في فترة "استراحة" إلى حين وضوح وسائل البحث الدقيق في تنفيذه. وفرنسا التي تود الخروج من الوضع الراهن في الملف العراقي تشعر بالاحباط والاخفاق بسبب المواقف الدولية والعراقية معاً، وهي مضطرة للتعايش مع الوضع الراهن. أما العراق فإن تعايشه مع الوضع الراهن ذو شقين، واحد يتعلق بمشيئة الحكومة العراقية وأولوية بقاء النظام في وضع راهن، سابق أو آت. والآخر يتعلق بالاضطراد غياب الاهتمام الحقيقي بتغيير الوضع الراهن. جيرة العراق في وارد التعايش مع الوضع الراهن، باستمرار العقوبات والنظام معاً، شرط عدم الخلط بين التعايش اضطراراً والتأهيل برغبة وبقرار. وما هذه الجولة في سيرة الملف العراقي إلا خطوة تأجيل أخرى، ما لم تبرز المفاجآت. فحصيلة الأمر ان أحداً من الفاعلين لا يريد حقاً انقاذ الشعب العراقي من وضعه اليوم.