النظام الطائفياللبناني في لبنان يفتح البلد، باستمرار، على الحرب الاهلية. وهكذا يبدو السلم، من منظور تاريخي، وبما في ذلك سلم "اتفاق الطائف"، بمثابة هدنة تطول أو تقصر. الطائفية هي مرض نقصان المناعة في الجسد اللبناني يجعله قابلاً للانفجار عند تحولات خارجية دراماتيكية بدل ان يكون قادراً على التكيّف معها. الاستنتاج البسيط من ذلك انه يجب الخلاص من الطائفية. هذا صحيح ولكنه ليس بالبساطة الموحى بها. فلقد شهد لبنان خلال الحرب محاولات لكسر نظام التعايش الطائفي. أرادت واحدة منها كسر "التعايش" من أجل ترجيح طائفة. وتناست الثانية تركيبتها الطائفية من اجل ان تعتبر خطابها الوطني قادراً، وحده، على الغاء الطوائف! ان أفضل نقد للصيغة الطائفية هو ذلك الذي قال "ان نفيين لا يساويان امة"، ولكن هذا النقد بقي فعالاً ذا صدقية حتى تبيّن انه يمكن لرغبة جامحة في "التأكيد" ان تتحوّل الى حرب أهلية. ولذلك كان لا بدّ ل"نظام الطائف" ان يعيد انتاج الطائفية بشروط جديدة قبل ان يعيش لبنان سجالاً حول التطبيق في اتجاه يكاد ينقلب، اليوم، الى سجال حول سوء التطبيق نفسه انما في الاتجاه المعاكس. ويمكن القول، بلا أي خوف من المبالغة، ان لبنان، اليوم، هو أكثر طائفية مما كان عليه بالامس. والمفارقة هي ان اداة استشعار هذا الواقع هي، بالضبط، كثرة التصريحات الداعية الى الغاء... الطائفية! ان أحد أبرز دروس ربع القرن الاخير هو ان درب الخروج من المأزق طويل ومتعرّج وصعب. الغاء الطائفية ليس قراراً. لكنه، ايضاً، ليس جموداً ينتظر ان تشفى النفوس التي تتنشّق، كل لحظة، هواء مذهبياً. ان البدء بالنفوس أو بالنصوص يهدد بأن يجعل اللبنانيين يكررون القصة الفلسفية للحمار بوريدون. إذ كان جائعاً وتردد أمام كومتي قش متماثلتين فقضى نحبه... جوعاً. لذلك لا مهرب من وضع تصور وخطة يعمل على النصوص والنفوس معاً في اتجاه التغليب التدريجي للانتماءات الأعلى على الأدنى ولو اقتضى الامر تعايشاً مرحلياً بين الانتماء الطائفي وما هو أرقى منه أو مختلف عنه. المهم في الامر هو ان تكون الدينامية دينامية خروج من الحلقة المفرغة. وبهذا المعنى كان الاقدام، اخيراً، على تشكيل المجلس الاقتصادي - الاجتماعي خطوة في الاتجاه المطلوب. صحيح انه استشاري فحسب، ولكن الاصح ان الاختيار يقوم على عوامل قطاعية، حديثة، تعيد "تقسيم" اللبنانيين بشكل مختلف عما يعتبرونه الانقسام الموروث. والمقدر لهذا المجلس ان يتدخل في النقاشات العامة من اجل اقتراح جدول أعمال يساعد في بلورة وعي يحول دون ان يرتد المواطن، بالسهولة نفسها، الى قوقعته الطائفية. وشاءت الصدف ان تتزامن الدعوة الى انتخابات مكتب المجلس مع تفاعلات أحداث الشمال اللبناني، وما كشفته من وجود تصدّع بنيوي في المجتمع. وبما ان هذا التصدّع استدعى، مثل العادة، فيضاً من التصريحات عن الوحدة الوطنية الراسخة، وتأكيداً على ان اللبنانيين امتلكوا تعويذة الخروج النهائي من الاقتتال، ودعوات الى التسريع في الغاء الطائفية السياسية، فإن املاً شاع بأن هناك من سيستفيد من مناسبة انتخابات المجلس حتى يكرّس الخطوة بالاتجاه الصحيح المتمثلة في انشائه. ... ولكن سرعان ما بدأ الحديث عن ضرورة احترام "الكوتا" الطائفية عند اختيار رئيس المجلس واعضاء مكتبه، ولم ينتبه دعاة الغاء الطائفية الميامين الى انهم "يطيّفون" المؤسسة الوليدة المتميزة، بالضبط، بانها خارج هذا المعيار، مبدئياً. وهكذا ثبت ان الانشداد الى أسفل، والى الوراء، أقوى من أي شيء آخر. ان هذه هي اضافتنا اللبنانية الى قصة حمار بوريدون الفلسفية: لا نضيّع وقتاً بالتردد أمام كومتي القشّ بل نبادر الى قتل الوقت بحفر قبرنا.