لا أحد يجهل مكانة عبدالرحمن ابن خلدون في تراثنا الإسلامي، وفي سلسلة المفكرين الكبار الذين برزوا في تاريخ العلم والثقافة، فهو من الذين يحق لهم الاعتزاز بأنهم اكتشفوا علماً جديداً لم يقلدوا فيه غيرهم، علم العمران وهو ما يعرض في الاجتماع الانساني من ظواهر تصل الى حد القوانين ومعرفة أسبابها وعللها. وبلغة ابن خلدون "ما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر" المقدمة، صفحة 287. فهو لا ينحصر في بيان ما حدث بل يعرفنا بما هو واقع ومنتظر أي للكشف عن حقيقة الصيرورة التاريخية، والشروط التي توجهها، والعوامل الفاعلة فيها. ومن محاسن هذا العلم عنده أنه يصلح ميزاناً لنقد الخبر التاريخي. عاش ابن خلدون في زمن حافل بالمتغيرات. فدولة الموحدين القوية في المغرب الأقصى انتهت، والمسلمون في الاندلس يستشعر الناظر إليهم بعلامات استيلاء الاسبان على بلادهم، وهجمات تيمور لنك تخرب المشرق الاسلامي. عند هذه المنعطفات التاريخية كتب ابن خلدون في أسباب التقدم وأسباب التحلل وعن قيام الدول وسقوطها، وعن تطور العلوم الاسلامية، وكل ما يتعلق بالعمران الانساني والقوانين التي تحكمه، ولكن هل اكتشف ابن خلدون كل هذا اكتشافاً وأبدعه إبداعاً؟ ألم يستفد ممن قبله أو ممن عاصره؟ ان العبقرية لا تعني الايجاد من لا شيء، فالثقافة الاسلامية التي نهل منها ابن خلدون ثقافة ثرة، متشعبة الجذور، عميقة الغور، وقد وصلت العلوم الاسلامية الى درجة متقدمة جداً. فابن خلدون نتاج هذه الثقافة ولم يأت من فراغ، ولكن إبداعه وعبقريته يكمنان في التنبه الى الشأن العمراني وقوانين التاريخ، وصاغ كل ذلك في نظرية متماسكة واضحة المعالم، والذين كتبوا قبله كتبوا نتفاً متفرقة لا يجمعها جامع، وبعضهم حوَّم حول الموضوع ولم يصل الى نظرية متماسكة. لا يذكر ابن خلدون مصادره أو ممن استفاد، ولكن القارئ الباحث في العلوم الاسلامية يجد تطابقاً بين آراء وأفكار ذكرها في المقدمة وبين مَنْ سبقوه من العلماء والمؤرخين والأدباء، فهل أخذ ابن خلدون منهم مباشرة أو كان توارد خواطر بسبب ثقافته الواسعة؟ لا نستطيع الجزم بأن ابن خلدون قرأ لهؤلاء جميعاً، ولكن الذي يترجح أو من المؤكد أنه استفاد من أسماء معينة لم يذكرها في مصادره. ومن هذا التشابه ما ذكره أبو حيان التوحيدي ت 414 هجرية صاحب الإمتاع والمؤانسة في وصف جيل العرب، وخصوصاً البدو، الذين لم تفسدهم الحضارة يقول: "وهذا لأنهم مع توحشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق، وهذا المعنى قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر، لأن الدناءة والكَيْس والهَيْن والخلابة والخداع والمكر تغلب على هؤلاء، لأن مدار أمرهم المعاملات السيئة" ص 282. ويقول ابن خلدون في المقدمة عن العرب وأنهم لا يحصل لهم الملك الا بصبغة دينية "والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً". ويقول أيضاً كلاماً مشابهاً تماماً لكلام التوحيدي عن الحضر: "أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ، وعوائد الترف، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق". ويتابع كلامه عن الحضر عندما تكثر عليهم الضرائب "فتتلون نفوسهم بالشر في تحصيل المكاسب، ويكثرون من الحيلة والمقامرة والغش والخلابة" صفحات 516 و889. ويرى ابن خلدون ان الحاكم الشديد الذكاء لا يصلح للرعية لأنه يتعبها بآرائه البعيدة الغور التي لا يستطيعون ادراكها ومتابعتها يقول: "واعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء، لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم، واطلاعه على عواقب الأمور، فيهلكون، ومأخذ قصته زياد بن أبي سفيان زياد بن أبيه لما عزله عمر عن العراق" المقدمة ص 575. وسبقه الى هذا الرأي الإمام الماوردي حين يقول: "لأن زيادة العقل تفضي بصاحبها الى الدهاء والمكر، وذلك مذموم، وصاحبه ملوم، وقد عزل عمر زياداً عن ولايته وقال: خفت أن أحمل على الناس فضل عقلك" أدب الدين والدنيا، ص 44، وأورد ابن طباطبا في كتابه الفخري في الآداب السلطانية الرأي نفسه، وذكر ان الملك يجب أن لا يتعمق في العلوم كثيراً. ومن التطابق في الآراء ما ذكره ابن خلدون في أحد عناوين المقدمة ان الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، اما من نبوة أو دعوة حق". فهو يرى أن الدول الكبرى التي تعمر طويلاً، وربما يقصد أيضاً الحضارات الكبرى، لا بد أن يكون أصلها أو بدايتها القوية قائمة على الدين، ولشيخ الاسلام ابن تيمية 661-728 هجرية كلاماً عن الفكرة نفسها، وفي عبارات قريبة جداً من عبارات ابن خلدون توفي 808 هجرية، يقول: "بل يقال، انه ليس في الأرض مملكة قائمة الا بنبوة أو أثر نبوة، وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات" الصارم المسلول، ص 25. وأيد هذه المقولة من المعاصرين الشيخ رشيد رضا: "وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات الا على أساس الدين، حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة الا وقد خلا فيها نذير" تفسير المنار4/429. يقسم ابن خلدون في مقدمته أنواع الحكم الى ثلاثة أقسام: حكم قائم على سياسة مفروضة من عقلاء وأكابر الدولة ويسميها سياسة عقلية، وحكم مفروض بسياسة شرعية يقررها الشرع وهي سياسة نافعة في الدنيا وفي الآخرة وحكم قائم على مقتضى القهر والتغلب، وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، وهو جور وعدوان ص 575. وبعد المقارنة يرى ابن خلدون أن النوع الثاني، وهو حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي هو الأفضل، ونجد هذا التقسيم نفسه في كتاب سراج الملوك للإمام الطرطوشي ت 520ه في كلام لابن المقفع يقول: "الملوك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه إذا أقام لأهل المملكة دينهم وكانوا راضين، كان الساخط فيها بمنزلة الراضي، وأما ملك الحزم، فيقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر". وهذا التقسيم طبيعي وقال به غير واحد من العلماء ولكن الملاحظة هنا هو التطابق في النتيجة. وذكر ابن خلدون انه اطّلع على كتاب "سراج الملوك". كان الهم الأول عند ابن خلدون وضع قواعد لنقد الخبر التاريخي، ولم تعجبه طريقة المؤرخين السابقين لإتيانهم بالأخبار من دون تمحيص ونقد، ولا مراعاة لطبيعة العصر أو علم الاحصاء أو طبيعة البلاد الجغرافية، وعلى هذه الأسس نقد كلام المؤرخ المسعودي ت 346 هجرية عندما ذكر جيوش بني اسرائيل وأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه فكانوا 600 ألف أو يزيدون. ويعلق ابن خلدون على هذا الخبر منتقداً المسعودي: "ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، وقد كان ملك الفرس أعظم من ملك بني اسرائيل ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس هذا العدد، وأيضاً فالذي بين موسى واسرائيل يعقوب عليه السلام انما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال الى مثل هذا العدد" المقدمة، ص 292. فقد استعمل ابن خلدون الجغرافيا والإحصاء السكاني والمقارنة مع دولة الفرس في نقد هذا الخبر. وسبقه الى هذه الطريقة الإمام ابن حزم الظاهري 384 - 456 هجرية حين نقد رواية عدد بني اسرائيل زمن داود عليه السلام وأنهم كانوا نصف مليون مقاتل من سبط يهوذا ومليون من تسعة أسباط. ويقول ابن حزم: "البلد المذكور فلسطين وما حولها باق لم ينقص، ولا صغرت أرضه، وحدّه من الجنوب غزة وعسقلان، ومن الغرب البحر الشامي البحر المتوسط وفي الشمال صور وصيدا، وفي الشرق بلاد مؤاب وعمّون وقطعة من صحراء العرب"، أي ان تلك البلاد لا يمكن أن تتسع لهذه الملايين، وإذا كان معاشهم من المواشي كما في التوارة وأنهم يسكنون في أرض موسى فقط، احتكم ابن حزم الى العاملين الجغرافي والاقتصادي فقال "ما الذي يكفي هذا العدد إذا لم يكن لهم من مصدر للقوت سوى المواشي، ثم اعلموا يقيناً ان أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض موسى وحدها" الرسائل، 2/12. كما وجدت تقارباً في العبارات والأفكار بين ابن خلدون وأديب العربية الجاحظ حين انتقد كلٌ منهما الذين يكتبون من دون أن يكشفوا عن الأسباب والعلل، يقول الجاحظ واصفاً بعض واضعي الآداب وذكرهم "عهوداً الى الغابرين بعدهم عهوداً قاربوا فيها الحق، إلا أني رأيت أكثر مارسموا من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلّوا على أصولها" الرسائل، 1/96. وينتقد ابن خلدون طريقة المؤرخين الذين يقعون في "المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة" المقدمة، 1/291. فنحن نجد التطابق في العبارات أحياناً، وربما لم يطلع ابن خلدون على مؤلفات ابن تيمية ولكن من المستبعد ان لا يكون قد اطلع على كتب الجاحظ. ان هذا التطابق في بعض الآراء والأفكار بين ابن خلدون ومَنْ سبقوه وتقدموه لا يغض أبداً من قيمة المقدمة وأنه لم يعمل مثالها كما يقول تلميذه المقريزي، ولا يغض من أصالته وإبداعه، ولكن هذا التطابق يبين ما وصلت اليه الآداب والعلوم الاسلامية من رقي وتقدم وثراء، حتى جاء مثل ابن خلدون واستخرج منها هذا الكنز. كما لا يغض من قيمة المقدمة بعض المآخذ عليها، أما ما افتراه أحد المعاصرين من أن المقدمة كلها سرقة من أفكار غيره فهي كذبة قبيحة، وكفانا مؤنة الرد عليه من يعرف قدر ابن خلدون ويعرف قدر العظماء والحمد لله رب العالمي. * باحث في التاريخ الاسلامي. مصادر 1- مقدمة ابن خلدون، تحقيق علي عبدالواحد وافي، نهضة مصر. 2- الامتاع والمؤانسة، ابو حيان التوحيدي. 3- الماوردي، أدب الدين والدنيا. 4- ابن تيمية، الصارم المسلول. 5- رشيد رضا، تفسير المنار. 6- الطرطوشي، سراج الملوك، تحقيق جعفر البياتي، لندن 1990. 7- رسائل ابن حزم، تحقيق احسان عباس، بيروت 1981. 8- رسائل الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون، بيروت.