ما إن بدأت حركة التأليف والتدوين عند المسلمين والعرب تنتشر في عواصم ومدن دول العالم الإسلامي مع منتصف القرن الهجري الثاني، إلاّ وحرص "الورّاقون" و"النسّاخ" على تلقف كتب المؤلفين والعلماء وإعادة نسخها ونشرها بين عامة الناس، سواءً كان ذلك للتجارة أو لغرض نشر العلم من قبل بعض التلاميذ وطلبة العلم، ناهيك عن دور الخلفاء والسلاطين من خلال مساعيهم لترجمة كتب الحضارات الأخرى، كما فعل "أبو جعفر المنصور" في ترجمة كتب (الإغريق واليونان) وكتب (الهند)، وكذلك "المأمون" الذي كان يفتدي أسرى الروم بالكتب ويهبها العلماء لترجمتها والتعليق عليها. ولحرص كثير من العلماء على حفظ منتجاتهم الفكرية وكتبهم العلمية، لجأوا إلى وسمها بالعناوين الطريفة أو المسجوعة، كما اختار بعضهم لبحوثه وكتبه مواضيع غاية في الغرابة وآية في الطرافة، حتى أصبحت مثل هذه الكُتب أحدوثة ذلك الزمان، وحديث الناس في كل مكان، وقس على هذا ما كان يلجأ إليه البعض من تدبيج القصائد والأشعار لغرض حفظ المعلومة وسهولة تذكرها. طرافة نادرة ولا تقف طرافة العرب عند مجالسهم ودواوينهم، إذ وجدت كتبهم ومؤلفاتهم حظاً وافراً من الطرافة النادرة، لاسيما وأن مكتبات بغداد استقبلت في نهاية القرن الهجري الثاني كتب ومؤلفات "عمرو بن بحر الجاحظ"، الذي وصفه معاصروه وأهل زمانه أنه طريف في مخبره ومنظره وحديثه ومؤلفه، حتى لقد تفرغ الأدباء من بعده إلى تحليل ودراسة أسلوبه الساخر الذي عرف باسمه، ووصف بأنه مدرسة مستقلة في فن "الكوميديا"، ولا أدل على ذلك إلاّ ما يرويه ويسوقه من طرائف القصص، حتى لقد تجاوز في كثير من مؤلفاته حدود الآداب العامة والأعراف الإنسانية بتندره واستهزائه بأشكال الناس وأجسادهم بل حتى ملابسهم، ولا أدل على ذلك إلاّ كتابه (البرصان والعرجان والعميان والحولان) و(رسالة التربيع والتدوير) و(البخلاء). إجابات مُسكتة وفي حين كان معاصره "عبد الملك بن قريب الأصمعي" يهيم في صحارى العرب، يلتمس من خلال أبناء البادية عجائب وأسرار اللغة العربية، وينقل لنا مكنونات اللسان العربي الفصيح، وما عرف عند المؤلفين ب"الإجابات المسكتة"، كان "الجاحظ" ومن نهج نهجه، يحرصون على الأبحاث والمواضيع الطريفة، كما هي مؤلفات "محمد بن المرزبان" -المتوفى عام 309ه-، التي من أطرفها كتابه المشهور (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، وكتابه (ذم الثقلاء)، وذكر في كتابه الأول سلبية بعض أهل زمانه وضعف أخلاقهم، حتى إنه استشهد بقول العرب: "إن أبعد الناس سفراً من كان سفره في طلب أخ صالح"، وعلّق كثير من المؤرخين الذين جاءوا بعد "ابن المرزبان" على كتابه هذا فقالوا: "إن كان هذا حال ابن المرزبان وهو ممن عاش في القرن الهجري الثالث فما بالك بأهل هذا الزمان"، وهذا الكتاب ليس ببعيد عن كتابه الذي عنونه ب"من توفي عنها زوجها فأظهرت الغموم وباحت بالمكتوم". رسالة إبليس كانت كتب "ابن المرزبان" غير بعيدة عن كتب "ابن كرّام الجثمي البيهقي"، لاسيما ذلك الكتاب الذي لقي حتفه بسببه بعد أن اختار له عنواناً طريفاً أسماه ب(رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس)، كما كتب "محمد بن حبيب" -المتوفى عام 245ه- كتاباً آخر جمع فيه عددا من الشعراء عرفوا بأسماء أمهاتهم في كتابه (من نسب إلى أمه من الشعراء)، علماً أن "ابن حبيب" عرف باسم أمه "حبيب"، ونُسب لها، كما كتب "الفيروز آبادي" كتابه (تحفة الأبية فيمن نسب إلى غير أبيه)، تتبع فيها "من نسب إلى اثنين من آبائه وأمهاته، أو إلى غير أبيه ثم جداته، أو أجنبي ممن رباه أو تبناه أو غير ذلك من حالاته"، كما كان ل"ابن حبيب النيسابوري" -المتوفى عام 406ه-، كتاب عنون له ب(عقلاء المجانين) بعد أن طلب منه بعض أصحابه أن يحصر لهم من كتب التراجم وأيام الناس، عددا ممن عرفوا بين الناس بالجنون والخبل، بينما يظهر من أفعالهم وأقوالهم العجب العجاب، مما يدلل على أنهم رغم ما يرمون به من أمراض الجنون، إلاّ أنهم من أذكى وأبلغ وأفصح الناس. نمّام الكلام وحين وضع المؤلف اليمني "أحمد الحيمي" -المتوفى عام 1153ه- كتابه "حدائق النمّام في الكلام على ما يتعلق بالحمّام"، كان مجموعة من العلماء الذين سبقوه في الزمان كما سبقوه في الكتابة عن موضوع الحمّام قد أغرقوا هذا الموضوع بحثاً، ك"أحمد الأفقسي" في كتابه (القول التام في آداب دخول الحمّام) و"ابن طولون الصالحي" في كتابه (رفع اللثام عن أحكام الحمام)، كما له كتاب آخر لا يخلو من الطرافة سماه (اللمعات البرقية في النكت التاريخية)، وكتاب آخر عنوانه (نقد الطالب لزغل المناصب)، وكان هذا العالم -الذي توفي عام 953ه- من العلماء العزاب الذين لم يحظوا بالزواج. ابن الكتب وكانت كتابات "ابن طولون الصالحي" قريبة من كتب معاصره المؤرخ والعلامة "أبو بكر السيوطي" -المتوفى عام 911ه-، الذي عُرف واشتهر وذاع صيته بأنه لم يترك علماً من العلوم إلاّ وطرق بابه، بل وتبحر فيه وغاص في أعماقه، حتى ترك حين وفاته كنزاً ثميناً من الكتب والمؤلفات التي تنوء الخزائن عن حملها، والتي تقدر بنحو (600) كتاب، غير كتبه التي تراجع عنها وأتلفها، والجميل أيضاً أن هذا العلامة كان شغوفاً بطرق أبواب العلوم والمعارف الطريفة، كما أنه حرص شديد الحرص على عنونة كتبه ومؤلفاته بالعناوين الغريبة والمسجوعة، التي من بينها (طرح العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة) وكتاب (بلوغ المآرب في أخبار العقارب)، و(الطرثوث في فوائد البرغوث)، و(منهل اللطائف في الكنافة والقطائف)، وكذلك (طي اللسان عن ذم الطيلسان)، و(أزهار العروش في أخبار الحبوش)، وكتاب (بلوغ المآرب في قص الشارب)، إضافةً إلى (المؤتسي بمن حدث حدث ونسي)، و(الشماريخ في علم التاريخ)، ولعله قريب من كتاب منافسه الإمام "السخاوي" (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ). وحقاً فقد كان "السيوطي" يلقب ب"ابن الكتب"، وقيل إن والده طلب من والدته أن تأتيه بكتاب من المكتبة فأجاءها المخاض فيها فولدته بين الكتب فلقب بهذا اللقب، كما توفي "الجاحظ" وفقاً لما رواه "ابن النديم" بعد أن سقطت عليه كتبه، أما "ابن القطعة" فقد ترك لنا كتاباً بعنوان (ابتلاء الأخبار بالنساء الأشرار)، وربما كان له أو لغيره عنوان عن ابتلاء أخيار النساء بأشرار الرجال. عبارات مسجوعة وحرص بعض العلماء وطلبة العلم على العناوين الطريفة والنادرة، فإن الكثير من علماء الأمة في عصور الحضارة الإسلامية، كانوا يحرصون على وسم كتبهم بالعبارات المسجوعة من باب التسهيل على القارئ وسهولة حفظ العنوان، كما يلجأ بعضهم إلى جعل عنوان كتابة مسجوعاً مع لقبه وكنيته ككتاب (الأغاني للأصفهاني)، وكتاب (من غدر وخان لابن المرزبان)، وكتاب (الأمالي لأبي علي القالي)، وكتاب (وفيات الأعيان لابن خلكان)، ولعل هذا النهج في اختيار العناوين استمر إلى وقتنا الحاضر، فكثيراً من الكتب والمؤلفات المعاصرة مازالت تحمل عناوين مقاربة لأسماء أصحابها ككتاب (موارد الضمآن لدروس الزمان) للشيخ "عبد العزيز السلمان". عناوين طويلة ومن الطرائف أن ثمة عناوين يستحيل لأحد منّا أن يحفظها بسبب طولها وتفرعها، وذلك مثل كتاب "ابن خلدون" في مقدمة تاريخه الذي سماه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، ويعرف بين الناس بتاريخ "ابن خلدون" مع مقدمته الشهيرة، ناهيك عن كتاب العلامة العقيلي "محمد بن عمرو الحجازي"، الذي يختصره طلبة العلم بكتاب (الضعفاء للعقيلي)، ويتحدث فيه مؤلفه عن ضعفاء الرجال في الحديث، أمّا اسمه فأطول من أن يذكر، وهو غير بعيد عن كتاب الإمام "القرطبي" (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام)، كما للمؤرخ "المسعودي" بعضاً من الكتب ذات العناوين الطويلة إلاّ أن معظمها ضاع مع كتب عديدة لازالت تحت طي النسيان ككتابه (أخبار الزمان)، وكذلك كتاب "ابن عساكر" المعروف ب(تاريخ دمشق) فإن عنوانه يزيد عن السطرين. اختصار وتمييز ومن الكُتب أيضاً، كتاب "الحافظ الكلاعي" (ميدان السابقين)، وكتاب "الحافظ الناجي" (عجالة الإملاء) وكتاب (الاستذكار) للإمام "أبي عمر بن عبد البر المالكي"، وعنوانه طويل يزيد عن السطر، ويرى بعض المحققين أن كثيراً من المؤلفين كانوا يضعون لكتبهم العناوين الطويلة لتوضيح حالها وموضوعها والهدف من تأليفها، وذلك بدقة متناهية في اختيار المفردات، إلاّ أن بعض النُسّاخ يلجأون إلى اختصار عناوينها كي يستطيعوا التمييز بينها وتذكرها، وقس على ذلك كتاب (معجم البلدان) ل"ياقوت الحموي"، وكتاب العلامة "ابن حزم الأندلسي" (الإيصال إلى فهم كتاب الخصال) وهذا اختصار لعنوانه الطويل. قبول بالسجع والحديث عن الكتب المسجوعة في إرث الحضارة الإسلامية، قد لا يقف عند جيل أو جيلين من العلماء والمؤرخين، بقدر ما يمتد إلى عصرنا الحديث، حيث ظلت العناوين المسجوعة محل ترحيب وقبول من معظم الكتاب والمؤلفين، بل حتى من قبل القراء وطلبة العلم، ولغزارة مثل هذه العناوين وكثرتها، فقد يستحيل حصرها في تقرير أو كتاب أو حتى مكتبة واحدة، إلاّ أن الاستدلال ببعضها دليل على رواجها وسرعة حفظ عامة القراء لها، وخذ مثلاً لذلك كتاب (برد الأكباد عند فقد الأولاد) ل"ابن ناصر الدين الدمشقي"، و(حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ل"ابن قيم الجوزية"، و"الصارم المسلول على شاتم الرسول" ل"ابن تيمية"، و(فتح الباري في صحيح البخاري) ل"ابن حجر العسقلاني". كلمة واحدة والقارئ الفطن لتاريخ الكتابة والتدوين عند المسلمين والعرب، يدرك جيداً أن موجة الكتب المسجوعة انتشرت بين العلماء والكتاب منذ القرن الرابع الهجري، وحينها كانت مدينة بغداد حاضرة الدنيا وقبلة العلماء، لا يجاريها في مكانتها العلمية والسياسية إلاّ مدينة قرطبة في الأندلس، التي عاش علماؤها ما عاشه نظراؤهم في الشرق، بينما كان معظم علماء القرون الأولى يقصرون عناوين كتبهم على كلمات محددة وربما كلمة واحدة مثل كتاب (الأم) ل"الإمام الشافعي"، وكتاب (الموطأ) ل"الإمام مالك"، وكتاب (الكامل) ل"المبرد"، وكتاب (الأضداد) ل"الأصمعي"، وكل هؤلاء العلماء عاشوا قبل القرن الرابع الهجري. حصر القديم في عصرنا الحالي، كثيراً من الكتب والمؤلفات استمرت على منوالها القديم من حيث الطرافة والغرابة، ولا أدل على ذلك إلاّ كتاب (مذكرات دجاجة) ل"إسحاق الحسيني"، وكتاب (اللغات السرية للحرامية) ل"علي عيسى"، و(فيض المنن في الرد على من فضّل السمك على اللبن) ل"أحمد التابعي"، حيث تُعد كتب معاصرة، كما هي رسالة (قمع الشهوة عن تناول التنباك والكفتة والقات والقهوة). مثل هذه الكتب والمنتجات الفكرية مازالت حتى يومنا هذا تجد القبول والرواج لدى عامة القراء، وذلك نظير طرافتها وغريب محتواها، وهو ما دعا كثيرا من الباحثين وفي مقدمتهم الأستاذ "محمد خير يوسف" أن يعمل جاهداً لحصر ما يكن حصره من هذه المؤلفات، التي يستدعي حصر القديم منها ضرورة التنقل بين كبرى المكتبات والمتاحف العالمية، للوقوف على مخطوطات الحضارة الإسلامية، التي مازالت متاحف "لندن" و"برلين" و"باريس"، وكذلك "نيودلهي" و"اسطنبول" تحتفظ بالكثير منها. مكتبة قديمة ويُلاحظ شغف الحضور بالقراءة كُتب قديمة على الأرفف العنوان المميز للكتاب يجذب الزبائن