قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز وحسين الحسيني وسونيا دبس وسعيد صعب وجورج ناصيف ومحمد محيي الدين وعباس بيضون وناصري لم يذكر اسمه. ابراهيم الأحدب: خير الدين الأحدب كان العام 1926 سنة فارقة، اذ فيه صار العُمَران، عمر بيهم وعمر الداعوق، نائبين عن بيروت، فعُدّ هذا اعترافا من المسلمين، عمليا لا لفظيا، بلبنان. وفي هذا السياق صار خير الدين الاحدب، عام 1934، نائباً. وأسرة الاحدب اسرة مدراء ومحافظين وكوادر عليا منذ عهد العثمانيين، اما خير الدين فدرس في مدرسة الفرير بالجمّيزة، ثم انتقل الى السوربون لدراسة الرياضيات، لكنه لم يكمل بسبب الحرب. كانت ثقافته فرنسية وعربيته ضعيفة، وقد عمل في المفوضية الفرنسية العليا وتصادق مع رياض الصلح، فأنشآ، منذ 1925، جريدة "العهد الجديد" جريدةً يوميةً تصدر بالعربية والفرنسية. وكانت الصحيفة مناوئة للانتداب تساجل، باستمرار وحدّة، ضد جورج نقّاش. وبسبب الجريدة قرر الفرنسيون أسر خير الدين ورياض، فهربا الى عكا التي توجه منها رياض الى باريس. وفي 1927 - 1928 صار خير الدين يصدر "العهد الجديد" بالعربية دون الفرنسية. رياض كان دينامياً وشعبياً، لكن العائلات السياسية لم تكن تحبّه، كما كانت تأخذ عليه تقلّبه. اما ابو علي سلام فظل يمارس السياسة من بعيد، فلا يخوض الانتخابات بنفسه. وفي انتخابات 1934 كان سلام وعمر بيهم يدعمان عبدالله اليافي، الا ان هذا لم يحل دون فوز خير الدين. وفي 1936، وحين تنازل السوريون بعد ثورتهم عن الأقضية الأربعة للفرنسيين، على اثر تفاوضهم معهم، انعقد "مؤتمر الساحل" في بيت عمر بيهم في الطيّونة معلناً مواقف متشددة. لكن خلال 1934 - 1936، ومن خلال البرلمان، كان خير الدين قد تصادق مع اميل ادّه. في ذاك العام ايضاً، ومع اعادة العمل بالدستور والتهيئة لانتخابات رئاسية، كان نائبا البقاع ابراهيم حيدر والياس طعمة سكاف بين اوائل الذين تخلّوا عن بشارة الخوري وساروا مع اميل اده، نزولا عند ضغط الفرنسيين. كذلك فعل حكمت جنبلاط بدفع من الست نظيرة، وراشد المقدّم نائب طرابلس وهو على صلة وطيدة بالشيخ كسروان الخازن محافظ طرابلس والإدّوي المتحمّس، وقد دعم الفرنسيون المقدّم في وجه عبدالحميد كرامي وشعبيته الساحقة في مدينته. وفي اللحظة الاخيرة صوّت ايضاً الدستوري كميل شمعون لاميل اده. في 1937 اقتُرحت فكرة اجراء انتخابات جديدة، وأراد الفرنسيون اقامة توازن بين الخوري واده في البرلمان الجديد، فاختلف اده مع المفوضية العليا، واختلف خير الدين، الذي ايّد المفوضية، معه. وحين جرت الانتخابات خاضها عمر بيهم ورياض الصلح ضد عبدالله اليافي، فأُنزل الجيش في بيروت لكسر اللائحة الاولى، وكان خير الدين رئيس حكومة، وهكذا كان. وادى تحالف المفوضية العليا وخير الدين الى محاصرة اده ووضعه في الزاوية. كان خير الدين ذكيا وحادا وعميقا، وعلى عكس رياض كان متحفظاً أقرب الى الخجل، تدهور وضعه بسبب تحالفه مع المفوضية فخسر صداقة اميل اده بعدما كان خسر صداقة رياض والمسلمين. وكان على درجة بعيدة من الطموح، فتصور ان بامكانه الوصول الى رئاسة الجمهورية، وكانت تجربة الشيخ محمد الجسر في الاذهان. لكنه سافر الى فرنسا بعدما قطع كل أمل، ومات هناك. جهاد الزين: عائلات الجنوب وأحزابه الأصل الأول لعائلة الزين يرجع الى قرية شحور. توزّعوا لكنهم حافظوا على روابطهم: مثلاً، الشيخ احمد عارف الذي أسس مجلة "العرفان" كان زوج شقيقة يوسف الزين، السياسي والنائب، فيما كان الأخير زوج شقيقة احمد عارف الذي صاهره ايضاً علي الزين. وهذا ما لم يحل بالطبع دون زيجات خارج العائلة، فكانت مثلاً والدة احمد عارف عسيرانية، كما كان السيد عبدالحسين شرف الدين عديل يوسف الزين. لقد استمر الحاج علي الزين، والد احمد عارف، على الاقامة في شحور، وكان وكيل سهل مرج عامر لبيت سرسق. اما اخواه الحاج اسماعيل والحاج رضا فسكنا في كفر رمان، ثم انتقل اولهما الى صيدا ليعمل في التجارة كما انجب يوسف الذي انجب، بدوره، السياسيين عبداللطيف وعبدالكريم وعبدالمجيد، فيما انجب رضا الوزير السابق سليمان. وكان الشقيق الرابع، الشيخ سليمان، قد سكن جبشيت، وانجب عبدالكريم الذي انجب الشيخ علي. التفاوت الاقتصادي الذي نشأ بين الأخوة نجم عن اشتغال الحاج اسماعيل بالتجارة واقامته في صيدا. لكن ظلت العلاقة بين احمد عارف وعلي، وبين يوسف، قائمةً بحكم التضامن العائلي، ولو لم تكن دائماً معلنة. يوسف الزين لم يكن يعبأ كثيراً بالاهتمامات الثقافية والوحدوية لأحمد عارف، ما دام انه في السياسة المحلية يقف "معه". وهذا، بالفعل، كان موقفه وموقف رفيقيه في "العرفان": سليمان ضاهر وأحمد رضا، في مقابل مواقف مشايخ آل صادق المؤيدين لآل الأسعد. كانت الوجهة العامة لثالوث "العرفان"، ممن ربطتهم ايضاً علاقة صداقة بعبدالكريم الخليل، مناوئة للأسعد. وهذا ما يصح، كلياً او جزئياً، على انشطارات كثيرة في الحياة العامة الجنوبية، السياسي منها او الثقافي والديني. فالسيد عبدالحسين شرف الدين، مثلاً، والذي كان بالغ الاهتمام بالسياسة المحلية والعائلات، كان على علاقة جيدة بآل الأسعد، فيما كان السيد محسن الأمين في خانة اخرى. والواقع انه مع صعود السيد عبدالحسين، صعدت عصبية آل شرف الدين، التي هي في آخر المطاف أسعدية، وقد اصطدمت بعصبية آل الزين. الشيخ علي الزين، وهو اصغر بقرابة 15 عاما من احمد عارف، كانت علاقاته الثقافية والقومية العربية، في مرحلة اولى، مع علي بزي وموسى الزين شرارة. وفي اوخر الاربعينات بدأ يؤثّر بعلي جابر ومجموعته. هذه العلاقة كانت حاضناً للجيل البعثي الأول في الجنوب. صلاح الدين البيطار، مثلا، كان يزور علي الزين في منطقة النبطية. المعرفة بأوروبا لم تكن حاضرة عند هذا الجيل. الهموم كانت لبنانية - عربية، وسياسية - ثقافية. وبالمناسبة فعند جماعة "العرفان" خصوصاً، لم يكن ثمة تمييز بين وحدة سورية واخرى عربية وثالثة اسلامية. بعض جيل الابناء في أسر شرف الدين والأمين وغيرهما صار بعثياً، وهناك في بيت الامين من صار شيوعيا. اضرب المثل بهاتين العائلتين الدينيتين تحديداً لأن كثيرين فيهما، في الجيل التالي، انتسبوا الى الأحزاب، لا سيما البعث. فأنا لم ألحظ ناصريين في الجنوب، فيما كنت ارى في بيوت الفلاحين صوراً كثيرة للملك حسين. النخبة الشيعية التقليدية شديدة العداء لعبدالناصر. كذلك فحركة القوميين العرب التي كانت ملحوظة في مدينة صور، لم المسها في ارياف الجنوب. لاحقاً، مع اليسار الجديد، صار من الصعب متابعة ذاك التواصل بين الأسَر الثقافية - الدينية والانتماء الى الاحزاب، خصوصاً البعث: فاليسار الجديد هو بيئة متعلمي الأسَر الشعبية المفقرة من خلال الجامعة اللبنانية. في المقابل فالمسار الذي يمر بالتنظيمات الدينية، او ينتهي بها، يخضع لقوانين أخرى، قد لا تكون دائماً صالحة للقوننة: مثلاً، في آل الزين انفسهم هناك افراد عاشوا في بيروت وانتسبوا الى "حزب التحرير الاسلامي"، حزب النبهاني. لكنْ في التيار العريض لما بات يُعرف بالحركة الاسلامية وتياراتها واحزابها، ينبغي الاهتمام بتأثر بعض كبار المشايخ والسيّاد ب"حزب الدعوة" العراقي في الستينات. المتأثرون بالدعوة بنوا، بعد عودتهم من العراق، مجموعات محدودة في القرى وضواحي بيروت، والكثير من هذا المناخ عاد ليندمج في حركة السيد موسى الصدر. تلك المجموعات كانت ذات ثقافة نسبية في الريف. اما العائلات السياسية فكانت علاقتها بالصدر عرضة للمد والجزر. مع هذا يمكن القول انها حاولت الاستفادة من الاجواء التي اطلقها السيد موسى في مواجهة كامل الاسعد، من دون ان تتغلب على كل مخاوفها من الاحتمالات المفتوحة امام حركته النامية. كذلك يلاحَظ، في آل الزين تحديداً، أن جبّهم الثقافي انفتح على حركة الصدر اكثر مما انفتح الجب السياسي. وهذا ما يشير اليه تحول زيد الزين، نجل احمد عارف، الى عضو في الهيئة العليا للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى. كذلك هناك خط آخر لا ينبغي التقليل من أثره في الطائفة الشيعية: رشيد بيضون وجماعته، وكادر العاملية وشركات آل بيضون التي رعاها شقيقا رشيد: محسن وسليمان. فهناك جيش الموظفين الذي كان رشيد الوسيط بينه وبين الدولة والجيش. هؤلاء عصبيتهم شديدة اللبنانية. في اواخر الستينات كانت هذه البيئة ضد كل جو المقاومة الفلسطينية، وظلت مدرسة "العاملية"، رغم المناخ الطلابي المسيّس والعاصف، مدرسة نموذجية تركّز على التعليم. كذلك يمكن الاشارة الى صلة البيضونية بالطبقات الايرانية العليا قبل الثورة. الا ان هذا لا يلغي التقاطعات. فالحاج موفق بيضون الذي عمل مع حركة امل والسيد موسى، ابن شقيق رشيد بيضون. والامام الصدر نفسه درّس في العاملية. ثم ان جو آل بيضون البيروتي تربطه مصاهرات مع عائلتي عسيران والخليل. اما علاقة البيضونيين بالزينيين فعرضة للتقلبات: مثلاً، في 1968 خاض عبدالكريم الزين، ابن يوسف، معركة الدائرة الثانية ضد رشيد بيضون. محمد كشلي: حركة القوميين العرب 1950 - 1951 كانت فترة تمهيدي للانتساب الى الحركة، أيامَ نشرة "الثأر" الناطقة بلسان "الشباب القومي العربي". آنذاك كانت النواة القيادية للحركة، في الجامعة الاميركية، تضم جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي واحمد الخطيب. لم يكن في الاميركية حركيون لبنانيون، ربما باستثناء مصطفى بيضون. اما انا فكنت تلميذا في المقاصد، عمري 14 سنة. التأسيس الرسمي للحركة كان في 1952، وكان بيضون الابرز في النواة اللبنانية الاولى. محسن ابراهيم كان استاذا في معهد المعلمين في صيدا، دخل الى الحركة في 1952 - 1953، ومعه محمد الزيات الذي ترشح عن صور ونال اصواتا كثيرة. والواقع ان التأثير الحركي في صيدا جاء من خلال المخيمات الفلسطينية وعن طريقها. محسن ما لبث ان انتقل الى بيروت للعمل الصحافي والثقافي، لكن الموجة اللبنانية الاولى ضمت، الى بيضون، جهينة الأيوبي من طرابلس، وبعض فتيات وشبان النادي الثقافي العربي الدائرين في فلك تأثيرات قسطنطين زريق الفكرية. ومن خلال بيضون، وهو من حي بيضون في الاشرفية، بدأ العمل في نطاق المقاصد وبعض البيئات السنية، وهناك نشأت المجموعة الفعلية الاولى. الطاقم القيادي الاول تشكل من مصطفى ومحسن والزيات، وما لبثت ان انضممت اليه وكنت اصغر سناً من باقي افراده. محسن والده شيخ، وهو من السيّاد، كما انه من فقراء الارياف الشيعية، لهذا لم يستطع اكمال دراسته. والزيّات شاطره وضعه الاجتماعي كما شاطره التحدر عن بيئة مناهضة لآل الخليل. وكان مصطفى بيضون من اسرة تملك اسطبلاً، اي ان اهله ينتمون الى طبقة وسطى مرتاحة بحيث ارسلوه للدراسة في الجامعة الأميركية. وأنا، والدي نجّار حِرَفي وبيتنا على البسطة، ولفقر أسرتي درست المرحلة الثانوية عن طريق المِنح. وكان اهلي قريبين انتخابيا من صائب سلام، وكان المطروح دائماً عليهم: هل يدبّر صائب المنحة لي او يصار الى التفكير بعدنان الحكيم؟ وكنا نتحرك اساسا حول القضايا العربية كتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، وكانت التناقضات اللبنانية بيننا وبين البعث اخف منها في الجامعة الاميركية حيث لا تحضر القضايا اللبنانية اساساً. ولا اذكر حصول نقاشات فكرية بيننا وبينهم في الخمسينات، علما ان عناصر كثيرين كانوا يتنقلون بين البعث والحركة. كانوا يقرأون ميشيل عفلق وادبياتهم، وكنا نقرأ علي ناصر الدين وساطع الحصري ونقولا زيادة وقسطنطين زريقة، كما نستعمل اسلوب التعميم الداخلي في مواجهة النشر البعثي الخارجي. وكنا اكثر صرامة من البعث واشد انضباطا وحصراً لما نقرأ، كما ذهبنا بعيدا في التعويل على دور النخبة والأخلاق، فحرّمنا الخمرة والبضاعة الاجنبية والعلاقات التي لا تفضي الى زواج. والحال ان الجميع تزوجوا منذ البداية، فالطهارة الشخصية كانت اساسية لدينا. وتوسعت الحركة في المقاصد من 1954 فصاعدا، لتبلغ ذروتها في 1956 - 1957. آنذاك انتسب عزت حرب وجميل كبي ومحمد بركات وحسين القوتلي، وكلهم سبق ان تخرّجوا من المقاصد. وفي اواخر الخمسينات استقر الطاقم القيادي على محسن وبيضون والزيّات وعمر فاضل، وهو سني من البقاع الغربي اهله مهاجرون ومن طبقة مرتاحة. في 1957 تخرجت من المقاصد، وفي العام التالي تجمعت عناصر الحركة في "جمعية خريجي المقاصد" وسيطرت عليها، فيما كان محمد سلام، شقيق صائب، رئيس الجمعية. على أنه طُرحت، بعد "الثورة"، فكرة السيطرة على المؤسسات السنيّة، فوقفنا في وجهها وانفصلنا عن الجمعية اوائل الستينات. ومع احداث 1958 خيضت المعركة في ظل العلاقة بصائب سلام، ولعبت الحركة دورا اساسيا في تمتين علاقة صائب بعبدالحميد السراج. هذا وشارك التنظيم في تهريب السلاح من سورية الى لبنان على البِغال. وفي تلك الفترة صار للحركة نواة جدية في طرابلس، اما في بيروت فكان القبضايات هم الذين يقاتلون في ظل القيادة السياسية لصائب، وهم الذين استقطبهم شهاب لاحقاً. عدنان الحكيم، في احداث 1958، اعطانا، نحن والبعثيين مقر النجادة، ولم يكن لدينا اي احساس بالتنافس التنظيمي. كنا كثيرا ما نجتمع معا في ذاك المقرّ، كما كنا نجتمع في مقر "حزب النداء القومي" عن طريق خلدون الصلح، وحزب النداء الذي احتفظ بمقره كان قد كف عن الوجود. البعث كان حاضرا في المدارس الرسمية اكثر منا، الا ان وجوده بين سنّة بيروت اقتصر على افراد، اذ كان جوّه شيعياً. اما الشيوعيون فكانوا خارج بيروت وخارج جسدها. وبدورها فالزعامات السنية التقليدية لم يكن لديها اي مشكلة حيال الحركة، او اي احساس بالعداء لها او التحفظ منها. وفي النصف الاول من الستينات، وكان الزيات توفي وعمر فاضل غادر صفوفنا، استقرت قيادة الحركة على محسن وبيضون وانا. وقد غدا التنظيم حاضراً في البقاع وصيدا وصور وطرابلس فضلا عن بيروت. واذا كان حركيو العاصمة طلابا اساسا، فانهم، في المناطق، صدروا عن اجواء اكثر شعبية، فكانوا من اوساط الاساتذة واصحاب الدكاكين وغيرهم، كما ظل لونهم الطاغي سنيا تتخلله بؤر شيعية كبيرة احيانا. وفي 1963 - 1964 عرض عبدالناصر على الحركة جريدة "المحرّر"، فرشّح الحركيون هشام ابو ظهر على ان يعملوا معه في الصحيفة، لكن قبيل هذه الفترة، وبعد الانفصال السوري، بدأ عمل الحركيين اللبنانيين يستقل تنظيمياً عن نشاط الحركيين العرب في لبنان، فنشأت "قيادة اقليم لبنان". ومنذ 1962 بدأ التمهيد لجبهة الأحزاب، فبدأتُ ألعب الدور اللبناني فيما اهتم محسن بالدور العربي. آنذاك بدأت تُطرح أفكار اليسار، وتوحيد اليسار اللبناني، ومناقشة الشيوعيين، كما شرعت الحركة تطل، لاول مرة، على الوضع اللبناني. وبدأ الشيوعيون يهتمّون بنا فاعتبروني يسارياً بينما اعتبروا محسن يمينياً، ونشأت بيننا دعوات وزيارات ومهرجانات. كذلك بدأ كمال جنبلاط يهتم بالحركة. اما الافكار التي شرعت تتردد في وسطنا في 1964 فدارت حول فشل الحركات السابقة، كما ظهرت دعوة "نحو يسار عربي جديد". ولم يناقش احدٌ من القيادات المقالات التي توليت انا كتابتها آنذاك حول هذه المسائل، لكنني حوسبت من الحركة على الكتابات هذه. وبدأت تظهر التيارات والاجنحة داخل اللجنة التنفيذية التي كنت عضوا فيها الى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ومحسن ابراهيم. ومنذ 1964 كنا، نايف ومحسن وانا، نقود التيار اليساري، وراح محسن يتحدث عن الاشتراكية التيتوية، كما ظهرت تأثرات باجواء الشيوعية الفرنسية بعد المؤتمر السوفياتي العشرين، وتكاثر الكلام عن الطريق العربي الى الاشتراكية، فيما شاع في بعض الاجواء اننا يساريون. وفي العام نفسه بدأنا الحوار مع الحزب الشيوعي اللبناني، وكنا مهتمين بنظرية الوحدة عملا بالنموذج الكوبي. اجتمعنا في بيتي: انا ومصطفى بيضون وحسن قريطم ونقولا الشاوي وصوايا صوايا، ولم يعرف محسن بالأمر، فهو كان خارجيا قليل الاهتمام بالشأن اللبناني. وقد تظاهر الشيوعيون بالموافقة على طروحاتنا لكنهم لم يكونوا فعلا. لكن اليسار كانت مشاكله كثيرة. ومن مشاكله تلك بعد 1967 بعض التوتر الذي خيّم على علاقة جنبلاط بالشيوعيين. فجنبلاط كان من نقّاد الحزب الشيوعي، ولم يُطق حسن قريطم. والشيوعيون بدورهم بدأوا يعانون مشاكلهم الداخلية. وفي 1969 انهارت جبهة الاحزاب. لكن، في مجال آخر، وكممثل لليسار غير الشيوعي دعاني حزب الكتائب في 1966، وكانت قيادته الفكرية لموريس الجميّل، الى حوار معه ومع تلامذته كرشاد سلامة وغيره. كذلك شاركت، بعد 1967، في ندوات معهم شارك ايضا فيها الحزب القومي السوري ممثلا بهنري حاماتي. كانت اجواء الحوار مفتوحة يومذاك، تحظى بتشجيع موريس الجميّل. وقد شارك فيه محام كتائبي اسمه بشير عميرة، ما لبث ان انضم الى اليسار المسيحي وعمل مع المقاومة الفلسطينية. كانت موجة الحوار قوية، وفي هذا لعب كريم بقرادوني دورا مهماً، كما كان نخلة المطران على صلة بهذه الأجواء، وهكذا نشأت معرفة بيننا. اما حين انشقت الحركة يمينا ويسارا، فوقفت الاكثرية اللبنانية الساحقة مع "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين". وبعدما قاد محسن بحماسة عملية الاندماج مع "لبنان الاشتراكي"، ظهرت التناقضات على كل صعيد. لكني، في 1970 - 1971، وبعد اشهر على تأسيس "منظمة العمل الشيوعي"، تركتها وتركت العمل السياسي لتأسيس دار نشر، فيما صارت "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" تقدّمني كوجه لبناني وطني وتقدمي. لقد ترك معي عدد من الشبان، بعضهم غادر العمل السياسي وبعضهم توجه الى الحزب الشيوعي. سويدان ناصر الدين: الهرمل في الاربعينات اتجه الحزب السوري القومي الى آل دندش، ذوي العلاقة السيئة مع الفرنسيين. مشهور ابن طعّان دندش كان من اوائل القوميين. قبل ذلك وُجدت الاحزاب نسبياً في اوساط الطلاب الذين يذهبون الى الهرمل والمدن، لكن هؤلاء لم يكونوا ابناء عشائر. مع ثورة 1958 خصوصاً دخل البعث الى المنطقة وجدد القوميون السوريون دخولهم. القوميون لعبوا على وتر الكره الشيعي لعبدالناصر، كما لعبت السلطة الشمعونية دوراً فتولى القوميون تأطير المستفيدين من خدماتها. الشيء نفسه كان يحصل من الجهة المقابلة، بسبب القرب من حمص، فيستفيد منه العروبيون، خصوصاً البعث. وفي العهد الشهابي كان هناك التلامذة الثانويون والتكميليون من ابناء العشائر الذين يدرسون في الهرمل او خارج المنطقة. الاساتذة في الهرمل، وهم من غير ابناء العشائر، كانوا حزبيين. هكذا اصبح الانتماء الحزبي محمياً بالعشائر. الستينات والسبعينات كانت المرحلة الذهبية للأحزاب: البعث، القومي، وبدرجة أقل: الشيوعي ومنظمة العمل، خصوصاً أن اوائل السبعينات شكّلت بدايات تماسك جديد املاه نظام التوزيع الرأسمالي. في بواكير النمو بين العشائر، ظهر البعث في بيت علوّ، ثم امتد منهم الى بيت ناصر الدين، علماً أن العائلتين، وللأسف، على نزاع قديم جداً. هاتان العائلتان، ومعهما آل دندش، اكبر عائلات المنطقة. وجود البعث لم يحصل في بيت زعيم العائلة نفسه، بل في البيوت الزعامية القريبة منه، والتي عزّزت منافستها للزعيم الاول مستعينةً بعامل الحزب. مثلاً، حسين محمد علو هو زعيم آل علو، اما في البعث فبرز مفلح علو وابن عمه مفضل، وهما نجلا وجيهين من كبار العائلة. الحزب القومي، في 1958، انتشر عند علوّ وناصر الدين ايضاً، لكنه لم يقو في ناصر الدين لأن قيادته كانت من دندش وعلو. الجناح الاقوى في ناصر الدين بقي مع عبدالناصر والبعث. ابان المرحلة الشهابية فقد القوميون تأثيرهم، فيما استفاد البعث من تسلّمه السلطة في دمشق. اما الحزب الشيوعي الذي بدأ يتواجد كجسد في مطالع السبعينات، فبقي هزيلا ولم يخترق العشائر نفسها. آل دندش، واذا استثنينا بيت طعّان، لم يدخلوا الفلك الحزبي. دائماً كانت طموحات العائلة نيابية وتركّزت حول نيابة فضل الله دندش، نجل حسن زعيم العائلة. فقط بعد مقتل حسن انتقلت الزعامة الى مصطفى طعّان، وهو عم فضل الله. وبصعود فضل الله النيابي بدا كما لو انه يسترد الزعامة الى بيته. آل شمص موجودون في الهرمل وبوداي وغيرهما، الا انهم عموماً تشتتوا نتفاً سكانية مبعثرة. لقد ظهر فيهم من انتسب الى الاحزاب: فبرز في السبعينات ياسين شمص كمسؤول للحزب الشيوعي في المنطقة، وانتسب بعضهم الى البعث كذلك. زعيتر وجعفر لم يقتربوا من الحياة الحزبية كثيرا. زعيتر موزعون اصلا بين لبنان وسورية، اما جعفر، فبعد ثورتهم في 1926، تصالحوا مع الواقع الانتدابي. انهم اقرب الى سورية جغرافياً، لكنهم يعيشون على الرعي ومساعدات الدولة من دون ان يتملكوا اراضي زراعية. وهذا ما حافظ على تماسكهم العائلي، كوحدة، وهو ما اصبح تعزيزه غاية اساسية تصرف اصحابها عن العمل الحزبي. علو وناصر الدين اهتموا بالاحزاب اكثر من سواهم لأنهم يعيشون في الوسط، وأقرب الى الهرمل التي يقضي قسم كبير منهم شتاءه فيها. وهذا يعني، بين ما يعنيه، نسبة علم اكبر. ثم انهم اصحاب ملكيات زراعية كبيرة، وارتباطهم بالزراعة وثيق. حركة السيد موسى الصدر كانت في كل مكان، ولم تكن في مكان محدد. الكل معه. كل زعماء العشائر معه، فتقوية الطائفة تزيد حصصهم جميعاً، وهي مسألة معنوية تهمّهم كلهم. كل العشيرة بجميع مراتبها كانت معه، باستثناء الشبان الحزبيين. الحياة السياسية الرسمية في الهرمل لم تكن سماء صافية دائماً، الا انها بقيت مضبوطة من الدولة. احدى ظاهراتها كان رياض طه الذي درس في حمص، وهو من عائلة اعيان ثانويين في الهرمل. عاد اواخر الاربعينات وكان هناك نزاع حاد بين العشائر وآل حمادة لوقوفهم، في العشرينات كما في الاربعينات، مع الفرنسيين ضدها. اجتمعت العشائر وقررت ترشيح وجه آخر ضد صبري، وطُرحت اسماء اختُلف عليها كنايف حسين ناصر الدين وأديب علام. ولجأ صبري الى نايف حسين الذي أحس بعدم الاجماع عليه، فتنازل له. اما اديب فلم يترشح. رياض كان بدأ في الصحافة ثم بنى، في الخمسينات، علاقة مع فؤاد شهاب، قائد الجيش في حينه. ودافع رياض، بعد ذلك، عن الدنادشة وشهاب ضد كميل شمعون رئيس الجمهورية آنذاك. وفي العهد الشهابي حصل تفريخ للزعامات صاحبه ضخ مالي كثيف الى المنطقة عبر مشاريع العمران والطرقات واصلاح العيون والمطاليب الاخرى. لكن في ما خص العلاقة بالدولة اللبنانية، حصل تغير كبير بعد الشهابية. سليمان فرنجية ابدى قلة اكتراث بحاجات العشائر، وتعاظمت ظاهرة الطفّار. صار لا بد من البحث عن طرق واتجاهات اخرى، وجاءت مصالحة 1973 مع آل البعريني في عكار، التي رعاها خالد صاغية، لتعزز هذا المنحى. هكذا صار البعريني - ناصر الدين صفاً واحداً وجبهة واحدة. في غضون ذلك افادت من هذا الانشقاق بين الدولة والعشائر حركةُ تهريب السلاح الى المقاومة الفلسطينية بدءاً ب1969. والى ذلك حاولت السلطة تطويق هذه الطريق، الا ان "اتفاق القاهرة" حدّ من القدرة على ذلك. وفي مناخ المقاومة، وُجدت في المنطقة "جبهة التحرير العربية" و"الصاعقة" اكثر مما وُجدت حركة "فتح". الحلقة السابعة: الخميس المقبل.