قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسّان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز وحسين الحسيني وسونيا دبس وسعيد صعب وجورج ناصيف ومحمد محيي الدين وعباس بيضون وناصري لم يذكر اسمه وابراهيم الأحدب وجهاد الزين ومحمد كشلي وسويدان ناصر الدين ووليد سكريّة وغسان حبّال وابراهيم مرعي وحسين قطيش وابراهيم العريس وعبدالله الغطيمي وعصام العبدالله وعبد الستّار اللاز ومحمد ابي سمرا وغسّان مكحّل: أحمد بيضون: بنت جبيل/ العروبات/ اليسار منذ الاربعينات وللانقسام في بنت جبيل قطبان: بزّي وبيضون. هما قطبان غير متناظرين، فبزّي ذات ثقل سكاني كبير وهي من اقدم عائلات بنت جبيل، تمتلك قسماً كبيراً من أراضيها، لا بل هي اكبر عائلات ملاكيها على رغم وجود ملاكين آخرين بالطبع. ووراء آل بزّي تاريخ من العلاقة بالعثمانيين، وفي أحيان كثيرة كانت هذه العلاقة تساويهم بآل الأسعد. أي أنه حين وُجد كامل الأسعد في أوائل القرن، كان هناك محمد سعيد بزّي، عمّ رجل العصابات، وكان نافذاً وذا سلطان. كان عملياً يلي كامل الأسعد مباشرةً من حيث النفوذ. وربما كان هناك نوع من المساواة، من حيث الوضع السياسي والنفوذ، بين بزّي وعبدالله في الخيام، وقد قامت بينهما علاقات وطيدة انطوت على صداقات ومصاهرات. في القرن التاسع عشر كان الحاج محمد بزي الذي عايش احداث الستين، والحاج سليمان بزي الذي خلفه في زعامة العائلة، من كبار الأثرياء، فامتلكا عدة قرى في جبل عامل وامتداده الفلسطيني. ويُذكر أن خورشيد باشا حين جاء في 1860 الى بنت جبيل ليبحث في العلاقات الطائفية في المنطقة، نزل عند الحاج محمد. وكانت العائلات المعتَمَدة يومها الأسعد وبزي وفرحات، في بليدا، وهي العائلات التي تبحث السلطنة أمور المنطقة عبرها. آل بيضون وضعٌ آخر. هم عائلة جديدة لا يرقى وجودها في بنت جبيل الى اكثر من 200 الى 250 سنة. ليست لديهم ملكية أرض قديمة فيها، وكل ما يملكونه هناك الآن معروفٌ تاريخ استملاكه. موقع حيّهم بعيد عن الجامع ومحاذٍ للبرْكة والمقبرة. وهذا يدل على أن الحيّ، الواقع في غرب شمال البلدة، نموّه جديد وخارجي بالنسبة الى تكوينها. فكل المَرافق التي تدلّ على قِدَم البلدة إما في حي بزّي او محيطة به: الجامع والساحة، او السوق القديمة، التي تحاذيه. أما حي بيضون فحين نما نما حول المرافق الطَرَفية، كالبركة، بحيث ضمّها الى البلدة. مهنياً، بيضون قسم منهم تجار، يتعاطون خاصةً تجارة المواشي والسُمون والحبوب والخيول بين فلسطين وسورية وأحياناً العراق. وقسمٌ آخر حِرَفيون يعملون في صناعة الأحذية، بينما بزي، وفيهم تجار، فهم في أساس وضعهم ملاك أرضٍ كبار وصغار، وفلاحون. وهناك عائلات وسيطة في بنت جبيل، ارتبط دورها بمواقعها في الاحلاف العائلية شبه المستقرة التي يمكن متابعة تحالفاتها منذ بداية القرن العشرين على الأقل. فعائلات جمعة وشرارة وفرج وسعد، حلفاء بزي ومجاوروهم في السكن، وهي في اغلبها عائلات صغيرة قياساً بهم. وعائلات جمعة وهيدوس وصعب وشامي ودباجة، حلفاء تقليديون لبيضون. وشامي، بين هؤلاء، لهم وضع خاص: فهم تجار وملاكون كبار، ومن حيث الولاء السياسي كانوا منقسمين بين العائلتين رغم وجود اشارات تاريخية الى أهميتهم في البلد وقِدم وجودهم في بنت جبيل والمنطقة، ويرقى الى فخرالدين. وعائلات شامي وسعد وشرارة وجمعة، في العدد، عائلاتٌ كبيرة نسبياً، ليست واحدتها اقل كثيراً من بيت بيضون. وشرارة فيهم جناحان: مشايخ وتجار، وتتميز عائلتهم بتركيز الحضور الديني والثقافي والشعري حتى أنه حتى الجيل الماضي، كان كل مَن هو خارجهم وعُرف بنفحة أدبية في الشعر أو في مشيخته، كان على صلة ما بهم، إما تعلّماً او نَسَباً او قرابة او تقرّباً. وفي تاريخهم وجوهٌ دينية كبيرة كالشيخ موسى الذي جاء من العراق في أوائل القرن التاسع عشر وانشأ مدرسة في بنت جبيل درس فيها عدد من كبار العلماء كمحسن الأمين وعبدالحسين صادق وغيرهما، وهذا برغم ان موسى لم يُقم في بيت جبيل الا قليلا حيث ما لبث ان توفي. كذلك برز الشيخان عبدالكريم ومحسن شرارة، والأخير كان من كتّاب "العرفان" ومن التيار التجديدي. وفي نهوض بيضون في مواجهة بزي، كان اولَ من رُويت عنه اخبارٌ الحاج حسن مرعي بيضون، في النصف الاول من التاسع عشر. وكل ما يقال عنه انه كان شديد التقوى عُرف بآدميته ومسالمته وحسن ضيافته، ولا شيء أكثر. ولم يكن له، كذلك، دور سياسي ولا ظهر كقطب عائلي. والاسم الثاني من آل بيضون كان موسى، والد جدّ الشاعر عباس بيضون، وهو من أوائل آل بيضون الذين عُرفوا، اواخر التاسع عشر، بتملّك الأرض. وقد ربطته ببيروت علاقات تجارية حيث أسس مطحنة بالشراكة مع آل الشمعة، وتوافر له حضور ووجاهة وقبضنة حيث جمّع عدداً من شبان العائلة حوله، وكان ثراؤه يتيح له ذلك. بعده جاء جدّي، محمد الحاج مرعي بيضون الذي لم يكن مالك أرض، وهو من جبّ غير جبّ موسى، لكنه استأنف ما كان باشره من صراع مع آل بزي. وجدي كان يتاجر مع فلسطين، ويضمن فيها أرضاً كما يتولى اعمال جباية كوكيل. ولم يصبح محمد مرعي غنياً بل كان صاحب مَضافة وعلاقات مع اقطاب البلاد، وصولا الى عرب حوران وعرب فلسطين. وهو كان يُعطى أحياناً التزاماتٍ في منطقة الحولة، ما عاد أمرُه ربما الى ملاكين محليين مما لم يستدع بالضرورة موقفا من الدولة. لكن هذه الالتزامات كانت تتسبّب في نزاعات بينه وبين الاقطاعيين، ما أدى الى سجنه في أوائل القرن تماماً. اما الفكرة العربية فكان رمزها عندنا الأمير عبدالقادر الجزائري. وقد وجدت بعض الصدى في بنت جبيل عند آل سعيد، وهم فرع من آل بزي، وتحديدا عند الحاج محمد علي سعيد واخيه سليمان. وهناك اشارات في مقابلات اجراها معهما لاحقاً مُعدّو اطروحات جامعية، الى مقارعة العثمانيين والى عروبية ما، وذلك في وقت سابق على الدستور العثماني، اي في بداية تأسيس الجمعيات. وكانت الفكرة العربية تدور، عندهم، على ضرورة قيام مملكة عربية. وفرع سعيد فرع صغير في آل بزي سِمته ملكية الارض الكبرى. فهم لم يتسنّموا زعامة عائلتهم ولا عُرفوا باهتمام ثقافي ملحوظ، بل كانوا خبراء في حدود الأراضي ومساحاتها، الشيء الذي اجاده بصفة خاصة الحاج محمد علي. كانت ثقافتهم ثقافة المالك - الفلاح، وأولادهم كانوا يعملون في الارض وفي تربية الدواجن، رغم كونهم ملاكاً كباراً. وكانوا في النزاعات التقليدية ينشطون ضد آل بزي. وربما كان عدم انتمائهم الى فرع الزعامة السياسية في العائلة، وهو فرع قاسم بزي، ما سمح لهم بالاطلال على موقف يغاير الولاء المألوف للسلطنة العثمانية. وكانت الزعامات التقليدية لآل بزي مع السلطنة. لكنْ مع محمد سعيد بزي ظهرت الحلقة الثانية في الفكرة العربية. فمحمد سعيد هو زعيم آل بزي الأول الذي ينتمي الى فرع قاسم، والذي خلف الحاج سليمان لأن أنجاله لم يكونوا في وارد السياسة. وهكذا انتقلت زعامة العائلة من فرع الى آخر. ويبدو ان خلافات كبيرة حصلت بين محمد سعيد والعثمانيين خلال الحرب العالمية الاولى حتى حُكم عليه بالاعدام، ولم يُنفّذ الحكم لأسباب لا اذكرها. وحين جاءت فترة العشرينات، كان عبدالحميد بزي، وهو شقيق محمد سعيد، على صلة بالعمل الفيصلي. وكان محمود احمد بزي، وهو ايضا من فرع قاسم، على رأس احدى العصابات، وإن كانت هذه العصابة أصغر حجماً وأسوأ سمعةً وأقل رصيداً من حيث المكانة الوطنية من عصابتي صادق حمزة وادهم خنجر والعصابات الاخرى. فقد اقتصر عملها، على ما يبدو، على السرقة والتشليح وكان لها دور أساسي في مجزرة عين ابل. وساهم محمد سعيد في مؤتمر الحجير وكان في الجو الفيصلي، لكن بعد ان رسا وضع الانتداب، بقي رئيساً لبلدية بنت جبيل التي تأسست في 1918، والتي كان جدي، لسبب غير واضح، اول رؤسائها. وبقي محمد سعيد رئيس البلدية حتى وفاته أوائل الأربعينات. وخلال هذه الفترة رتّب أوضاعه مع الانتداب بحيث غدا، في 1936، في طليعة المواجهة مع الشباب العروبي الذي أطلق عليه تسمية "خائن". وقد تم اخراجه الى عين ابل المارونية لكنه، بعد همود الحركة النضالية، عاد ليصبح مجدداً رئيس بلدية. والحاج محمد سعيد كان على صلة جيدة بكامل الأسعد. وبعد وفاة الاخير في 1923، ومرور آل الأسعد بفترة خمول رغم أنهم تمثّلوا في المجالس النيابية الأولى ابتداء ب1926، حافظ على علاقة وثيقة بهم، هم الذين كانوا على قرب من الانتداب. لكن في الثلاثينات أُبعد عبداللطيف الأسعد عن المجلس النيابي، وبدا ان هذا البيت في اسرة الأسعد قد انحطّ، فلجأ عبداللطيف الى الحولة. وفي انتخابات 1935، وكان توفي فضل الفضل، زعيم الصعبيين، رشّح الفرنسيون بهيج الفضل لملء المقعد. ترافق هذا مع الموجة الثالثة من العروبيين ممن كانوا على صلة ببيت الصلح وبعض مشايخ النبطية، فذهب والدي، عبداللطيف بيضون، وموسى الزين شرارة وعلي بزي الى الحولة واعادوا معهم عبداللطيف كي يواجه الفضليين. واثار ترشّح الأسعد بوصفه معارضاً للفرنسيين استقطاباً كبيراً، فزوّر الفرنسيون الانتخابات تزويراً فادحاً لاسقاط عبداللطيف. وما لبث الاخير ان توفي في اواخر الثلاثينات، وعلى الأثر قام عدد من شبان بنت جبيل المناهض للفرنسيين باظهار ابنه، احمد الاسعد، فجالوا به على القرى وجمعوا له مالا. وظل الانقسام العائلي موجوداً في الثلاثينات لكنْ على حدّة أقل مما في الاربعينات والخمسينات. فقد شحّ، مثلاً، حصول زيجات مختلطة بين العائلات بسبب شدّة العصبيات بعد تراخٍ. ذاك انه حتى العشرينات ظل ثمة تسليم بزعامة محمد سعيد بزي، وظلت حدود الانقسام هي حدود حفظ كرامة العائلة وحماية ساحتها. ولم تتحول العصبية انقساماً ثنائياً حاداً الا حين طُرح موضوع المناصب الجديدة في الادارة والبلدية، وخاصة مع النيابة حيث بدأ البحث عن تحالفات على صعيد المنطقة وانتماءات لاقطاب على صعيد الجنوب. وفرزت الثلاثينات، كلحظة وفاق عائلي، وعيا وطنيا له شاعره، هو موسى الزين شرارة، وله مثقفوه ومحرّضوه وقادة تظاهراته. اما علي بزي فهو حفيد الحاج سليمان، اي انه من فرع الزعامة الذي اقصي في اوائل القرن فانتقلت الزعامة باقصائه الى محمد سعيد. ومع احداث 1936 كان لصعود علي ان اثار مشكلة في عائلته، وهو آنذاك في الخامسة والعشرين، أصغر من أبي بعامين، ومن موسى الزين بتسع سنوات. ومع صعود علي بزي انعزل فرع قاسم بنتيجة خروج محمد سعيد من البلد. وعلي كان كثير العلاقات، بما في ذلك صلةٌ بأحمد الأسعد الذي كان في جوّ ال36 وحضر اربعين الشهداء وكان يُعتبر شاباً مناهضاً للفرنسيين. والى الاسعد ربطت علي صلاتٌ بمشايخ النبطية وآل الصلح واحمد عارف الزين، وبعادل عسيران الذي بدأ أيضاً مع ال36 وكان ينسب الفضل في تحديد موقعه السياسي في صيدا الى حركت بنت جبيل التي امتدت الى مدينته. وعادل، بدوره، خرج على موقف عائلته كما فعل علي مع عائلته. وعندما تلاشى جوّ ال36 وانتهى مؤتمر الساحل الى ما انتهى اليه، لم يبق من آثاره في المنطقة سوى ظهور اصحابه كوجهاء جدد لم يمتلكوا بعد اوضاعهم المؤسسية. ولهذا تمكن محمد سعيد من ان يعود من منفاه بمسعى من عبدالحسين شرف الدين، الذي فشلت محاولته الاولى لأنه كان هو نفسه متهماً بالتعاون. لكن محمد سعيد في سنواته الاخيرة عاش في ضيق وحنق، ولدى وفاته انتُخب اخوه الحاج عبدالحسين رئيس بلدية. وهذا يكشف محدودية الزعامة التي احرزتها القيادات القومية الجديدة، لا سيما وان عبدالحسين بقي رئيس بلدية حتى وفاته في 1947. وفي 1951، وبعد فترة فراغ في البلدية، انتخب أحمد، نجل محمد سعيد، لرئاستها لكنه ما لبث ان استقال، او اقيل، بسبب تردي وضعها، فتسلّمها موسى الزين شرارة حتى 1967 - 1968 حيث استقال. والأخير تسلّمها بانتخاب جاء تسوية بين كل العائلات التي تشكّل منها المجلس البلدي. لكن تدريجاً لم تعد البلدية مركز ثقل، ولم يعد فرع قاسم في متن العلاقة بالدولة وزعاماتها الجديدة، كالصلح والاسعد وعسيران. وتم ذلك تحت وطأة نشاط القيادات الجديدة والطموحة، اي عبداللطيف بيضون وعلي بزي. والحال انه منذ اوائل الاربعينات تردّت علاقة الوالد بعلي بزي، فساد جو توتر دائم بين الحيين وتراشق بالحجارة، ولم يخل الامر من اطلاق رصاص ادى الى سقوط جرحى، كما ضُرب علي مرةً. ومن دون ان يتماثل النزاع في بنت جبيل مع ثنائىة الأسعدية واللا أسعدية، ففي 1951 رشّح الوالد نفسه على لائحة الخليل - عسيران وترشّح بزي على لائحة الأسعد التي فازت يومها بالمقاعد ال14. كانت العروبية ضامرة في معارك علي بزي الانتخابية، وكان لصداقته برياض الصلح دور في ذلك. ولأن الصلح كان، على العموم، على خصومة مع الأسعد، ولو تعاونا في هذه الفترة او تلك، فقد بدا بزي، على العموم ايضاً، خصماً للأسعديين، على رغم تعاون كالذي رأيناه في 1951. في غضون ذلك وبنتيجة الضائقة واحباطه ب36، هاجر موسى الزين الى سييراليون، في غرب افريقيا، حيث قضى ما بين 1938 و1947. ففي لبنان عمل، بالاساس، تاجر جلد مع فلسطين، وحين اكتشف "فساد لبنان الاستقلال"، لم تحل صداقته مع الصلح وبزي دون نظمه قصائد مقذعة ضد لبنان والاستقلال والعهد. وكان في الثلاثينات، هجا المشايخ فكفّره عبدالحسين شرف الدين، وفي الاربعينات تعرّض لمحاولة اغتيال من جماعة الاسعد. بيد انه في 1951، وكان عاد من هجرته، صالح الأخير لاصطحابه علي بزي على لائحته. وكانت الصورة العامة التي يحملها شعر موسى الزين أن لبنان مزرعة، وابطال الاستقلال اصبحوا تجارا وسماسرة، وأن لا شيء تغير عن ايام الاتراك والفرنسيين. وكان في شعره غصّة مفادها ان احلامنا تضاءلت من المملكة العربية الى لبنان لتكون النتيجة على هذه الحال. وكان لشعره هذا ومعانيه ان مهّدت السبيل امام الاحزاب القومية. ولم يكن صدفةً أن محسن الأمين، وهو الذي رعى ابناؤه جيلاً من القوميين، كان احد الذين ابطلوا تكفير موسى الزين. وكان الشيخ علي الزين من الممهّدين لبعثية البعثيين الجنوبيين ممن كانوا متعلمين جددا، اي خريجي مدارس رسمية او اسلامية اتبعت المنهج الرسمي و"تحدّثت". وفي بنت جبيل كان حزب البعث حزب بيت شرارة اذ انتمى اليه في الخمسينات الإخوان عدنان وغسان واحمد الذي ربما كان مؤسس الحزب في البلدة، هو الذي عمل استاذا في التعليم الابتدائي قبل ان يغدو موظفا في المالية، ثم انتسب الأخوان طلال واسد شرارة. وقد انضم الى البعث افراد من بيضون وبزي لكنهم لم يصبحوا من وجوهه ولم يسموه بميسهم، وهو ما يصح في المنتسبين منهم الى الحزب الشيوعي او حركة القوميين العرب. فالركن الاساسي للحركة هناك كان الرسام عدنان شرارة. لقد اتجه شبان آل بيضون نحو الحزب السوري القومي، وبعلاقة تتراوح بين رضا الوالد وتوتره، اذ كان يرى في هذا الحزب استمراراً للفكرة السورية، كما رأى فيه، عائلياً، احتمال استقواء مقبول بطرف حزبي له وجود واسع، في مقابل الانتماءات الحزبية الاخرى. وساد انسجام سلوكي بين القومي السوري وبيت بيضون أساسه المراجل والوطنية الممزوجة بشدة العصبية وفكرة السلاح. فسلوك الحزب لم ينافر سلوك عائلة صغرى وأقلية في القرية هي، في الوقت نفسه، ذات مطامح كبرى. لقد نما البعث والقومي السوري لارتباطهما بعائلتين، فيما نمت الحركة وسط جيل اصغر فانتسب اليها شراريان وبيضونيان وبزيان اعمارهم بين ال15 وال17. لكن الاحزاب القومية، ومؤسسوها في بنت جبيل درسوا خارجها ما بين صيدا وصور والنبطية او في بيروت، فرضت جوّها ما بين اواخر الخمسينات واواسط الستينات. فكان الحزب حين يدعو الى مهرجان بمناسبة الوحدة المصرية - السورية مثلاً، يحضره وجهاء القرية وزعماؤها، رغم شعورهم بالغيظ الداخلي حيال هؤلاء "الصبية". والشيوعيون، في المقابل، وُجدوا كأشخاص لكنهم لم يصلوا الى حالة استقطاب عائلي. ولئن ضمّوا افراداً من عائلات مختلفة الا انهم بقوا على هوامشها جميعاً. فكان ابراهيم نعيم بزي احد اوائلهم اذ ترقى شيوعيته الى الاربعينات، وهو كان صاحب مقهى في بنت جبيل، فسلك سلوك "الغارسون المتنوّر" الذي يتحدث في الادب والشعر فيما يحضّر الشاي. كذلك وُجد نجار شيوعي. وكان الشيوعيون جميعا قد تأثّروا بانقلاب حسين مروّة ومحمد شرارة وهاشم الأمين من مشايخ الى شيوعيين. اما اليسار الجديد فكان المبادرون اليه ذوي تجارب حزبية سابقة، وتعرّضوا لتثاقُف وفرْنَجة كانا جديدين على البلدة، حتى قياساً ب"غربية" الشيوعيين الذين قرأوا بالعربية وكانوا محليين جداً. ومع وصول اليسار الجديد الى القرية لعبت العلاقات العائلية دوراً، فأنا وأخي كنا في "لبنان الاشتراكي" ومن بعده "منظمة العمل الشيوعي"، ومعنا نوّاف دباجة ابن العائلة الصغيرة التي انتسب منها كثيرون حتى صار اسم المنظمة في بنت جبيل "حزب بيت دباجة". وبصورة عامة كان الحزبيون طلاباً وبضعة حِرَفيين. وقد التف حول السيد موسى الصدر عدد من الشبان الذين كانوا يلتقون في الجامع ممن أسموا أنفسهم "حركة المحرومين". لكن علاقات الصدر مع زعماء البلدة دوبلت عليهم. فعلي بزي، مثلا، كان في جوّ الامام، والوالد، رغم أسعديته آنذاك، احتفظ بعلاقة جيدة معه ولو تخللها توتر. وبهذا لم يتشكّل للصدر جسم مميز ومستقل عن البنية السياسية التقليدية في بنت جبيل. وكان المحيطون به ذوي نشاط موسمي لم يتهيأوا لما هو اكثر جدية ومواظبة منه. فاقتصر عملهم على المناسبات الدينية وتعليق اليافطات المطلبية. وهم كانوا، غالبا، من جماعات مسحوقة ومفقرة ومن اطراف اجتماعية. لكن الكلام على بنت جبيل لا يكتمل من دون الكلام على الهجرة، لا سيما الى ديترويت، التي يرقى بدء تاريخها المعروف الى 1912. يومها سافر بضع عشرات، وقد يكون ان احدا توجه في سنوات سابقة لكن الأسماء، قبل 1912، لم تُعرَف. ولم يطغ على الهجرة لون عائلي، فمعظم العائلات لها أصول مهاجرة في الدفعات التي تتالت. وفي الربع الاول من القرن ظهرت هجرات طالت جميع العائلات الأساسية. كذلك ففي الفترة نفسها تقريباً بدأت هجرة لأميركا الجنوبية خاصةً الأرجنتين، وبعدها قليلا، اي اول العشرينات، الى سييراليون والسنغال في افريقيا. واذا ما اخذنا الجنوب ككل، بدت العائلات والقرى الأقل تأثّراً بالهجرة تلك الفلاحية حيث يمكن لعمل الارض ان يعيل، وحيث هناك حرص على عدم تركها. والأرجح أن الذي جعل بنت جبيل من البلدات التي ضربتها الهجرة بحدة، هو انها، كبلدة زراعية، لم تكن في المستوى الاول زراعياً. فالاراضي الجيدة فيها قليلة نسبيا، وهناك تراث حِرَفي وآخر تجاري فيها ربما أثّرا في اتجاه الهجرة ومغامرتها. وكانت ديترويت من المراكز الاساسية، لكن حجم الهجرة اليها زاد على باقي المناطق منذ الستينات بسبب قانون الهجرة الاميركية، وقبل ذلك كان ثمة تعادُل بين المراكز المقصودة. ثم هناك من فرّ من افريقيا، او لم يوفّق في الخليج، فانتقل الى ديترويت مع اقرار القانون الجديد الذي سهّل الهجرة على أساس القرابة. تخلل هذا السياقَ موجةٌ طرأت بعد 1948، وكانت وجهتاها اميركا الجنوبية، مرة اخرى، والخليج. وقد حصل هذا بنتيجة ضمور سوق بنت جبيل التجارية بسبب انقطاع علاقات العمل والتجارة مع فلسطين. وظهرت جاذبية بيروت كمركز، ولم تكن قبلا غير واحد من مراكز رسمية عدة. وهي شرعت تصبح جاذباً لهجرة الحِرَفيين بصورة رئيسية ممن سكنوا في النبعة وبرج حمّود خاصة، حتى أنه في اوائل السبعينات اعتُبرت بنت جبيل ثلاثة أثلاث كل واحد منها قرابة 10 آلاف نسمة: ثلث فيها وثلث في بيروت وثلث في سائر المهاجر. والآن بنت جبيل فيها اقل من عُشر عدد السكان، اي 4 آلاف او اقل، بينما يبلغ عدد الموجودين حاليا في ديترويت 17 الفا، وفي بيروت هم كثيرون جدا خصوصا ان سنوات الحرب اطلقت حِراكاً سكانياً هائلاً في اتجاهها. والحال ان الاربعينات والخمسينات، بما فيها قيام اسرائيل وتوسّع الهجرة، كانت منعطفاً أساسياً في ما خص الذين بقوا في بنت جبيل والذين انتقلوا الى بيروت، اي في التأسيس لشواغل مدينية وحزبية لاحقة. فقد كانت فترةَ التركيز اللبناني لقيادات البلدة وجمهورهم الذي كان حتى ذلك التاريخ عروبياً. وفي الآن نفسه، وكما أشير قبلاً، كانت فترةَ ازدهار التيار العروبي والحزبي عند الجيل الثاني الطامح لوراثة جيل 36. هكذا طغت اعتبارات ومعايير النيابة وانضواء البلدة في الدولة اللبنانية ومطالبتها بالرعاية، وتكاثر عدد الموظفين وتحولت الدورة التجارية نحو بيروت، فحصل انقلاب باتجاه الانخراط اللبناني عند الجمهور ذي الاوضاع المستقرة، لا سيما جمهور الفعاليات الاقتصادية والسياسية. وتعددت تعبيرات الحالة الاجتماعية بالنسبة لمن هم في بيروت. فعند الحِرَفيين كانت هناك الاقامة الزرية في الضاحية الشرقية من بيروت وسط اكثرية مسيحية وارمنية، وفي ظل فرص تعليم سيئة ومدارس مجانية. ولم يستطع هؤلاء بمداخيلهم البسيطة اختراق هذه الحدود، اذ لم يتحول الا عدد ضئيل جدا منهم الى اصحاب مؤسسات مزدهرة. اما قبول السوق انتاج الحِرَفيين والسماح لهم بان يعملوا، واستبعاد البطالة، فلم تخفّف من أثر رداءة المداخيل ولا حالت دون الانسحاق النفسي والثقافي. وفي مجال آخر جاء انشاء رشيد بيضون "الكلية العاملية" في بيروت ليشي ببعض التحولات. فقد كان المطلوب في اوساط المهاجرين الجنوبيين اقامة كلية في جبل عامل لا في بيروت، وهي حملة رعتها مبكراً مجلة "العرفان" التي كانت مقروءة جداً في المغتربات. فالمدارس كان صيتها انها تحرّر من الاقطاع وتزيد حصة الطائفة والمنطقة، خاصة وأن الموارنة كانوا يقولون للشيعة: انتم لستم متعلمين، وهذا ما كان يجرح. هكذا ساهم المغتربون في بناء مدرسة في جويا في الخمسينات، وفي بنت جبيل اول الستينات. لكن تحريض "العرفان" والمهاجرين على ايجاد كلية، واقامة هذه الكلية في العاصمة، جاءا كعلامة تسليم بدور بيروت الجديد التي نما فيها وزن الشيعة. اما في ما خصّني، فقد درست في مدرسة رهبانية مارونية هي دير مشموشة، قرب جزين، خلال 1956 - 1958، وكنت يومذاك قومياً عربياً من دون ممارسة تنظيمية فعلية، اذ لم يكن عمري في 1956 يتجاوز ال13 سنة. واصطدمت قوميتي مع جو الدير، لكنْ حصل التباس بين وضعي السياسي وبين كوني ولداً مدللاً في الدير. فقد كنت اكتب الشعر ويُلجَأ اليّ في مناسبات الدير للاستماع الى شعري بما في ذلك بعض الغزل الاباحي، وكانوا يحبونني. وكان مدير المدرسة، وهو من رميش، صديقاً لوالدي فلم اشعر انني موضع تمييز في المدرسة، بل كان ثمة تمييز لصالحي. وكنت شاطراً، وفي الفرنسية افضل من كثيرين، وكانت لدي جاذبية لهذه اللغة دفعتني الى قراءة روايات بها، وكان لاستعارتي الكتب من مكتبة الدير ان جعلتهم يعيّنوني مسؤولاً عن المكتبة. هكذا كان "الماروني" حاضراً فيّ مبكراً يعزّزه الحَضْن الذي احظى به. لكن ما كان يقابل هذا الحَضن من نفور سياسي، في ظل ازمة السويس، كانت له عدة تعابير. فقد صمت هناك قسما كبيرا من رمضان، وهذا ما لم اكن افعله في بنت جبيل. وصرت اقرأ القرآن، وربما كانت هذه فترة التأسيس الفعلي لعلاقتي بالقرآن حيث رحت احفظ، بعدما كان منهلي العربي "نهج البلاغة" الذي وُجدت منه نسخة في البيت الى جانب القرآن واعداد من "العرفان" وصحفٍ وقاموس. والى ذلك انتابتني هناك بدايات الحادية بدأتْ بالتعلّق بأساتذة منهم جوزيف خوري وجوزيف نجيم والمسلم عفيف الشريف الذي كان ينسب نفسه الى الوجودية. وهكذا رحنا نثير معهم في الصفوف مسائل فلسفية لم يكن البحث عن التماسك مقصوداً فيها. وفي 1958 درست في المقاصد حتى 1960، لكني خلال 1960 - 1963، وهي فترة دراستي في الجامعة اللبنانية، احسست أن الشهابية ثقيلة ومزعجة وبوليسية، وهكذا انتكست من القومية العربية أسعدياً، رداً على الشهابية وعلى طغيانها. وفي 1963 - 1964 تمركست في فرنسا، فجاءت ماركسيتي رداً على الكلام المقولب والعمالة للدول، ممثَلين بالحزب الشيوعي. كنت أقرأ "النداء" بانتظام في باريس وأنفر وأحس ان الجريدة لا تحترمني كقارىء. وكنت آنذاك في دراستي الفلسفية اقرأ الوجودية وأتأثّر بسارتر وميرلو بونتي وكامو، وهو ما اعطاني حساً اخلاقياً عنيفاً لم اعد استطيع معه التكيّف مع كذب الشيوعيين. وقد بتّ على يقين بأن لا احد يستطيع ان يجرّني ويلعب فيّ، وان من حقي ان افهم. ومجيئي الى الماركسية كان الجسر اليه كتاب سارتر "نقد العقل الجدلي" الصادر في 1960، فمنذ البداية احسست ان تمركسي هو عنصر تأليف ثقافي تدخل فيه الوجودية وعلم النفس والظاهراتية، فلم اشعر ان علاقتي بالماركسية اوثق من العلاقة بعلم النفس. لقد بدا لي الشيوعي النقيضَ الفعلي للفرد اليساري الجديد. وخشبية الكلام والانشاء غير الشخصي كانا اكثر ما ينفّرني من الشيوعية، وكذلك الطقوس والولع بالتراتُب والألقاب والطاعة حتى ابادة الذات. وكنت ارى ان الشيوعيين ينتمون مبدئياً لفكر شامل، وان هذه العنعنات والصغائر والدسائس، كما رأيناها في الجامعة، تغاير كل فهم رحب لماركسية رحبة. اما الميل الى التسوية في كل شيء فأقرب الى نزعة ضيعوية لم يبارحها الشيوعيون. وأذكر أني حين قرأت ماركس أحببته. اما لينين فلم يقنعني ولم أحب كتاباته، هو الذي لم أقرأه حتى انتسابي الى "لبنان الاشتراكي". وما اكرهه في لينين نخبوية الحزب وتآمريته والسياسية الضيقة، فضلا عن اللغة والكتابية السيّئتين. لقد فضّلت عليه تروتسكي في كتابه "حياتي"، وكنت حزبياً أتهم الشيوعيين بالخروج على اللينينية، لكنني بيني وبين نفسي اظن انهم اللينينيون الوحيدون. وفي المنظمة قرأت الانتقادات اليسارية للتجارب الاشتراكية. والحال ان العمل الثقافي هو ما استهواني دائماً اكثر من الشق السياسي البحت. فقد كان من الاسباب الضمنية الدافعة الى الاندماج مع منظمة الاشتراكيين اللبنانيين حاجتنا الى سياسيين، وهم سياسيون. وابان فترة الاندماج كانت جماعة منظمة الاشتراكيين تتعلم ويُقرّ افرادها بانهم يتعلمون. وما النهج المتطرف الذي اتبعناه في المنظمة غير تعبير عن عدائنا للسياسة، وعن غلبة الثقافي على السياسي لدينا، نحن الذين لم نكن نتحالف مع احد.