قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز وحسين الحسيني وسونيا دبس وسعيد صعب وجورج ناصيف: محمد محيي الدين: حزب البعث ولدت في قرية الزرارية عام 1942 لأب عامل، وانتقلت في 1958 الى بيروت للعمل والدراسة. في 1958 تعرفت على البعث. الأمر بدأ تعاطفاً وتأييداً للطرح القومي. في الأرياف الشيعية لم يكن عبدالناصر مؤثّراً الا بمعنى فضفاض، وبالطبع غير تنظيمي. الشيعة الذين انتموا في فترة لاحقة الى التنظيمات الناصرية كانوا شديدي الهامشية. شيعة الجنوب كانت عروبتهم بلا مركز وبلا مدينة، لهذا نظروا الى الأحزاب. الشيخ علي الزين كان من الذين يحضّون على الانتساب الى البعث، وكذلك كان يفعل خليل شرف الدين، الأستاذ في الجعفرية في صور، وهو من قرية الزرارية أيضاً. وهناك ايضاً جعفر وحسين شرف الدين، زوج رباب الصدر: هذان كان البعث قد نهش قاعدة والدهما السيّد شرف الدين. المدرسة الجعفرية كانت منطلق البعث في الجنوب الشيعي، والمقاصد كانت تلعب الدور نفسه في صيدا بين الشبان السنّة. في هذا الوسط انتسب فلسطينيون في صيدا كان ابرزهم اسعد راشد وجلال كعوش وخالد البرد، لكنهم بعد انشقاق 1962 الذي قاده متعاطفون مع اكرم الحوراني، ايدوا الانشقاق، وفي ما بعد شكلوا الأساس اللبناني المنظّم لحركة "فتح". الالتحاق بالبعث في بيروت، تم عن طريق صديق من القرية كان يعيش ايضاً في العاصمة. كان يعرف شخصاً بعثياً، وكان هذا بدوره يعرف شخصاً آخر، ورحت اتعرف عليهم الى ان التقيت بالبعثي الفلسطيني خالد يشرطي، وتم تنظيمي اواخر 1958. عام 1959 كان عام المد القومي في لبنان، لكن ما لبث ان ظهر الخلاف الناصري - البعثي. في بيروت ظهر التحدي البعثي ضد "الشارع" الناصري - الشهابي. في طرابلس هرب عبدالمجيد الرافعي، بعيد انتخابات 1960، الى سويسرا، وصار هربه لاحقاً مأخذاً عليه اذ لم يصمد في وجه الناصرية. في صيدا ظلت الأمور أفضل بكثير. في بيروت يومذاك كان البعث يتحرك من خلال شبان كمحمد خير الدويري وبعض شبان آل شاتيلا وشبارو وعيتاني، كمحمد زكريا عيتاني وعبدالوهاب شميطلي. اكثرية هؤلاء كانت من البيارتة وسنّةً. وهم كانوا المثقفين والصحافيين والقادة، كما كانوا من أسر ملاكين متوسطين وصغار وأصحاب مصابغ وحِرَف. اما قاعدة البعث في بيروت فكانت اكثريتها شيعية: عائلاتٌ جنوبية نازحة الى العاصمة، وكان ممن برزوا بين هؤلاء طلال وغسان شرارة، وفي جيل اصغر، عبدالامير عباس. على ان التمايز الطائفي في البعث لم يكن ملحوظاً. النزاع مع الناصرية حمل البعض على الخروج، وبعضاً آخر على الفتور. محمد زكريا عيتاني ومحمد خير الدويري كانا من هؤلاء، رغم ان الثاني عاد لاحقاً بسبب انتصار الخط العفلقي الذي اعتبره انتصارا للخط الوحدوي. بعض الشبان البيارتة ايضا خرجوا او فتروا، ومنهم من ضغط عليهم اهلهم كي لا يبقوا في البعث. الانشقاق الناصري الذي قاده الفلسطيني - الأردني عبدالله الريماوي والعراقي فؤاد الركابي، لم يترك تأثيراً ملحوظاً على الحزب في لبنان. خرج سامي الرفاعي ومعه عدد لا يُذكر. وسامي سني من بعلبك، شقيق للنائب اللاحق حسن الرفاعي. لكن في المؤتمر الخامس للحزب، في 1962، حصل الانشقاق الاهم ومن موقع آخر. فقد خرج المتحفظون عن الناصرية والحورانيون. في لبنان كان الانشقاق اوضح ما يكون، ومن اسباب ذلك وجود "القيادة القومية" آنذاك في بيروت. أبرز اللبنانيين الذين انشقوا كانوا غالب ياغي، وهو شيعي من البقاع، وغسان شرارة، الجنوبي الشيعي، وعبدالوهاب شميطلي، السني البيروتي. وكان من قادة الصف الثاني ألبير منصور، الكاثوليكي البقاعي، والسنيان فؤاد شبقلو من بيروت، وحسيب عبدالجواد من صيدا. أما أبرز الباقين في الحزب فالطرابلسي السني عبدالمجيد الرافعي، والفلسطيني - اللبناني خالد يشرطي، والشيعي الجنوبي علي جابر، والمسيحيان الارثوذكسيان، البيروتي فالشمالي، جبران مجدلاني وجهاد كرم. الذين انشقّوا طغى على جسمهم النقابيون والعمال والطلاب. كان قائدهم الطلابي طلال شرارة، وبين قياداتهم النقابية علي حوماني، رئيس نقابة عمال المرفأ، كما كان من وجوه المنشقين خليل بركات، رئيس بلدية كفر دونين. والثلاثة شيعة جنوبيون. الأغنياء والمثقفون بقوا مع عفلق. ودارت مآخذ المنشقّين على مركزية التنظيم ونقص الحرية المتاحة للقيادة القطرية ومحدودية أثر مؤتمراتها وسياساتها. وحين يكون عفلق في بيروت كلاجىء او مقيم، كان يهادن السلطة ويطالب البعثيين اللبنانيين بأن "أتركوا لنا الساحة اللبنانية كملجأ". وكان المنشقون نقديين اكثر من سائر الاطراف، للشهابية. وفي وسطهم ظهرت فكرة "الانعزالية الجديدة" التي صاغها لاحقاً منح الصلح. آنذاك حصلت محاولة انقلابية في ليبيا ضد ادريس السنوسي، فوقف عفلق ضد الانقلاب كرمى لعبدالناصر، ووقف المنشقّون مع الانقلاب، لا سيما منهم الطلبة. ومن المآخذ الأخرى أن المنشقين أرادوا توسيع القاعدة شعبياً وعمالياً، فلا يبقى البعث محصوراً ضمن النطاق الثقافي والمدرسي. كانوا ينددون بديكتاتورية عبدالناصر وعدائه للأحزاب واعتماده على المخابرات، معتبرين ان سبب انهيار الوحدة هو حل الحزب الذي تتحمل القيادة التاريخية مسؤوليته. وكانت تغريهم صورة الحوراني كقائد شعبي اكثر بكثير من صورة عفلق كمثقف. الحوراني بدا لهم بمثابة "قائد في الشارع". وكانت وراءهم تجربة النبطية، اي بدايات العمل المطلبي بين مزارعي التبغ. كذلك ففي صيدا كان حسيب عبدالجواد قد احرز نفوذاً جدياً في النقابات التي بناها بنفسه. اما في بنت جبيل فكان غسان شرارة قد بنى قيادة شعبية تتصدى للجيش. العفلقيون كانوا يتهمون المنشقين بالماركسية، لكن الاخيرين ما كانوا قرأوا كتباً ماركسية، علماً أنهم ربطتهم صداقات بشيوعيين. شميطلي، مثلاً، كان على صداقة بنخلة المطران تبعاً لعضوية الاثنين في "لجنة التضامن الآفرو آسيوي" برئاسة كمال جنبلاط. كان شميطلي، المتخرج لتوّه من اليسوعية، وغالب ياغي الذي كان طالباً، وعبدالرحمن منيف، البعثي غير اللبناني، اكثر المتهمين بالماركسية. شميطلي كان مدير تحرير جريدة "الصحافة" البعثية الأسبوعية، وكان مدير الادارة البعثي الدرزي فؤاد ذبيان الذي انضم، هو الآخر، الى المنشقين. ومعهم انشق ايضاً حسين عثمان من بعلبك، الا انه عاد لاحقاً. وانشق، كذلك، من طرابلس حسين ضناوي واحمد علم الدين وعبدالله الشهّال. المعترضون بعد ان يئسوا من امكان التصالح مع الحزب، فكروا في امكان تأسيس حزب. راحوا يشاركون في النشاطات الشعبية كمجموعة مميزة، ثم راحوا ينسّقون مع نخلة المطران الذي كان دخل، بدوره، طور الرفض لوعاء الحزب الشيوعي. وحينما خرج محمد كشلي ومحسن ابراهيم من حركة القوميين العرب وأنشئت "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، بدأ حوار معهم. هذه النشاطات كلها لم تثمر ويئس المنشقون من امكان الخروج من الحزب وايجاد بديل افضل، فكان الحل تأييد "فتح" في بداياتها. وكان في ريادة هذا الاتجاه عبدالجواد ومجموعة صيدا وغسان شرارة. قلةٌ منهم ذهبت الى الاحزاب الشيوعية واليسارية، وقلةٌ عادت الى البعث لاحقاً، لا سيما بعد وصول البعث الى السلطة في العراق وسورية عام 1963. عباس بيضون: صور/ منظمة العمل لم ينفصل نمو "حركة القوميين العرب" في صور عن رغبة أهلها في زعامة محلية لهم. كل العائلات السياسية في قضاء صور ليست من المدينة: شرف الدين من شحور، وصفي الدين من شمع، والخليل من معركة، وهي قرية كانت مملوكة لهم، اضحت، بدورها، قلعة للحركة. والحال ان الاخيرة نمت بين شيعة صور في مواجهة نفوذ آل الخليل، هي التي كانت دفعت باتجاه طردهم في 1958. لكن الاقبال عليها عموماً والتصويت لمرشحها الزيّات، وهو صُوْري، كانا رفضاً للزعامة الريفية. فصور كانت اول قضاء في الجنوب يستقل فعلياً عن زعامة آل الأسعد: في 1957 هُزم أحمد الأسعد، وفي 1960 لم يترشّح أي أسعدي فيها، رغم دعم الأسعد لتحالف محمد صفي الدين وجعفر شرف الدين في مواجهة كاظم الخليل. وقيادات الحركة في صور كانت شيعية أساساً، لكنْ بين جمهور الحركة، وخاصة بين قبضاياته من عائلات محفوظ وجودي والمملوك، كان الوجود السني ملحوظاً. كذلك نمت الحركة بكثافة في قرى قضاء صور، كمعركة، ولكنْ أيضاً في يارين وهي قرية سنية بدوية. ووُجدت في الوسط الفلسطيني في المدينة، وكان من قياداتها هناك بعض من هم فلسطينيو الأصل كمحمد خليل، كما كُتبت للحركة سيطرة تامة على "مدرسة الاتحاد" الفلسطينية. وفي الستينات حافظ الحركيون على نفوذهم بين السنّة والفلسطينيين، الا ان هذا النفوذ، بدءاً من 1960، بدأ يذوي ويتراجع بين الشيعة. وفي 1968 حين دعت الحركة الى موقف سلبي من الانتخابات لم يستجب الا عدد قليل جداً. على المستوى اللبناني، لم تكن لحظة تحول القوميين العرب الى "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، لحظةَ استقطاب. كانت لحظة تخلص من كبار السن والتقليديين واليمينيين وصغار الوجهاء. محسن ابراهيم لعب لعبة التشحيل هذه ببراعة بوليسية مدهشة، وهكذا تحوّل يساريو الحركة الى قرّاء، وصارت الماركسية وكتبها هي النشاط التنظيمي الأوحد. فمن قرأ أكثر تصدّر أكثر. وبعد تأسيس "منظمة العمل الشيوعي" على اثر اندماج "لبنان الاشتراكي" و"منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، ضم المكتب السياسي الاول محسن وحكمت العيد ورفعت النسر وأنا عن منظمة الاشتراكيين، ووضاح شرارة وأحمد بيضون وفوّاز طرابلسي عن "لبنان الاشتراكي". وما لبث أن تم اسقاط محمد كشلي وأشباه المثقفين ممن اتوا من "لبنان الاشتراكي"، وهذا ترتيب وضاحي هدفاه: الاحتفاظ بالخبرات النضالية لجماعة القوميين العرب سابقاً، والتخلص من اشباه المثقفين الذين ما لبثوا ان انتقموا من وضاح بانشقاق "المكتب العمالي". كشلي وجد مخرجه في "الجبهة الديموقراطية" التي طرحت مسألة مجلة "الحرية" فوقف معها. ومحسن أحس بعزلة ثقافية ونضالية وحاول اللحاق، كما أحس باستياء عندما طُرحت مسألة تفرّغه وبما يشبه الاهانة الشخصية. يومها فكّر بالانشقاق وفرز جماعته عن "لبنان الاشتراكي". وبقي وضاح، في منظمة العمل، القائد الفعلي للتنظيم. كان مفكّره والمنظّم في آن معاً، الى أن فكّر، لأسباب غامضة لديّ، أن يذهب الى فرنسا أوائل السبعينات، من اجل الدكتوراه. آنذاك بدأ محسن يعود الى الواجهة ويطرح ضرورة العمل السياسي الأكثر صراحةً ووضوحاً. عارضه احمد بيضون وفواز طرابلسي من موقع يساري، ثقافي، طهراني. ودار أمرّ النقاشات والخلافات حول الموقف من انتخابات 1972: تصويت ام لا تصويت للوائح الجنبلاطية وحلفائها. يومها كان فواز المعارض الأشرس لخط محسن. لكن مع عودة وضاح في 1973 حاملا نظرياته الجديدة، انفجر النزاع وكان الانشقاق. ناصري لم يُرد ذكر اسمه: الناصريون في 1963 نشأ اول تنظيم ناصري كتنظيم يلتزم شعار جمال عبدالناصر "التنظيم هو ضمانة استمرار الثورة". انشىء التنظيم خلال لقاءات ابتدأت في 1963 في منزل كمال شاتيلا، وكان ذلك بعد طرح عبدالناصر فكرة "الحركة العربية الواحدة" رداً على الانفصال ومشاريع البعث للتوحيد. لكن الى جانب محاولة شاتيلا كانت هناك محاولتان أخريان: الأولى لعبدالرزاق يوسف دوغان، الطالب في الجامعة العربية، باسم "الحركة العربية الواحدة". والثانية كان تحركاً حمل اسم "المثقفون الثوريون"، وكان على رأسه عصام العرب. ومن خلال حوارات بين شاتيلا والعرب، اتُفق في النهاية على تشكيل "اتحاد قوى الشعب العامل". وجرت حوارات اخرى بين شاتيلا ودوغان لكن اعتبارات التصدّر والتنافس العائلي البيروتيين حالت دون التوصل الى نتيجة. وشاتيلا كان في 1963 طالب حقوق في الجامعة اللبنانية، وكان على صلات واسعة وبأناس متعددي الاتجاهات. في الفترة نفسها، 1963 - 1964، ظهرت محاولة اخرى في الجامعة العربية ارتبطت بالطالب خليل شهاب وحملت اسم "وحدة النضال العربي". كما ظهرت محاولة لسمير كبريت وابراهيم منصور وطلال سنو واحمد حمّود، وهم طلاب في الجامعة العربية، سمّوا انفسهم "الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني"، وقدموا انفسهم كامتداد للاتحاد الاشتراكي في سورية الذي كان امينه العام جمال اتاسي. على ان هذه المحاولات جميعاً انحصرت في الطلبة الجامعيين دون اي اثر لها في الشارع. اما "المرابطون" فلم تكن محاولة تنظيمية، ولا تنظيما. كل ما في الامر ان ابراهيم قليلات ومجموعته تشكلوا في ثورة 1958 كطرف مقاتل، وكان قليلات مرافقا كبيرا لصائب سلام، وهناك تقليديا علاقات ودّ بين اسرتي سلام وقليلات. وفي 1974 طُرح على قليلات اقامة تنظيم ناصري موحد مع الآخرين. طرح ذلك خليل شهاب وطلال سنو ورشيد قباني وجلال بكداش، مقترحين عليه الانضمام الى "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي كان نشأ فعلاً نتيجة مؤتمر القوى الناصرية الذي انعقد في ليبيا في 18 آذار مارس 1973. لقد انبثقت من هذا المؤتمر دعوة لانشاء الحركة العربية الواحدة، وشُكّلت لجنة برئاسة الدكتور رفعت محجوب الذي كان ناصرياً يومذاك. وكان رد قليلات: أنا تنظيم عسكري وعملي تحت الأرض، انني أمضي على بياض معكم لكنْ هذا وضعي. أما في طرابلس فكان فاروق المقدّم الذي اعتبره الكثيرون ظاهرة مشابهة لقليلات في بيروت، خليطاً ناصرياً ويسارياً وفلسطينياً. انه لا تنطبق عليه مواصفات الناصرية. قليلات وشاتيلا والعرب ودوغان وشهاب وكبريت، كانت اعمارهم في اواسط الستينات تتفاوت بين اواخر العشرينات لأكبرهم قليلات، وما يقرب العشرين لأصغرهم كبريت، وشاتيلا يقع في الوسط. وهم كلهم سنّة بيارتة، يعود بينهم عصام العرب، في اصوله، الى عرب المسلخ. وقليلات قبضاي وابن تاجر، وشاتيلا وكبريت من عائلتي ملاكين صغار، ودوغان، ابن يوسف دوغان رئيس نقابة تجار الخضار والفاكهة، وهو في وقت مبكر توقف عن العمل السياسي، اما شهاب فمن اسرة ملاكين صغار في رأس بيروت. ووحده عصام العرب انتمى الى طبقة فقيرة. حتى 1970 كانت التنظيمات الناصرية كلها غير محسوس بها على الصعيد الشعبي. لم تكن اكثر من بؤر منظمة وسط تيار جماهيري كاسح. وزاد في سوء الوضع مجيء المقاومة الفلسطينية الى لبنان في 1967، وخصوصاً بعد معارك 1970 في الاردن. فقد طرأ خلل في رؤية القيادات الناصرية البيروتية للمقاومة: خليل شهاب رأى ضرورة الاقتراب منها والتحول محاميا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشاتيلا، في المقابل، اختار الوقوف ضد "فتح" من البداية، خصوصاً بسبب موقفها من القاهرة. مع رحيل عبدالناصر، في 1970، خرجت اول تظاهرة ناصرية منظمة بقيادة شاتيلا شارك فيها 30 الف متظاهر. ثم جاءت، في 1972، ادارة المعركة الانتخابية لنجاح واكيم. تنظيم المعركة كان يستند، من دون شك، الى خلفية تفاهم مصري - سوري - ليبي، وقد اختير نجاح لأنه مسيحي لا بد ان يصوّت له المسلمون. التصويت كان لعبدالناصر وليس لشاتيلا وواكيم، الا ان تنظيمهما صار في وسعه، وبراحة، ان يعتبر نفسه التنظيم الناصري. لكن الضربة الناجحة هذه التي ضربها شاتيلا، سريعاً ما اعقبها شعوره بالغيرة من نجاح. في 1972 تعرض "اتحاد قوى الشعب العامل" لطفرة ولانتشار عجز التنظيم عن استثمارهما في كل لبنان. ونشأت آلية حزبية كانت تُجرّب لأول مرة من خلال التثقيف، ومن خلال عمل شعبي ومطلبي غريب تقليديا عن الناصرية: ماء، كهرباء، بطالة، نفايات وتنظيف الخ. لكن قبل ذلك وفي 1971 كان حدث تطور مهم ترك تأثيرات لاحقة ضخمة. فشاتيلا كان ارتد ووقف مع انور السادات في معركته مع علي صبري واليسار الناصري، وقاد تظاهرة مؤيدة له اتجهت الى السفارة المصرية في بيروت، وهذا مع العلم ان كمال بكى للوهلة الاولى حين عرف بأحداث مايو وقال: راحت مصر. فشاتيلا لم يكن مرضياً عنه في القاهرة قبل ايار مايو 1971، وكان جناح علي صبري يعتبره ولداً في تركيزه الآحادي على الوحدة العربية وغموض انتماءاته الاجتماعية. على اي حال، استمر في توجهه الجديد هذا لا سيما مع سحق الانقلاب الشيوعي في السودان، فنزل شاتيلا في تظاهرات ضد الشيوعيين في بيروت ورفع شعار "حكم الطبقة الواحدة يدوم ساعة، وحكم اتحاد قوى الشعب العامل يدوم حتى قيام الساعة". وتهيأت أجواء صدام بينه وبين الشيوعيين ممن كانوا يقذفونه بتهم التعاون مع اطراف شتى. في المقابل برز شبان ناصريون يرفضون سياسة السادات ويعتبرون انه انحرف بعد مايو، وفي مناخ التنافس على الزعامة بين البيروتيين برزت مجموعة "وحدة القوى الناصرية" التي تشكلت في معظمها من شبان يقطنون عين المريسة: محمد قباني، كمال يونس، منير الصيّاد، جلال بكداش. وحده يونس لم يكن بيروتياً ولا سنياً، اذ هو شيعي جنوبي من قرية زيتا في الزهراني، هاجر اهله الى بيروت. وهذه المجموعة تبنّتها الاحزاب اليسارية والمقاومة، وحاولت وضعها في مواجهة اتحاد قوى الشعب. وفي كل مهرجان كانوا يعطونها كلمةً تُلقى في مهاجمة شاتيلا. فوحدة القوى لا تعادي اليسار والشيوعيين، بينما تعادي السادات، فيما شبانها في تنافس على الصدارة البيروتية مع شاتيلا. محمد قباني من عائلة ميسورة، درس في الجامعة الاميركية، وكان اكبر افراد المجموعة. ويونس ابن تاجر صغير، درس في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية، والصياد من عائلة فقيرة هي عائلة صيادين في عين المريسة، تخرّج في التربية البدنية من القاهرة، اما جلال بكداش فنجل عبدالرحمن بكداش، رئيس نقابة القصّابين. وحصلت مجابهات بين التنظيمين، لكن وحدة القوى ظلت ضباطا من غير جنود، باستثناء بؤر محدودة في المصيطبة وحي اللجا، وحضور طفيف في منطقة صور. وفي المقابل، فالاتحاد انتشر، في 1972 وما بعدها، في الثانويات والجامعة اللبنانية ودور المعلمين، وشكّل "لجان العمل الجامعي" و"لجان العمل الثانوي" و"لجان العمل الشعبي"، واصبح له وجود تنظيمي ما بين الشمال والجنوب. لقد استقطب في الجنوب شيعة ووجودا فعليا. كان الاتحاد كله يتثقّف بكتب واحدة ولغة واحدة: كتب عصمت عبدالمجيد اساساً، وخصوصاً "أسس الاشتراكية العربية". والعضو ما كان يُقبَل او يصبح عاملاً ما لم يقرأ هذا الكتاب ويخضع لامتحان فيه. فالكتاب المذكور كان، في رأي شاتيلا، محك الفصل بين الناصري والشيوعي. لقد غدا الاتحاد التنظيم الجدي للناصريين في لبنان. والحال ان دور السادات، ودور ليبيا في المقابل، كان لهما ابعاد اخرى. فلقاء آذار 1973 في طرابلس الغرب، الذي تم بدعوة مجلس قيادة الثورة الليبي، حضره مئات الناصريين العرب قياديين وكُتّاباً ومثقفين وصحافيين، وكان الهدف الخروج ببرنامج للثورة العربية واداة لها. وقد انتهت النقاشات الطويلة الى نتيجتين: الاولى، حل جميع التنظيمات الناصرية والاندماج في الاتحاد الاشتراكي العربي، والثانية، تشكيل لجنة للاتصال بانور السادات برئاسة رفعت المحجوب وعضوية احمد كمال ابو المجد وعبدالوهاب الزنتاني وامين الأعور، والطلب اليه السعي لتأكيد التزام مصر بالناصرية. لكن اللجنة لم تجتمع ولم تقابل السادات. وفي اجتماع طرابلس هذا، وافقت القوى اللبنانية المشاركة على الحل والاندماج، ما عدا اتحاد قوى الشعب الذي تمثل بشاتيلا وواكيم وطارق ناصر الدين. وقد اهين هناك شاتيلا وقوطعت كلمته وطُرد بسبب دفاعه عن السادات، كما قبع طويلا في الفندق. ومع العودة الى بيروت حاولت التنظيمات الاخرى تطبيق ما تم التوصل اليه في ليبيا، فبدأ الاعداد من القوى التالية: وحدة القوى الناصرية، وحدة النضال العربي بقيادة خليل شهاب، وحدة النضال الناصري التي انشقّت عن وحدة النضال العربي وقادها المحامي رشيد قباني، الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني، شباب البقاع الناصري وعلى رأسهم عبدالرحيم مراد وعلي الصميلي وعمر حرب، وكلهم سنّة بقاعيون، الاولان بينهم من بلدة غزّة والثالث من المرج، ورابطة الطلبة العرب الوحدويين التي كان قد انشىء فرع لها في لبنان آنذاك كتعبير عن وجود طلابي لبناني داخل جسد قومي عربي. وكان شباب البقاع ورابطة الطلبة على صلة وثيقة بالتنظيم الطليعي الذي انشىء سراً في القاهرة اواخر عهد عبدالناصر، وتولى السادات حله والتشهير به. ومراد والصميلي وحرب هم حاليا في اواسط اربعيناتهم، اولهم صناعي ومغترب ناجح، والثاني ملاك متوسط، والثالث صاحب مدرسة وملاك متوسط ايضاً. اما الرابطة وقياداتها فاصغر ببضعة سنوات من قيادات شباب البقاع، وكان ابرز تلك القيادات خليل الخليل، وهو سني من اسرة متواضعة من عرب المسلخ، ومصطفى رجب، سني من غزة في البقاع وفي وضع اجتماعي متوسط، وكذلك حال فهد العبدالله وهو سني من بعلبك، وسميح سنو، السني البيروتي، وفيضي حمادة، الشيعي الهرملي ذا الخلفية العشائرية، فيما صدر عاطف صيداوي، السني الطرابلسي الذي توفي في 1980، عن وضع اجتماعي ادنى. المحاولة أدّت فعلا الى انشاء الاتحاد الاشتراكي العربي، الا انها كشفت عن الهزال الشعبي لمعظم هذه التنظيمات. فباستثناء شباب البقاع المحاطين شعبيا بقرى البقاع والمنخرطين بعمل شعبي، وكذلك رابطة الطلبة التي ضمت قرابة 60 منتسباً، كشف الآخرون عن فقر استقطابي مدهش. كذلك كشفت النقاشات عن حجم الفروقات النظرية بين المجموعات، فكان خلاف دائم حول تعريف الاشتراكية: هل هي اشتراكية عربية، كما تقول وحدة القوى، ام تطبيق عربي للاشتراكية العلمية، كما يقول سمير كبريت متأثّراً بجمال أتاسي؟ يومها كانت ليبيا تشترط ان تتم وحدة فعلية للاتحاد الاشتراكي العربي من اجل ان يحظى بمساعداتها، فكان لا بد بالتالي من وحدة مظهرية، رغم ان شباب البقاع ورابطة الطلبة ومنير الصياد كانوا جادّين في الرغبة بالوحدة. على ان الوحدة لم تكن جدية فعلاً، وظل كل تنظيم يعمل من داخل الوحدة كجسم متماسك، فلم يكشف احد خلفية وضعه التنظيمي للآخر. وكانت الطامة الكبرى مع بروز السلاح والتسلح بعد اغتيال معروف سعد. ففي يوم تشييعه التقت عناصر الاتحاد الموحدة حديثا على باب جمعية متخرجي جامعة بيروت العربية، لتنطلق في تظاهرة واحدة، بيد ان الخلاف دب بينها حول: مَن الذي يتسلم السلاح الموجود، وهو 16 قطعة سيمينوف و8 مسدسات، كانت تقدمة من عبدالقادر غوقة، السفير الليبي في لبنان يومها؟ وافتُعل صدام آخر حول التركيبة التنظيمية، فاتهم البعض مجموعة منير الصياد بانها لا تقدّم كشفاً بعناصرها. وكانت النتيجة ان ظهر اول انشقاق عن الاتحاد قاده خليل شهاب في تموز يوليو 1975، حاملا اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي - التنظيم الناصري - القيادة العامة للأفواج العربية". آنذاك كانت في عز نشاطها منظمة التحرير التي كانت حريصة على بناء مواقع داخلية. وفعلاً ما لبث ان حصل الانشقاق الثاني في كانون اول ديسمبر 1975 بقيادة كبريت، حاملا اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني - الناصريون". وكان الانشقاق الثالث بقيادة الصياد في تشرين الاول اكتوبر 1976، حيث عزي لابو اياد دور اساسي فيه. وقد نجم عن الانشقاق الجديد "الاتحاد الاشتراكي العربي - التنظيم الناصري". لكن، في المقابل، وفي تلك الفترة، اندمج ما تبقى من الاتحاد الاشتراكي، اي شباب البقاع والرابطة اساساً، مع "حركة انصار الثورة" بقيادة الحاج مصطفى الترك. فعلى رغم معرفة جماعة الاتحاد بصلة الترك الوثيقة ب"فتح"، وجدوا ان لا مفر من هذه الخطوة بفعل حاجتهم الى وجود بيروتي مؤثّر بعدما كان قد خرج معظم البيروتيين. الحلقة السادسة: الاثنين المقبل