تحل في الأول من تشرين الأول اكتوبر من كل عام الذكرى السنوية لميلاد جمهورية الصين الشيوعية وانتهاء حرب التحرير الدموية الطويلة التي قادها الشيوعيون الحمر بزعامة ماو تسي تونغ ضد قوات الكومنتانغ الوطنية بقيادة تشان كاي تشيك. إلا ان المناسبة هذا العام ترتدي طابعاً متميزاً كونها تؤرخ لمرور نصف قرن بالتمام والكمال على هذا الحدث الذي غيّر معالم الحياة على الأرض الصينية. وبسبب من هذه الخصوصية فإن قادة الحزب والدولة والجيش في بكين قرروا مبكراً ان تكون احتفالاتهم هذا العام فريدة في مضامينها ودلالاتها. ومن أجل ذلك دخلوا في سباق مع الزمن بهدف إعداد اشياء تعطي صورة مزركشة لواقع الحال وتوحي للداخل والخارج بأن نظامهم قد تفوق على نفسه وقام بانجازات جبارة لا مثيل لها، متجنبين الاشارة بطبيعة الحال الى أي اخفاق أو الاعتراف بأي خطأ على مدى العقود الخمسة الماضية. ولا شيء يمكن ان يدلل على هذا النهج اكثر من معرض الشمع الذي أقاموه بهذه المناسبة لتمجيد من يسمون بأبطال البلاد والذي خصصت مساحات واسعة منه للزعيم ماو وخليفتيه تينغ هسياو بينغ وجيانغ زيمين من دون أي ذكر لبقية الرموز الشيوعية التي لعبت أدواراً خطيرة في مسيرة البلاد الماضية، وارتبط تاريخها بالمجازر والتجاوزات الرهيبة التي حصدت أرواح الملايين من الأبرياء سواء أثناء ما أطلق عليه "الوثبة الكبرى الى الأمام" أو أثناء "الثورة الثقافية"، مثل لين بياو الذي كان مرشحاً لخلافة ماو، وأرملة الأخير جيانغ كينغ المعروفة بزعيمة عصابة الأربعة، ناهيك عن ياو بانغ وزياو زيانغ المرتبطين سلباً أو ايجاباً بحوادث ساحة تيان ان مين الدموية التي لا تزال صورها التلفزيونية محفورة في الأذهان. والهدف من هذا معروف وهو دفع الصينيين الى نسيان ذكريات الماضي المريرة وان كان العمل ينطوي على الانتقائية وتقطيع تاريخ الأمة المتصل. وإذا ما تجاوزنا موضوع متحف الشمع فإن ما قامت به بكين خلال الأشهر القليلة الماضية على صعيد الاستعدادات للاحتفال من جلب عشرات الآلاف من العمال الفقراء من أقاليمهم الى العاصمة كي يقوموا بأعمال كنس الشوارع وتوسعة الطرقات وطلاء المباني وغرس الاشجار وتلميع كل ما هو رمادي وكئيب، ثم ترحيلهم على وجه السرعة الى مواطنهم كي لا تقع أعين الضيوف والصحافيين على حالتهم البائسة، هو دليل آخر على النهج الصيني القائم على إبراز كل ما هو وردي وحجب ما دون ذلك، أو بعبارة أخرى القائم على اطلاع الآخر على ما يريده هو فقط. والحال ان بكين تريد ان تقول للعالم ان كل شيء في الصين على ما يرام وان الصورة القديمة التي عرفت بها لم تعد قائمة منذ التحولات الانفتاحية التي دشنها زعيمها الراحل تينغ هسياو بينغ ابتداء من أواخر السبعينات. ولهذا فإن الاستعراض الضخم المرتقب في ساحة تيان ان مين هذا العام يتضمن اضافة الى العرض العسكري التقليدي لقوات جيش الشعب بأفرعه المختلفة ودباباته وصواريخه الموجهة، اكثر من 90 لوحة من أداء نحو 140 ألف شخص يمثلون العمال والفلاحين والطلبة والاطفال واجهزة الخدمات المختلفة، ومن بينها لوحات تضاف للمرة الأولى لعارضات الأزياء ونجوم الغناء والمتزوجين حديثاً، وذلك من أجل تبديد صورة المجتمع الاشتراكي الصارم الذي لا يولي الجوانب الترفيهية والانسانية اهتماماً كبيراً، ناهيك عن لوحات تمثل المعاقين وما قدم لهم من خدمات، بهدف اقناع المشاهد بأن صين اليوم ليست كصين الأمس التي كانت تتخلص من معاقيها بدعوى أنهم عالة على الدولة والمجتمع ولا يستطيعون كسب قوتهم بأنفسهم. ومن الانصاف هنا القول بأن الصين في مسيرتها الطويلة منذ عام 1949 حققت انجازات كثيرة على أصعدة محو الأمية وتنظيم الأسرة وتوفير الخدمات التعليمية والصحية والسكنية لمئات الملايين من مواطنيها، وانقذت شعبها من مجاعة محققة وحولت البلاد من مجتمع زراعي بائس الى مجتمع صناعي تنتشر منتجاته في أسواق العالم بأرخص الأثمان، الا ان جزءاً كبيراً من هذه الانجازات ان لم يكن كلها قد تم وسط اجواء اتسمت بالقمع والاكراه والاستخفاف بآدمية الانسان وحقوقه. وحتى حينما تم البدء بفتح النوافذ مع رحيل ماو فإن التغيير مسّ الجانب الاقتصادي فقط والذي تجسد معالم شنغهاي الحديثة البراقة وانشطة المنطقة التجارية الحرة المحاذية لهونغ كونغ أفضل تحولاته الايجابية، فيما يمثل ارتفاع الاسعار ومعدلات الجريمة وتدمير البيئة وانحسار الرقعة الزراعية أسوأ تحولاته السلبية اضافة بطبيعة الحال الى انتشار أمراض الفساد ووصولها الى مواقع عليا في الحزب والدولة والجيش بحسب ما كشفت عنه تحقيقات كثيرة كان آخرها التحقيق الذي أجري حول انهيارات السدود اثناء فيضانات تموز يوليو الماضي وغياب الاجراءات الفعالة للتعامل مع مثل هذه الظروف الطبيعية. ولئن كان النهج الصيني في الانفتاح اقتصادياً دون الانفتاح السياسي الموازي قد قوبل لدى البعض بالتفهم ووصف بأنه وصفة صينية حكيمة لمنع وقوع الزلزال والانفراط على نحو ما حدث في الاتحاد السوفياتي حينما فتح الأخير أبوابه سياسياً واقتصادياً دفعة واحدة، فإن مرور نحو عقد من الزمن على التحولات الاقتصادية دون انفتاح سياسي متدرج اساء الى صورة الصين الجديدة وجعل دول الجوار الآسيوية تتمسك بنظرتها الحذرة وشكوكها في النظام القائم في بكين وانسحب ذلك حتى على ذوي الاعراق الصينية المستوطنة في هذه الدول ممن تطلعوا بأمل في وقت من الأوقات نحو وطنهم الأم وشرعوا بتجديد روابطهم معها. والحقيقة ان المشهد الصيني الحالي لجهة الشفافية والحريات واحترام حقوق الانسان لا يختلف كثيراً عن الماضي. اذ لا تزال كوادر الحزب الشيوعي واجهزته الأمنية تفرض قبضتها الحديدية بحيث لا يستطيع المرء ابداء الرأي المستقل في أي شأن أو القيام ببحث صحافي أو اكاديمي من دون التعرض للمضايقات، كما ليس بوسع المواطن ان يلتقي بالقادم من الخارج والتحدث اليه بحرية من دون التعرض للاعتقال والمساءلة. واقرب الأمثلة على ذلك ما حدث للعشرات في التيبت ممن تجرأوا والتقوا بباحثين غربيين في آب اغسطس الماضي جاءا للتحقق من أنباء حول قيام السلطات الصينية بإزالة معالم تاريخية في الاقليم من أجل انشاء مستوطنات جديدة. أما على صعيد العلاقات الخارجية ومكانة الصين الدولية، فإنه ايضاً من الانصاف القول ان زعامة تينغ هسياو بينغ وخليفته جيانغ زيمين احدثت ما يشبه الثورة في هذا المجال، واستطاعت ان تنقل الصين من دولة شبه معزولة ومتهمة بإثارة القلاقل في العالم وتقديم الدعم لحركات التمرد الثورية المسلحة ومتحفزة لشن الحروب على دول الجوار - بدليل دخولها في الحرب الكورية وانقلابها على حليفها الايديولوجي في موسكو واجتياحها لحدود الهند الشمالية وتدخلها في كمبوديا لصالح الخمير الحمر - الى دولة مندمجة في محيطها ومتمتعة بشبكة من العلاقات الطبيعية مع مختلف دول العالم وعلى مستويات متعددة. ومن دولة تقوم ديبلوماسيتها على التصعيد وترديد الشعارات الجوفاء الى دولة ذات خطاب براغماتي هادئ وحضور قوي في حل الأزمات الدولية ومشاركة متزايدة في قوات حفظ السلام والمؤتمرات القارية والاقليمية. ومن دولة لم يغادر زعيمها الى الخارج الا مرة واحدة الى دولة يطوف قائدها العالم شرقاً وغرباً ويستقبل في كل مكان بأقصى درجات الحفاوة حتى انه في زيارته الاخيرة هذا الشهر الى بانكوك خرج العاهل التايلاندي بنفسه الى المطار لاستقباله في ظاهرة نادرة الحدوث في تاريخ البروتوكولات التايلاندية. على ان كل هذا لا يعفينا من القول بأن ديبلوماسية الصين الجديدة لا تزال واقعة الى حد ما تحت تأثير اساليب الماضي بسبب انتماء بعض رموزها الى مدرسة التشدد الايديولوجية التي اسسها ماوتسي تونغ. ولهذا فإن كل نجاح تحققه هذه الديبلوماسية سرعان ما يتلوه عمل يشتم منه رائحة الماضي. فعلى سبيل المثال اللاحصري، نجحت بكين في استعادة هونغ كونغ بسلاسة وبددت المخاوف التي راجت حول فقدان الجزيرة لوضعها المتميز بمجرد عودتها الى حضن الوطن الأم، لكن هناك اليوم اكثر من دليل على انها تتدخل بطرق ملتوية في شؤون هذا الاقليم الداخلية لفرض تصوراتها الخاصة. اما سياساتها الرامية الى تشجيع التايوانيين على الاقتداء بشعب هونغ كونغ والانضمام اليها سلمياً فقد اصيبت بانتكاسة خطيرة من بعد شيء من النجاح الذي جسدته زيادة حركة التنقل والبضائع والاستثمارات ما بين الجزيرة والبر، وذلك بسبب لجوء قادة بكين الى لغة التهديد والوعيد والتلويح بقنبلة النيوترون ضد تايوان لمجرد ان زعيم الاخيرة لي تينغ هوي طالب بأن تجرى محادثات توحيد بلاده مع البر على قدم المساواة وليس وفق اسلوب مخاطبة دولة لاقليم متمرد. ثم ان طريقتها في ضرب انصار حركة فالونغونغ الدينية أخيراً ذكرت العالم بالقمع الذي اتبعته في احداث تيان ان مين وأثبتت انتفاء حدوث اي تغيير ولو ضئيل في مجال احترام حقوق الانسان، كما وان استمرارها في المطالبة بالسيادة على مجموعة جزر سبارتلي المتنازع عليها بين دول عدة ابرزت من جديد صورتها كدولة تطمح الى التوسع على حساب دول الجوار الجغرافي. وأخيراً فان ردود فعلها الخطابية العنيفة ضد الولاياتالمتحدة والغرب بسبب قصف قوات الناتو لمبنى سفارتها في بلغراد، ووقوفها خلف المظاهرات الشارعية المنددة بالعمل اعادت الى الاذهان لهجتها الثورية الستينية ضد كل ما هو اميركي وغربي. ولا شك ان هذه الاخطاء كلها او بعضها اعادت تأجيج مخاوف دول جنوب شرق آسيا من الصين وما تهدف اليه تحديداً. وهذا يقودنا الى الحديث عما يسمى بالمأزق الاميركي في السياسة الصينية. ذلك ان اكبر هدفين يتصدران اجندة صناع القرار في بكين في الوقت الراهن هما استعادة تايوان وفرض شكل من اشكال الهيمنة المنفردة على دول شرق آسيا، لكن هذين الهدفين يصطدمان بالسياسات الآسيوية للقوة العظمى الوحيدة المتبقية والتي لا تستطيع بكين رفع العصا في وجهها صراحة او التصرف بلامبالاة حيالها، لحاجتها الماسة تجارياً واستثمارياً وتكنولوجياً لهذه القوة ولعدم وجود مصدر بديل يعوضها. ولهذا فهي تغضب على واشنطن وتهاجمها اعلامياً بسبب قصف طائرات الاخيرة لسفارتها في العاصمة اليوغسلافية ثم سرعان ما تلجأ الى تلطيف الاجواء معها على نحو ما حدث في قمة كلينتون - زيمين في العاصمة النيوزيلاندية على هامش اجتماعات قادة دول الايبك هذا الشهر، وذلك كي لا تحرم من تدفق الاستثمارات الاميركية الضخمة عليها وأيضاً كي تحظى بتأييد واشنطن الذي لا بد منه لنيل عضوية منظمة التجارة العالمية. وهي تهدد تايوان بأقصى عقاب ان هي فكرت بإعلان نفسها دولة مستقلة وتجيش قواتها عند المضيق الفاصل بينهما ثم تتراجع تدريجاً بعد تحذيرات اميركية من مغبة تغيير الوضع القائم بالقوة. وهي على لسان المحسوبين عليها من اكاديميين وصحافيين تطالب واشنطن بالكف عن التدخل في شؤون آسيا وترك امر ترتيب البيت لدولها وحدها، لكنها سرعان ما توافق على القيام بدور مشترك مع الاميركيين في آسيا وتعترف بمصالحهم في هذا الجزء من العالم. ومع هذا فإن النظام الصيني الذي يريد تحقيق اهدافه سابقة الذكر اقامة الصين الكبرى وقيادة آسيا بأي ثمن وان طال الزمن، يراهن اليوم على جر دول آسيان الى صفه وابعادها قدر المستطاع عن حليفها التقليدي الاميركي كي لا توفر هذه الدول لواشنطن دعماً عسكرياً ولوجستياً في حال نشوب صراع عسكري على تايوان. وهو في ذلك يستخدم اساليب عديدة مثل الضغط على الجاليات الصينية الكبيرة المقيمة في دول آسيان كي تضغط بدورها على حكوماتها من اجل ان تنبذ سياسة الغموض حيال بكين وتتخذ مواقف تصب في صالح الاخيرة، ومثل التقدم بمبادرات جذابة ومتفوقة حتى على تلك الصادرة من واشنطن على نحو ما حدث في أواخر تموز يوليو الماضي حينما فاجأت بكين المراقبين بتأييد دعوة سابقة من دول آسيان حول اعلان منطقة جنوب شرق آسيا منطقة خالية من الاسلحة النووية، اضافة الى استثمار مناخ الغضب السائد في الشارع الجنوب شرق آسيوي ضد واشنطن جراء تقاعسها عن تقديم النجدة الفورية والسريعة للدول المتضررة من الازمة النقدية الآسيوية. وبطبيعة الحال فإن انتهاء الحرب الباردة واختفاء التهديد السوفياتي لمنطقة جنوب شرق آسيا، حرر دولها كثيراً من الهم الأمني وجعلها اكثر قدرة على التصرف بمعزل عن المخططات الاميركية، لذا فهي لم تخش من ادارة وجهها الى بكين والالتقاء معها في بعض المواقف، لكن هذا لا يعني انها باتت مستعدة لاعلان طلاقها النهائي من واشنطن والاقتران ببكين. وما التسهيلات الممنوحة أخيراً لحاملات الطائرات الاميركية في احدث القواعد البحرية السنغافورية، وسماح الفيليبين للقوات الاميركية بزيارتها وقت ما تشاء والتزامها بتمارين عسكرية مشتركة واسعة في العام القادم، الا دليل على صحة ما نقول. وبقدر ما يزعج هذا الصينيين ويؤرقهم فإن تنامي التفاهم الاميركي - الصيني حول امن آسيا والذي وضعت تفاصيله الأولية اثناء زيارة بيل كلينتون للصين في العام الماضي يثير مخاوف دول آسيان من احتمالات ان تستفرد بكين بالمنطقة كلها في يوم ما، بل ان بعضها يرى ان الصين لا تستطيع ان تحجم عن الاحتكاك مع اليابانيين والكوريين انتقاماً للثأر التاريخي القديم الا بتواجد اميركي قوي في المنطقة. ومجمل القول ان بكين بعد مرور نصف قرن من نظامها الشيوعي الراهن، اصبحت قوة لا يستهان بها في محيطها الاقليمي على الأقل وصاحبة حضور يتجاوز حضور روسيا واليابان على الساحة الآسيوية، الا ان سوابقها واستمرار تمسكها بالايديولوجية الشيوعية يحول دون القبول بها باطمئنان وثقة من قبل جاراتها الآسيويات. * كاتب خليجي.