حكمت محكمة هولندية حديثاً برد دعوى أقامتها منظمة "مجاهدين خلق" الإيرانية المعارضة، ضد أحد قادتها السابقين الذي انشق عنها قبل بضع سنوات، وبدأ بالعمل من ملجأه السياسي في هولندا كمعارض للنظام الإيراني وللمنظمة في وقت واحد. ولكن المنظمة، التي تتخذ من بغداد مقراً لها، واضبت على مهاجمة المعارض كريم حقي موني، ومعه مئات من الذين انشقوا عنها، واتهمتهم بالعمالة للنظام والتحول إلى آلات بيد أجهزته الأمنية. وتصاعدت حدة ردود فعل المنظمة أخيراً بسبب نجاح حقي موني وزملائه في الوصول إلى الرأي العام الهولندي والأوروبي، ونشر الصحافة سلسلة من المقابلات والتحقيقات وما تبعها من مواجهة مع مكاتب "مجاهدين خلق" في هولندا والعواصم الغربية، وطبيعة ردودها المثيرة التي شملت في اتهاماتها الصحف ومحطات التلفزيون الأوروبية بالعمالة للمخابرات الإيرانية. وفي هولندا جمع صحافيان بارزان الردود المستفيضة الصادرة عن "مجاهدين خلق" على مختلف الصحف ومحطات التلفزيون، ممن نشرت ما لا يتوافق تماماً مع خطها السياسي، فوجدا ان العمالة لإيران شملت صحف هولندا الكبرى وتلفزيوناتها، فضلاً عن الصحف الأميركية والبريطانية والألمانية والفرنسية، وفي الحالات التي تساهلت المنظمة في استخدام هذه التهم، اعتبرت ان الصحافة الغربية تعمل سراً وبشكل غير مباشر لتنفيذ تعليمات حكوماتها الهادفة للتقرب من طهران، أو أنها معادية لوجود المهاجرين الإيرانيين في أوروبا. وبكلمات قليلة، فإن المنظمة لم تضع على نفسها أي مسؤولية أو لوم، سواء من الناحية الإنسانية أو السياسية، عن تخلي مئات من المناضلين عنها، أو اعتراضهم المجرد على سياساتها. ويتعين هنا أن نذكر ان المنظمة، التي كانت يوماً ما منظمة كبيرة تضم مئات الآلاف من الأعضاء والمؤيدين في البلاد غداة انهيار النظام السابق، فقدت مقدرتها الميدانية، لأسباب كثيرة، بعضها داخلي يعود لخلل في السياسات التنظيمية، وبعضها يتصل بتحالفات المنظمة السياسية، كما سيرد ذكره في هذه المادة. ويلاحظ أن ردودها على مواقف كريم حقي موني كانت أشد من أي موقف آخر اتخذته المنظمة ضد منشق عنها، ويعلل سلوك "المجاهدين" هذا بطبيعة حجج حقي موني المقنعة، وهو الذي كان يوماً أقرب مساعدي مسعود رجوي رئيس المنظمة، كما أصبح المسؤول الأول عن حماية مريم رجوي، زوجة مسعود، المختارة لتكون رئيسة إيران بعد إسقاط النظام الحالي. "الحياة" التقت حقي موني ومحمد رضا اسكندري، وهما نموذجان من الناشطين في المحيط الأوروبي، في معارضة سياسات "مجاهدين خلق"، ويعملان عن قرب مع مئات آخرين من المعارضة الإيرانية على محاولة مراجعة الخطاب السياسي للمعارضة، ومعالجة ما يعتبرونه "أخطاء قاتلة في التكتيك" ارتكبتها منظمة "مجاهدين خلق". ويكشف الاستغراق في تفاصيل النزاع بين هؤلاء المعارضين ومنظمتهم السابقة، ان "مجاهدين خلق" لا تزال تصر على اعتبار نفسها الممثلة الوحيدة والشرعية للشعب الإيراني، وتعتبر أي نقد لخطها السياسي جريمة كبرى، بل خيانة تصب في مصلحة الحكومة الإيرانية مباشرة. وتتصرف المنظمة هنا في موقفها من "الآخر" على أساس الأبيض والأسود، حيث لا لون بينهما يسمح بطيف، ولو بسيط من الاختلاف. في لقاءاتنا مع حقي موني ومحمد رضا اسكندري، الكثير من العناصر الجديدة والمعطيات التي ظلت خفية على الرأي العام، لأسباب كثيرة، منها أن المنظمة تستخدم نظاماً حديدياً لتأمين الانضباط التنظيمي وتكبل اعضاءها بالكثير من الالتزامات الخطيرة، مما تردع الكثير منهم عن مجرد التفكير بالخروج إلى العلن بإنتقاداتهم وتحفظاتهم. ويكفي المراقب أن يضع مفردات هذه المنظمة على طاولة المقارنة مع المفردات الديموقراطية ليكتشف بعدها الشاسع عن عصرنا، واستعصاءها على الاصلاح. ومن الواضح ان هذا الانضباط الصارم، أكثر مما تحتاجه منظمة معارضة بالمعنى المعروف. وهو يصل إلى معاداة الثقافة وتجريمها وتحريم الزواج، أو قصره على أعضاء معينين، وتفكيك العائلة كمؤسسة إنسانية، بما في ذلك تسفير الأطفال إلى ملاجئ في الدول الغربية بوصفهم ايتاماً، لمنع انشغال والديهم عن قتال العدو، وكثير غير ذلك. عن هذه المواضيع، والنزاع مع المنظمة وخلفية انشقاقهما عنها، وخريطة التقاطعات التنظيمية والفكرية والسياسية، يفصل كريم حقي موني، العضو السابق في اللجنة المركزية لمنظمة "مجاهدين خلق"، ومحمد رضا اسكندري أحد كوادرها السابقين، روايتهما... في النص الآتي: كريم حقي موني: طريق الآلام إلى الحرية! بدأت المشاكل الفعلية لحقي موني بداية عام 1991، إثر تورط "مجاهدين خلق" في قمع الأكراد في شمال العراق، وإحباط مساعي المعارضين العراقيين لنشر انتفاضتهم ضد النظام العراقي في أعقاب الهزيمة العسكرية التي مني بها في الكويت. حيث انتهى به موقفه الرافض للتورط إلى السجن ولم يخرج من سجنه في قاعدة أشرف إلا بعد مطالبات علنية نشرت في الصحافة وبادر إليها الكاتب الإيراني الشهير علي أصغر حاج سيد جوادي. انتمى حقي موني إلى "مجاهدين خلق" قبل 22 عاماً، أي قبل سنتين من إطاحة الشاه وتأسيس "الجمهورية الإسلامية"، وقبلها كان تلميذاً في جامعة تبريز. ومن خلال انتمائه تحولت العائلة، عائلته، إلى العمل مع "مجاهدين خلق". اعتقل حقي موني ثلاث مرات قبل فراره من المعتقل في 28 تموز يوليو عام 1981. التجأ بعدها إلى كردستان إيران للعمل في التنظيمات السرية للمنظمة. ولكن القوات الإيرانية أحكمت سيطرتها على المنطقة بعد عام من وجوده فيها، ما اضطر "مجاهدين خلق" إلى الانسحاب ودخول الأراضي العراقية. واستقرت مجموعة كريم حقي موني في مدينة "كلاله" العراقية، وهي المقر التاريخي السابق للملا مصطفى بارزاني، وخصصت لهم الحكومة العراقية مبنيين كانا في السابق مدرسة وبناية جمارك. وخلال بضعة سنوات من وجوده في المنطقة الحدودية المحاذية لإيران، عمل حقي موني على تنظيم العمليات السرية داخل الأراضي الإيراني، وكوفئ على نشاطه وحماسته باختياره عضواً في قيادة "مجاهدين خلق" عام 1986، وانتقل من العراق إلى فرنسا، حين اتخذت المنظمة من باريس مقراً أساسياً للعمليات السرية والاغتيالات وتنظيم الاتصالات. يقول حقي موني: "هناك أصبت بخيبة أملي الأولى حين تعرضت التنظيمات السرية لاختراقات خطيرة. فكانت التعليمات تصدر للمجموعات الصغيرة الموجودة في العراق للدخول إلى إيران، فيجدون أنفسهم في قبضة الحرس الثوري. واكتشفنا ان جميع اتصالاتنا الهاتفية تحت المراقبة الإيرانية. قتل كثير من المناضلين وفشل آخرون في تنفيذ العمليات المطلوبة". ولكن مسعود رجوي، يقول حقي مدني، "لم يقر بفشل العمليات، كما لم يخبر أحداً بالاختراقات الخطيرة لتنظيماتنا وخضوعها للرقابة". وفي إحدى المرات فقد التنظيم أحد أنشط الوحدات العسكرية للمنظمة، حين قرر ارسال 80 شخصاً في آن واحد، على شكل مجموعات صغيرة من شخصين أو ثلاثة، إلى داخل إيران، أو تحريكها من مخابئها في إيران لتقوم بموجة عمليات تعيد الاعتبار للمنظمة المنهكة. ولكن أغلب هؤلاء قتل اثناء عبوره الحدود واعتقل الباقون. ولم تنجح سوى ثلاث مجموعات في الوصول إلى طهران وقامت بتفجير أحد المحاكم الثورية، ولكنهم وقعوا في قبضة السلطات الإيرانية واعدموا لاحقاً". ويعتبر حقي موني ان المنظمة التي كانت تضم 16 ألف مقاتل مدرب في يوم من الأيام فقدت مبادرتها ومقدرتها على المواجهة بعد أن قرر رجوي سحب المقاتلين من إيران وارسالهم إلى المعسكرات داخل العراق. وقال حقي موني ل"الحياة" إن "المنظمة قادت حملة اغتيالاتها للمسؤولين الإيرايين من باريس في ذروة مخططها الهادف إلى زعزعة النظام من الداخل بهدف تحريض السكان على الانتفاض على النظام، وهو أمر ثبت عدم جدواه، ما اضطر المنظمة إلى تغيير استراتيجيتها بعد عام 1986". ويعيب حقي موني على قيادة رجوي قبولها نسبة كبيرة من الخسائر البشرية في صفوف مقاتلي "مجاهدين خلق" من أجل تحقيق "أهداف صغيرة لا تتناسب وحجم الخسارة. وكان رجوي، وفقاً للمعارض المنشق حقي موني، يبرر ذلك بقوله: "إن قتل ثمانية منا مقابل تصفية واحد من أنصار النظام أمر له فوائد ودعاية لنا". ومما فاقم من خيبة حقي موني لجوء رجوي إلى ما دعاه ب"الثورة الايديولوجية الثانية" عام 1986، التي سن بمقتضاها اجراءات تنظيمية وتثقيفية عسيرة، انعكست كأعباء إضافية على أفراد التنظيم، "فقد حل اللجنة المركزية وأصبح كل قوامها أعضاء عاديين، كما جاء ببدعة الطلاق الاجباري للزوجات ووصف مؤسسة الزواج بالعبودية. وكان رجوي يعتبر أن انشغال المناضلين بعائلاتهم وأبنائهم يضعف انجازهم التنظيمي، إذ عليهم أن يتفرغوا تماماً للمنظمة ولرجوي". استناداً إلى "الثورة الايديولوجية الثانية"، يجب فصل الأولاد عن ابويهما وتسفيرهم إلى الخارج. وعالج رجوي حالات فصل الأطفال أولاً بأول، إذ يتبع القرار بحث عن أقارب في أوروبا أو الولاياتالمتحدة يتم اقناعهم باستقبال الأطفال. وإذا لم تتوافر مثل هذه الفرصة يجري ارسالهم إلى مأوى خاص للأيتام ومدارس داخلية انشأت في المانيا من قبل مجاهدين خلق، وبلغ العدد الكلي للأطفال المسفرين حوالى 500 طفل. ومن المؤسسات التي استقبلت مئات الأطفال الإيرانيين مؤسسة هولندية يختصر اسمها بOPBOUW، كما استقبلت "مدرسة موسوي" في كولون بالمانيا، وهي إحدى واجهات "مجاهدين خلق". وكان يجري تسليم الأطفال للمنظمة بمراسيم يردد بها الوالدان نصاً يقول: "أنا أمنح مسعود ومريم طفلي"! وفرض مسعود على أعضاء قيادته وقتها تقليداً يفتتح فيه جلساتها، إذ على الأعضاء أن يضعوا أيديهم على الطاولة ليرى إن كان أحد منهم لا يزال يحمل خاتم الزواج الذي وصفه ب"خاتم العبودية"، وفي خضم ثورته الايديولوجية كان يحلو لرجوي أن يردد: "سأصنع منكم أناساً جدداً... اعطوني كل ما عندكم... أمشوا بقدمي... وتحدثوا بلساني". هذه الثورة لاقت احتجاجاً متصاعداً، لا سيما وأن رجوي نفسه تزوج من مريم رجوي عام 1985، بعد طلاقها من زوجها السابق، ولديه ولد اسمه مصطفى من زوجته الأولى لاجوردي، كما أن لمريم ابنة اسمها أمهار. وبلغ عدد المحتجين على قرار الفصل العائلي 600 شخص فضلوا الانفصال نهائياً عن المنظمة في النهاية، فقرر رجوي اعتقالهم وارسال غالبيتهم إلى سجن عراقي في محافظة الأنبار الرمادي. وهو سجن مخصص للأجانب تمهيداً لتسفيرهم إلى الخارج إذا لزم الأمر. ولكنه مع الضغط الشديد والممانعة من قبل المناضلين، عاد رجوي إلى استخدام العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة كوسيلة للترغيب، وحوّل الزواج إلى "مكرمة" يهبها رجوي للأعضاء الجيدين. ولكن الزواج لم يكن يجري على أساس الاختيار الحر للطرفين، بل كان يطرح على المحتفى به بضعة صور فوتوغرافية صغيرة، يختار منها واحدة تلقى اعجابه. ولكن جلسات "الاعتراف والنقد الذاتي" شملت منذ العام 1990 مجال الأفكار والأحاسيس العاطفية تجاه رفيقة من الرفاق، حيث أن من تراوده مشاعر استلطاف أو استثارة تجاه زميلته، يجب أن يعتذر لها علناً. والغريب في الأمر ان جلسات الاعتراف هذه كانت تسجل على أشرطة فيديو يحتفظ بها في ارشيف المنظمة المركزي. قبل وصول حقي موني الى مرحلة المواجهة مع قيادة "مجاهدين خلق" تسلم عدة مناصب مهمة، منها تعيينه آمراً لفرقة. وتبدأ التراتيبة القيادية للمنظمات العسكرية عادة بآمر سرية ثم آمر فرقة ثم قائد فيلق في "جيش الحرية الوطني" الذي شكله رجوي. وكان مقر فرقته في بغداد. ونفذ خلال قيادته لفرقتة عمليات عسكرية ضد ايران منها عمليات "خوره تاو" و"جل جرا"، التي تمت بدعم من الطيران والمدفعية العراقيتين. وآخر العمليات كانت "فروغي جاويدان" التي ختمت بها الحرب بين البلدين ووقعا على وقف اطلاق النار. ووفقاً لحقي موني ان العملية الأخيرة عام 1988، كانت خاسرة، حين فقدت المنظمة اكثر من 1200 بين قتيل وجريح. ورقي حقي موني بعد هذه العمليات الى مرتبة رفيعة ليصبح "مسؤول اللجنة المركزية" في المنظمة، يليه في السلم الأعلى مسعود رجوي فقط. وبقيت وحدات "جيش الحرية الوطني" من دون نشاط يذكر ما بين وقف الحرب عام 1988 حتى 1991، حين بدأت الحرب العراقية ضد الكويت. "كنا نقوم بالتدريبات ونواصل ادامة مدافعنا ودباباتنا التي وصل عددها الى 300 دبابة وناقلة مدرعة. وهي منحت لنا من قبل الرئيس صدام حسين، وادعى رجوي أننا غنمناها من الجيش الايراني". يقول حقي موني. ويضيف: "بعد انتهاء الحرب عاد الى المنظمة فريق المقاتلين الملحقين بالجيش العراقي ممن عملوا في "قسم شمنود"، وهو قسم استراق السمع والتنصت على محطات الراديو والمتخصص بفك الشفرات العسكرية". ويصف حقي موني اوضاع المنظمة في أعقاب غزو الكويت بأنها كانت "أيام تعاطف وتفاؤل في المرحلة الأولى. لكن التفاؤل تغير تدريجاً ومع تطورات الحرب". ويفصل حقي موني ذلك بقوله: غير رجوي موقفه من احتلال الكويت ثلاث مرات الأولى حيث التعاطف مع العراق في قمته. وكنا نهرع بعد بدء الحرب الجوية لالتقاط طيارين اميركان يحتمل سقوط طائراتهم بالقرب منا. بعد 20 يوماً على الحملات الجوية ضد العراق تغيرت لهجته وبدأ يلمح الى انتقادات سلبية، ومسؤولوه الآخرون وصلوا الى وصف صدام بالمجنون. في هذه المرحلة اقتنع رجوي بأن صدام "خاسر الحرب، وبدأ بتهيئة المنظمة لمناخ ما بعد صدام". ولكنه عاد الى صف صدام بعد انتهاء الحرب وانقشاع غبار المعارك الكبرى ووقف النار وانسحاب الجيش العراقي من الكويت. وفي هذه المرحلة "بدأ بالتعاون العسكري المباشر مع الجيش العراقي لوقف زحف الانتفاضة الشعبية نحو بغداد وقطع الطريق على الأكراد لمنعهم من التقدم نحو السهول المؤدية الى العاصمة". وفي اجتماع شامل لأعضاء المنظمة وفي قاعدة أشرف بعد ايام من احتلال الكويت شرح قادة المنظمة مفهومهم للموقف المتخذ تحت اسم استراتيجية "ثغار". وثغار تعني قربة اللبن. ووفقاً لهؤلاء فان الكويت "مثل قربة مليئة باللبن منخورة بالثقوب ويتدفق منها اللبن. وعلينا ان نحصل على حصة منه".. ولكن حقي موتي يقول: "ان الاجتماع لم يكن موفقاً من وجهة قيادة المنظمة لأن انقساماً برز في صفوف المجتمعين، حين رفضت مجموعة منهم منطق "ثغار" هذا، ولكنهم بقوا أقلية حاصرتها اصوات الآخرين". وبهذا الموقف ارسل رجوي قوات من "مجاهدين خلق" الى الكويت للمساهمة في نهب ما يمكن نهبه، حيث جلبوا معهم الى قواعد المنظمة في بعقوبة وابو غريب أجهزة وثلاجات وأغذية. يقول حقي موني "منذ ذلك الوقت كان التموين الغذائي اليومي يتضمن منتجات غربية مصدرة الى الكويت لم تكن متوافرة في العراق قبل الاحتلال". الأقلية التي رفضت بقيت معزولة، وتميزت بأنها تضم مناضلين ذوي تجربة منذ أيام الشاه وجدوا في "استراتيجية ثغار" "شيئاً غير اخلاقي". مجاهدين خلق يقاتلون الأكراد لكن العواقب التي أفرزتها تلك الحرب وهزيمة الجيش العراقي في الكويت وما خلفته من تضعضع اركانه وضعفه، ادت الى انغمار "مجاهدين خلق" في الحرب الداخلية العراقية ومساهمتها بقوة في القتال دفاعاً عن النظام. وفسر رجوي الأحداث والتطورات المنتظرة في ظل الهزيمة العراقية بأنها تهديد للوجود المباشر للمنظمة التي ركزت غالبية جسمها العسكري والسياسي في العراق. وقال رجوي، وفقاً لحقي موني: "ان النظام الايراني يستخدم الأكراد لاسقاط الحكومة العراقية مما سيجعل مصيرنا مجهولاً بل مظلماً، ما لم ننجح في حماية نظام الرئيس صدام". ويستذكر حقي موني من خطابات مريم رجوي تلك الأيام قولها للمقاتلين المكلفين وقف زحف الانتفاضة الأهلية في آذار مارس 1991: "يجب ان نسحق الأكراد… استخدموا لهذا الغرض الدبابات واحتفظوا بطلقاتكم للحرس الثوري". ولكن الوجهة الحقيقية لمعارك "مجاهدين خلق" لم تكن كردستان العراق أول الأمر، فحسب حقي موني، ومحمد رضا اسكندري فقد ابلغوا بأنهم متوجهون اصلاً الى ايران لشن هجوم ضد قواتها. وفقط بعد يوم من تحركهم من جلولاء، شمالي غرب بغداد الى منطقة كلار، ومبيتهم في قرية سليمان بيك قيل لهم ان وجهة القتال تغيرت. ويصف حقي موني واسكندري تفاصيل التحرك العسكري كما يلي: "شكل رجوي ثلاث قوى عسكرية لمحاصرة تمدد الأكراد بالعراقيين عسكرياً على جبهة واسعة تمتد من كلار قرب السليمانية الى الخالص لقطع الطريق نحو بغداد. وأول الاشتباكات حصلت ليلة الثامن من آذار قرب قرية سليمان بيك، التي تقع جنوب طوز خورماتو، ثم قادر كرم وكلار. كما جرت اشتباكات لاحقة حول جلولاء الاستراتيجية، ثم خانقين التي شهدت موقعة كبيرة جداً. وامتدت الى قضائي مندلي والخالص ومنطقة ملا حسن شمال خانقين. واشتبك مجاهدين خلق. وحصلت معركة أخرى عند مثلث طوز خورماتو - سليمان بيك - الطريق العام من كركوك الى محافظة ديالي". وقد نفت المنظمة نفياً قاطعاً قيامها بأي دور في تلك المعارك التي كانت تدور في الغالب ضد مواطنين عزل تقريباً، او جنوداً هاربين من حرب الكويت، ولكن وثائق المنظمات الكردية العراقية أكدت بتفاصيل واسعة أسماء القتلى هذا الدور. وكشف الشيخ عطا طالباني، وهو شخصية كردية مستقلة ومعروفة، وهو شقيق الوزير الشيوعي السابق مكرم طالباني تفاصيل تؤكد تورط المنظمة في مجازر ضد المدنيين في كردستان. وقال في افادة نشرت حديثاً، كرد على نفي "مجاهدين خلق" ان اي قوة عراقية لم تساهم او تقف بوجه الانتفاضة … ولم يتحرك الجيش العراقي على جبهة كفري وفي اطرافها… بل ان وحدات فعالة منه تتمركز في سرقلعة وبيباز ودربندي خان لم تكتف بعدم التحرك، انما تركت اسلحتها الثقيلة والخفيفة مع مختلف التجهيزات بيد المنتفضين". وأكد الشيخ عطا طالباني "ان قوات مجاهدين خلق تحركت لتطويق كفري قبل الشروع في القتال الذي فقدوا فيه عدداً من مقاتليهم. كما قتلوا بسلاح مدرعاتهم عدداً من المنتفضين". وفي ناحية نوجول "سمح المنتفضون وقوات البيشمركة لمجاهدين خلق بالانسحاب من المنطقة كتعبير عن حسن النية، ولكنهم اعادوا تنظيم قواتهم وبدأوا بمهاجمة المدنيين والقبض عليهم، كما ضربوا سيارة بقذائف مباشرة وقتلوا جميع ركابها بينهم والد وشقيق قائد قوات البيشمركه عثمان الحاج محمود الذي كان سمح لهم بالانسحاب". ووفقاً للطالباني فان مجاهدين خلق "هاجموا السيارات المدنية التي كانت تتوجه لنقل جنود عراقيين استسلموا وأرادوا العودة الى بيوتهم عبر المناطق الريفية". وشاهد الشيخ عطا عودة المفارز المكلفة حماية معمل الأسفلت ومحطة الوقود في كفري بعد ان طردتهم منها قوات "مجاهدين خلق". التي بدأت هجومها على المدينة في اليوم التالي وبسبب هذا الهجوم نزح سكان المدينة هرباً من القصف والقتال. ويؤكد الشيخ عطا ان المواطنين كانوا عزلاً من السلاح توسلوا بكل الوسائل للحصول على ما يدافعون به عن انفسهم. ويسجل الشيخ عطا محاولة قامت بها منظمة ايرانية معارضة اخرى للتوسط ما بين الأكراد العراقيين والمجاهدين لوقف القتال.. فيذكر ان منظمة فدائيين خلق بعثت عبر الدكتور عزالدين مصطفى رسول ثلاثة من اعضائها، فوافقنا على الوساطة "جئت بعلم ابيض وعلقته بالسيارة ووجهتهم نحو وجهة المجاهدين. واستفسروا مني في ما اذا نسمح لمجاهدين خلق بالاقامة في كردستان. قلت لا مانع شرط ان لا يسكنوا قرب الحدود مع ايران، ولكنهم طلبوا الاقامة في دربندي خان فرفضت لأنها موقع استراتيجي". ويضيف ان "مجاهدين خلق" رفضوا ايضاً ايداع اسلحتهم الثقيلة ومدرعاتهم، وفي النهاية فشلت محاولة المصالحة. شاهد عيان آخر من داخل معسكر "مجاهدين خلق" في المنطقة يروي ل"الحياة" الأحداث، وهو محمد رضا اسكندري المقيم حالياً في هولندا كلاجئ سياسي منشق عن منظمة "مجاهدين خلق"، يقول اسكندري وهو أب لعدد من الأطفال سجنته المنظمة في الرمادي مع زوجته بعد اصرارهما على استعادة ابنته "عاصفة" التي رحلتها المنظمة الى بلجيكا. يقول اسكندري الذي كان ضمن قوات "مجاهدين خلق" في محور "سليمان بيك" حيث وقعت المجازر ضد المدنيين: "كانت هناك محطة قطار قديمة تمركزنا عندها. وهناك قمنا بضرب الأكراد من ثلاث جهات مستخدمين اسلحة المدرعات والدبابات. احصيت 18 قتيلاً من الأكراد. كانوا يرتدون ملابس فقيرة وينتعلون احذية بلاستيكية وأكثرهم تسلحاً كان يحمل بندقية كلاشينكوف.. ولم يكونوا يحملون اي سلاح آخر". ويواصل اسكندري: "دفناهم حيث ما وجدناهم في قبور جماعية، ضم بعضها 5 قتلى والآخر 4 قتلى، وهكذا… وفي اليوم التالي - حوالي العاشر من آذار وفي محور كفري شهدت تفجير احدى الشغلات بمدفع مباشر للمجاهدين، وجدناه يحمل رجلاً مع طفله. نقلنا الجثتين الى قاعدة اشرف ومعهما الشغل احدى معدات الحفر. ويتحدث اسكندري عن قتل عدد آخر من الجنود العراقيين الهاربين لم يكونوا يحملون سلاحاً، والتحقيق مع آخرين تخلفوا عن جبهات القتال في بقية المدن العراقية. ويؤكد ان "مجاهدين خلق سلموا كل من تشير هويته الى انه كردي الى الجيش العراقي والمخابرات". وأحصى اسكندري جثث 9 مقاتلين من البيشمركة التابعين للاتحاد الوطني الكردستاني، قتلهم المجاهدين في كلار. كما اعتقل اثنان من مقاتلي المجاهدين في المعركة نفسها يذكر اسم احدهما وهو بشار شبيبي وهو ضابط سابق في الجيش الايراني، وسلمه الاتحاد الوطني لايران حيث اعتقل في سجن ايقين واعدم لاحقاً. وسمى اسكندري قائد المحور من قيادة مجاهدين خلق الذي قاد العمليات في المنطقة وهو عزرا طالقاني. يبدو وبشكل جلي، ان "مجاهدين خلق" لم تكف عن محاولتها ايجاد طريق للانتصار للقضية التي ترفعها. ويبدو ايضاً انها راهنت في هذا السبيل على الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية والاقليمية، ولكن تلك المراهنة لم تتكلل بالنجاح المطلوب، اذا لم نقل انها حملتها عبئاً باهظاً. ففي قبولها خيار القتال ضد الأكراد وفي ظروف قاتلة كالتي مرت بها انما اختارت خياراً مراً جربته قبلها منظمات كثيرة سمحت لنفسها بأن تكون ورقة بين لاعبين كبار اقليمياً ودولياً. وخسرت المنظمة جراء ذلك الكثير. ففي حرب "مجاهدين خلق" في كردستان خسرت المنظمة، عملياً ما لا يقل عن 800 مقاتل انشقوا عنها على خلفية اعتراضات اخرى تراكمت على مر السنين منذ استقرار المنظمة في العراق. في سجن واحد من سجونها، وهو سجن "دبس" قبع في وقت من الأوقات 500 سجين من اعضائها. وفي سجون أخرى كسجن الرمادي وسجن المخابرات العراقية، المخصصين لإيواء المرشحين للابعاد، يقبع عشرات من اعضائها، كما يضم سجن العامرية أو سجن التسفيرات، عدداً آخر ممن انجزت ملفات تسفيرهم. وغالبية هؤلاء السجناء هم سجناء رأي مخالف لقيادة المنظمة التي شاءت الاستمرار في استخدام مناهج التنظيم نفسها. وتعد هذه الارقام والمعلومات التي تذكر ان بعضهم يبقى سجيناً مدة سنوات من دون مساءلة، كبيرة للغاية بالنسبة لمنظمة يفترض فيها الدفاع بالسلاح عن الحرية. هذا الأمر يطرح سؤالاً لاحقاً هو: لماذا هذه الظاهرة؟ وفي سياق حديثنا مع حقي موني ومحمد رضا اسكندري، وكلاهما سجن لمدد طويلة، وخبر أساليب المنظمة وذرائعها، وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة سياسية غير تقليدية. فما عدا الثورة الايديولوجية الأولى، التي نقل فيها رجوي المنظمة الى العمل السري، نلاحظ ان الثورة الثانية لمسعود رجوي اشتملت على عناصر جديدة تماماً، ففضلاً عما فصله المنشقان في حديثهما عن الفصل العائلي ثمة دلائل عديدة الى اتجاه لتعزيز البعد الروحي والوظيفة الروحية لرجوي. فهو انتهى منذ بداية التسعينات الى عزل اعضائه عن العالم، حتى ان بعض مقاتليه ممن يعيشون في العراق، مدة خمس أو ست سنوات لم يتصلوا بالمحيط الخارجي قط. زوجة المنشق اسكندري قالت وهي مناضلة سابقة في "مجاهدين"، انها لم تحتك مع العراقيين الا عندما ألمّ بها وجع أسنان شديد اضطرها للذهاب الى مستشفى خارج قاعدة أشرف. ويتفق حقي موني واسكندري في حديثهما عن معاداة المثقف والثقافة عموماً. ويقول حقي موني "ان أبلغ تعبير عن الاحتقار والإهانة لفرد ان ينعت بميوله الثقافية". ويصعب تصور نجاح هذه السياسة على الايرانيين خصوصاً، لأن ايران طورت خلال قرون مديدة ثقافة روحية ومعارف وفنوناً ومقتربات فلسفية وفكرية لا تزال مصدر إثراء وغنى للكثير من الشعوب. فالمعسكرات التي يقيم فيها أعضاء المنظمة التي تدّعي انها كانت وراء إسقاط نظام الشاه، محرومة من المكتبات أو الحق في الاستماع الى الموسيقى أو محطات الراديو أومشاهدة برامج التلفزيون. اكثر من ذلك، يذكر حقي موني واسكندري، ان الثقافة الاسلامية بدورها غير مسموح بها. وفي منظمة اسلامية تتبنى مذهب الاثني عشر، من الناحية المبدئية، وصلت تعاليم رجوي الى حد اضافة اسمه واسم زوجته عند الدعاء في المناسبات الاسلامية كليلة القدر، مما يصعب تصديقه أو تصوّره. ويقول حقي موني "ان المنظمة لا تسمح حتى بقراءة القرآن الكريم، أو تفسير آياته". واكثر من ذلك تطابقت آراء حقي موني واسكندري وزوجته "ان رجوي في أحيان كثيرة كان يتحدث عن حديث الوحي اليه". وهو، حسب هؤلاء "يأتي أمام الاجتماع العام ليقول: جاءني، من تعرفون، في المنام... وطاف معي على مراقدكم وقال كذا... الخ". بل ان مريم رجوي، زوجته كانت تتبعه في بعض الأحيان لتقول للجمع، ما يؤكد قوله وتزيد "ان لديه الكثير الذي لا يقدر على قوله... أنه لا يستطيع ذكر كل شيء لكم...". ويفصل حقي موني في حديثه احدى اشكاليات رجوي مع الواقع، اذ انه أبلغ في ثلاث مناسبات على الأقل، مقاتليه: انه أوحي اليه بالهجوم غداً على ايران والنصر ينتظره...". ولكنه كلما كان يذهب لاستشارة السلطات العراقية يؤجل هجومه على ايران. ولا يزال يكرر انه سيكون نهاية السنة ألفين في طهران يصلي في الحشود بعد اسقاط النظام. وفي الشعائر الدينية يتلو المتعبدون اسمه واسم زوجته "مريم" بعد الشهادة والصلاة على الرسول الكريم والأئمة الأثني عشر. كما ان اسميهما يضافان الى أسماء الأئمة الشيعة المعصومين.