قبل ان يتوجه الى باريس يوم الأربعاء الماضي، حرص ايهود باراك على توجيه نداء جديد الى الرئيس حافظ الأسد استخدم فيه وصف سورية ل"سلام الشجعان"، مؤكداً استعداده لوضع حد للحرب وسفك الدماء. وفي نيويورك، استغل وزير خارجيته ديفيد ليفي مناسبة اشتراكه في الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة، ليتهم دمشق بالازدواجية ويقول ان رغبتها في صنع السلام لا تتناسب مع تصلبها ازاء مطالب السلام. وعلى الموجة ذاتها تحدث وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي، مدعياً ان بلاده طلبت وساطة الدول الأوروبية بغرض الحصول على دعم يقنع سورية بضرورة استئناف المحادثات المجمدة منذ عام 1996. ولقد أوحى شلومو من خلال تفسيره لأسباب تردد الأسد في قبول عرض باراك، بأن الرئيس السوري يريد المشاركة في عملية السلام... ولكنه غير متحمس لتوقيع اتفاقية سلام! ويستدل من توقيت الحملة الاعلامية الهادفة ان باراك أراد الايحاء لجاك شيراك وليونيل جوسبان بأن مسؤولية فشل مهمة اولبرايت، تقع على عاتق السوريين لأنهم رفضوا شروطه. وهي شروط تعجيزية ادعت اولبرايت ان صوغها يمهد الطريق لاستئناف المحادثات. ويبدو ان الوزير فاروق الشرع ادرك خطورة الطرح الذي تقدمت به الوزيرة اولبرايت عندما اقترحت حلاً غامضاً لا يحدد الانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 كما تطالب سورية وترفض اسرائيل. واختارت ما وصفته بالحل الوسط لتؤكد استعداد اسرائيل استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في شباط فبراير 1996. وشعر السوريون بأن هذه الصيغة الغامضة ليست اكثر من فخ لاستمالتهم نحو طاولة المفاوضات، ومن ثم الدوران في حلقة مفرغة حول تحديد النقطة التي توقفت عندها. وبما ان وثيقة التزام رابين بالانسحاب الكامل من الجولان غير مسجلة خطياً، فان الجانب الاسرائيلي سيعتبرها لاغية، وسيكرر ادعاءاته بأن الخط النهائي للانسحاب من الجولان هو الحدود الدولية التي رسمها الانتداب عام 1923. وتفادياً لأي إشكال قد ينشأ عن الخلاف حول تعريف النقطة التي توقفت عندها المفاوضات... او عن ادعاء اسرائيل بأن سورية احتلت عام 1948 الحمة والضفة الشرقية لبحيرة طبريا، فقد أبلغ الشرع اولبرايت ان اعلان الالتزام بالانسحاب الكامل من الجولان يمثل قاعدة المفاوضات الجديدة. وأعرب امامها عن شكوكه بالنيات الاسرائيلية، وقال لها ان المطلوب مواقف واضحة وليس صيغاً غامضة تحمل في طياتها مخاطر خلاف اوسع. ولما حاولت اولبرايت الايحاء بأن باراك يقترح اجراء تعديلات طفيفة على حدود الرابع من حزيران لاعتبارات أمنية، ذكّرها الشرع بأن الخلاف الذي نشأ خلال المفاوضات السابقة، كان حول الترتيبات الأمنية، وليس حول الحدود. لذلك طالبها بتنفيذ الوثيقة الاميركية، على أمل ان يحترم باراك تعهد سلفه الراحل اسحق رابين. وعندما وصلت المباحثات الى هذا الحد من المصارحة، اعترفت اولبرايت بأن باراك يرفض وجهة النظر الاميركية لاقتناعه بأن اقتراح رابين لا يحمل صفة الالزام، وانما هو بمثابة قاعدة للتفاوض. وأكدت ان رئيس وزراء اسرائيل أبلغها اعتراضه على التفسير السوري لأنه يهمل شهادة الوزير الاميركي السابق وارن كريستوفر الذي يؤكد بأن موافقة دمشق جاءت منسجمة مع طلبات رابين المتعلقة بالترتيبات الأمنية. وبناء على هذه السابقة، يسعى باراك الى التفاهم حول ماهية مبدأ العودة الى النقطة التي توقفت عندها المفاوضات، دونما اشارة الى مسألة الانسحاب الى خط الرابع من حزيران يونيو 1967. بعد فشل مهمة اولبرايت في دمشق وبيروت، جدد ايهود باراك تعهده بتنفيذ خطة الانسحاب من جنوبلبنان من دون ان يربط اعادة الانتشار بترتيبات عسكرية - امنية تكون سورية الضامن فيها. وحدد مدة عشرة اشهر للخروج من الشريط الحدودي، معتمداً على مشروع الوزير يوسي بيلين الذي يشكك دائماً في نيات دمشق واستعدادها لعقد اتفاق سلام كامل مع اسرائيل. ويبدو ان وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي يشاطره هذه القناعة بدليل انه باشر في وضع دراسة ميدانية تتعلق بتثبيت اجهزة انذار مبكر على طول الحدود مع لبنان. كما عهد الى فرقة الهندسة في الجيش لاختيار القرية الموقتة التي سيسكنها انصار انطوان لحد ممن يرفضون السفر الى الخارج. وكما تعهد هنري كيسنجر بالتعويض على اسرائيل مقابل انسحابها من صحراء سيناء، هكذا توصل اسحق رابين الى انتزاع صفقة من ادارة كلينتون تتولى بموجبها دفع عشرة بلايين دولار في حال نفذت اسرائيل انسحاباتها من الأراضي العربية المحتلة. وكان من الطبيعي ان يجدد كلينتون تعهده لباراك ضمن ما يعرف "برزمة التعويض" الاميركية لاسرائيل. وهي رزمة متكاملة تتضمن اسلحة متطورة ومساعدات اقتصادية سخية. وعلى رغم ظهور مؤشرات تؤكد استعداد اسرائيل للانسحاب من جنوبلبنان، الا ان الادارة الاميركية غير واثقة من تنفيذ هذا القرار في الوقت المحدد تموز - يوليو 2000. علماً بأن باراك ابلغ رئيس الاركان الجنرال شاوول موفاز بضرورة التهيؤ لانسحاب احادي الجانب. كما طلب منه توزيع افراد فرقة "الجليل" المؤلفة من عشرة آلاف نفر على مواقع اخرى خلال مدة لا تزيد على الستة اشهر. ومع انه طمأن قائد "جيش لبنانالجنوبي" قبل سفره الى باريس، الا ان اللواء انطوان لحد شعر بأن الانسحاب من طرف واحد لن يؤمن له العفو، ولن يوفر لأنصاره ظروف التسوية التي سمحت بادخال افراد الميليشيات في جسم الجيش اللبناني. وكل ما وعده باراك خلال اللقاء، بأنه سيتحدث مع جاك شيراك عن هذا الموضوع، ويسعى الى ايجاد ترتيب يضمن لهذه المجموعة الانتقال الى اسرائيل او السفر الى كندا او فرنسا. وعندما أثار رئيس وزراء اسرائيل هذه المسألة مع الرئيس شيراك، اكتشف ان فرنسا لن تتخذ اي قرار يتناقض مع موقف لبنان وسورية. ولكنها ستكون مستعدة لارسال قوة عسكرية تدعم الجيش اللبناني في حال قررت حكومة الدكتور سليم الحص تعبئة الفراغ لأمني. ويتوقع الاسرائيليون بعد تنفيذ القرار 425، التئام مجلس الأمن لتمرير قرار يتعلق بزيادة عدد القوات الدولية بحيث تنتشر على طول الجهة الشمالية من الحدود الدولية. ويرى وزير العدل يوسي بيلين في المذكرة التي قدمها للحكومة ان اتفاق الهدنة الموقع في 23 آذار مارس 1949 كفيل بتحديد مسؤوليات الجانبين دونما حاجة الى وضع ترتيبات امنية جديدة. وينص الاتفاق في مادته الثالثة على "منع اي عمل حربي او عدائي من الأراضي التابعة لأي فريق من الفريقين ضد الفريق الآخر". وهذا ما يلحظه اتفاق الطائف في البند الثالث عندما يطالب "بالعمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بازالة الاحتلال الاسرائيلي ثانياً التمسك باتفاقية الهدنة ثالثاً باتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية وبسط سلطة الدولة على جميع اراضيها". ولقد تعهد الرئيس اميل لحود بضمان امن الجنوب في حال انسحبت اسرائيل من دون قيد او شرط. في ضوء هذه التطورات تظهر العملية السلمية وكأنها امام طريق مسدود، خصوصاً اذا نفذ باراك الانسحاب من لبنان قبل التوصل الى عقد سلام مع سورية. وتتخوف الادارة الاميركية من فقدان فرص التسوية في حال رفضت حكومة حزب "العمل" تغيير موقفها لصالح المعادلة السلمية. وهي ترى ان اسرائيل قرأت خطأ الاشارات الايجابية التي اطلقها الرئيس الأسد حول استعداد بلاده للدخول في التسوية مقابل الانسحاب الاسرائيلي الكامل من مرتفعات الجولان. ويعتقد باراك ان هذه الاشارات تعكس حاجة النظام في سورية الى تهيئة الاجواء الاقليمية والدولية لاستقبال الدكتور بشار الأسد من دون معوقات او مشاكل. كما تعكس بالتالي رغبة الرئيس الأسد في استعادة المرتفعات المحتلة بحيث تتواصل المسيرة السياسية التي بدأها عام 1970. التفسير الفرنسي لدوافع التردد الاسرائيلي، يختصره جاك شيراك في رهان باراك على رئيس اميركي جديد غير ملتزم تجاه الفلسطينيين والسوريين التزام الرئيس كلينتون نحو استكمال العملية السلمية. ومعنى هذا ان قرار الانسحاب من لبنان قد يدفع دمشق الى تعديل موقفها من شروط التفاوض في حال فقدت الثمن السياسي المتأتي من ضمان أمن الحدود الشمالية لاسرائيل. ولكن هذا الرهان اصطدم بموقف سوري اكثر تشدداً عندما ابلغ الوزير الشرع الوسيط الأوروبي وزير خارجية النروج كنوث فولبيك، بأن دمشق لن تبدل موقفها من شروط استئناف مفاوضات السلام. ولقد كرر هذا الالتزام في الأممالمتحدة ملغياً بذلك كل الاشارات الايجابية التي فسرها الاسرائيليون. وهذا ما قاله ايضاً للوزيرة أولبرايت مذكراً بتصريحات الرئيس كلينتون في قمة جنيف وقمة دمشق، وقوله "ان واشنطن لن تهدأ الى ان تصل الى تحقيق اتفاق سلام بين اسرائيل وسورية ولبنان، لأنها تعتبره المفتاح من اجل الوصول الى سلام شامل في المنطقة". ويقول المسؤولون السوريون ان الوسيط الاميركي لم يلعب دور الحكم النزيه بقدر ما لعب دور المسوّق المنحاز للموقف الاسرائيلي. وهم يقدمون الامثلة على الابتزاز الذي تعرض له الفلسطينيون، وكيف اقنعت اولبرايت ياسر عرفات بضرورة التخلي عن بند اعلان الدولة من طرف واحد، والاكتفاء ب350 سجيناً بدل 650... وربط موعد الانسحاب بموعد مباحثات التسوية الدائمة. لهذه الاسباب وسواها تريد سورية الاتفاق على اطار التسوية قبل الدخول في متاهات المفاوضات. وهي ترى ان باراك سيضطر الى التراجع عن قرار الانسحاب الاحادي الجانب في حال لمس ان عملية التخويف والابتزاز لن تؤدي الى اي تعديل في الموقف المبدئي السوري. وإذا حدث ان تغيرت قوانين اللعبة في الجنوب، وقررت اسرائيل الغاء الشريط الحدودي والاعتماد على قواتها لضمان امن حدودها الشمالية، فإن الوضع العسكري سيتغير برمته، خصوصاً عندما تصبح الساحة اللبنانية مشرعة لكل احتمالات خطر النزاع المسلح. ومن المتوقع في هذه الحال ان تؤجل جميع القضايا المطروحة على بساط البحث في لبنان، بدءاً بقانون الانتخاب... وانتهاء بانتخابات ايار مايو وما تكتنفه من متاعب تفضل الدولة ألا تكون سبباً لإرباك الوضع الداخلي! * كاتب وصحافي لبناني.