بعد الإعلان عن حاجة الوزير فاروق الشرع الى فترة نقاهة تمتد حتى مطلع شهر تشرين الثاني نوفمبر، قال مبعوث الاتحاد الأوروبي الى الشرق الأوسط ميغيل موراتينوس، ان جهود السلام قد تتأخر الى حين استعادة رئيس الديبلوماسية السورية عافيته. ومع ان مساعي مبعوث الاتحاد الأوروبي السابقة لم تنجح في ردم الهوة السياسية الفاصلة بين سورية واسرائيل، إلا انه بقي مصراً على تنفيذ الوثيقة التي تحمل اسمه، باعتبارها تمثل الحد الأدنى من اتفاق المبادئ. أي الوثيقة التي تضمنت أسس العلاقات السلمية، الأمر الذي جعل من موراتينوس أهم وسيط في المفاوضات غير الرسمية. والسبب في ذلك انه حظي بثقة الرئيس الأسد وبصداقة الوزير الشرع الذي استقبله أكثر من عشر مرات في رحلات مكوكية خلال السنتين الماضيتين. ولقد عاونه الاثنان على تقليص مساحة الفجوة المتعلقة بمسائل الأمن والسلاح ومحطات الانذار المبكر. وعندما اشترطت دمشق توقيع معاهدة السلام قبل وقف نشاط "حزب الله"، طلب نتانياهو من صديقه الثري الأميركي رونالد رون لاودر تطوير وثيقة المبادئ التي حققها موراتينوس. واستخدم الوسيط الجديد أسلوب الديبلوماسية المكوكية صيف 1998 فكان يطير من قبرص ليلتقي فاروق الشرع بحثاً عن نقطة انطلاق ملائمة لاستئناف المفاوضات لا يكون مطلب الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران 1967 شرطاً مبدئياً فيها. وبعد قيامه بتسع رحلات الى دمشق توارى وريث امبراطورية مواد التجميل "ايستي لاودر" عن الساحة، مجيراً أعباء المهمة الى رئيس حكومة اسبانيا خوسيه ماريا أزنار. ودخل أزنار من بوابة المنطقة كأول زعيم أوروبي يزورها بعد نجاح باراك... وكممثل لأنشط دولة استضافت مؤتمر مدريد الذي شهد انطلاقة المسيرة السلمية. كما استضافت مؤتمر برشلونة الذي وضع أسس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول البحر الأبيض المتوسط. ومع ان اللقب الذي يحمله خوان كارلوس كآخر ملك كاثوليكي يدعى "ملك القدس"، لا يؤثر على سير المفاوضات، إلا ان صداقاته مع الحكام العرب ساعدت على طي صفحات مؤلمة من تاريخ مشترك، واعطت الضوء الأخضر لظهور المآذن في المدن الاسبانية. وكغيره من الوسطاء السابقين حمل أزنار الى اسرائيل أهم ما اتفق عليه في مؤتمر مدريد، مطالباً باراك بضرورة التزام قاعدة مبدأ "الأرض مقابل السلام". ثم ذكره بإعلان برلين الصادر عن الاتحاد الأوروبي والمطالب بتنفيذ الاتفاقات الموقعة. وبعد قيامه برحلتين مضنيتين اعترف أزنار أمام الرئيس الأسد والوزير الشرع، بأن دوره لدى باراك لا يزيد عن دور "البوسطجي"، وان الولاياتالمتحدة وحدها تحتكر عملية الوساطة المؤثرة. وكما ذهبت وساطة أزنار سدى، كذلك قوبلت مساعي وزير الخارجية النروجي كنوت فولبيك، بالاعتراض من قبل باراك ووزير خارجيته ديفيد ليفي. ذلك انهما ربطا عملية استئناف المفاوضات بتخلي سورية عن شرطها المسبق بإعلان الانسحاب الكامل من الجولان. وكرر فاروق الشرع أمام نظيره النروجي موقف بلاده، مؤكداً له ان قرار الانسحاب يعتبر "وديعة" لدى الولاياتالمتحدة. وكانت تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها وزير الخارجية السوري وصف تعهد اسحق رابين "بالوديعة" وذلك لالزام الولاياتالمتحدة وتحميلها مسؤولية اضاعة فرصة السلام. وقد شدد على ابراز هذه النقطة أثناء استقباله نظيرته الاميركية مادلين أولبرايت، التي حاولت التنصل من التزامات بلادها، مدعية ان التعهد أصبح لاغياً في نظر القانون الدولي. وبررت أولبرايت هذه التحول بالقول ان سلفها الوزير كريستوفر نقل رسالة سرية في 18 ايلول سبتمبر 1997، الى نتانياهو يعتبر فيها تعهد اميركا لاغياً. وقالت ان واشنطن أبلغت حكومة ليكود سراً انها في حل من تعهد ضمني بإعادة الجولان الى سورية كانت حكومة رابين قد اتخذته. ولما حل شمعون بيريز في رئاسة الحكومة محل رابين، تبنى هذا الاتفاق غير الرسمي دون ان يكون على علم به. وكان من الطبيعي ان يعترض الشرع على تبني الدولة الكبرى راعية عملية السلام، موقف نتانياهو، متخلية بذلك عن دورها كشريك في مسألة الانسحاب الاسرائيلي الكامل الى خط الرابع من حزيران 1967. اضافة الى الاتفاق على وثيقة مبادئ وترتيبات أمنية تشكل ما نسبته ثمانين في المئة من عملية السلام. واعرب الشرع عن خيبة أمله من موقف اولبرايت وتنصلها من مسؤولية "الوديعة". ولقد تسلح ايهود باراك بحجتها، وأوصى مندوبه في الاممالمتحدة دوري غولد بأن يعمم هذا الموقف في بيان وزع على المندوبين. واضطر الدكتور ميخائيل وهبة، المندوب السوري الدائم لدى المنظمة، الى اصدار بيان مضاد أكد فيه ان وزير الخارجية السابق وارن كريستوفر نقل الى الرئيس الاسد في تموز يوليو 1994 موافقة رابين على الانسحاب من الجولان. وهذا ما كرره الشرع أمام الرئيس الفرنسي جاك شيراك اثناء توضيحه موقف سورية إزاء عملية استئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل. وتطرق البحث الى اقتراح اولبرايت القاضي بضرورة تسليمها خلاصة مواقفهما المبدئية لاستئناف المفاوضات، على ان تحتفظ هي بهذه المواقف "وديعة" سرية لا تنشر الا بعد انتهاء المفاوضات. ويبدو أنها أرادت تلبية المطلب السوري عن طريق اتاحة الفرصة لباراك بأن يتراجع دون ان يظهر امام خصومه وكأنه قدم تنازلات مسبقة. واستغلت اولبرايت اجتماعات الجمعية العامة لتطرح اقتراحها على فاروق الشرع وديفيد ليفي، على أمل دفع الطرفين الى استئناف المفاوضات خلال مدة اقصاها شهر واحد، وعرض الشرع على الرئيس كلينتون مخاطر هذا الاقتراح، منبهاً الى محاذير التخلي عن التزامه السابق كأن ادارته في زمن اولبرايت تتنصل من مسؤوليتها في زمن كريستوفر. ومثل هذا الانعطاف يجرّد الادارة من صدقيتها، ويظهر الولاياتالمتحدة بمظهر الدولة المنحازة والخاضعة لضغوط اسرائيل. ومع ان الرئيس كلينتون تعامل مع الوزير الشرع تعامله مع اهم شخصية سورية مؤتمنة على تنفيذ سياسة الاسد الخارجية، الا ان اقتراح اولبرايت لم يقنع السوريين بأن هذا الاخراج المتستر يوفر لهم الضمانات الكافية لاحراز تقدم على مسار السلام. في مقابلة اجراها وزير الخارجية السوري مع مجلة "نيوزويك" اكد ان دمشق تطالب حكومة باراك باعلان الانسحاب من الجولان كشرط مسبق لبدء المفاوضات. واوضح في حديثه ان سورية تطالب بسيادة كاملة حتى خط المياه في بحيرة طبريا، اي المنطقة التي كانت تحت السيطرة السورية عشية حرب حزيران يونيو 1967. وبما ان باراك وعد ناخبيه بأنه لن يسمح للسوريين بالاقتراب من بحيرة طبريا، فان هذا الوعد ظهر كعائق اساسي امام المفاوضات. والمؤكد ان اولبرايت حاولت مساعدة باراك للالتفاف على الشروط المقيّدة، عندما اقترحت استئناف المباحثات وفق قاعدة اطار جديد يتضمن تفاهم الطرفين على اهداف الترتيبات الامنية والتطبيع. وادعت امام الوزير الشرع ان باراك يريد الاحاطة بمجمل القضايا المهمة، قبل ان يلتزم سياسة الانسحاب من الجولان. ولكن وزير خارجية سورية رفض الاقتراح، وأصرّ على اعلان التعهد بالانسحاب اولاً، على ان يتم الاتفاق على طبيعة العلاقات في وقت لاحق. وسط هذه الازمة المتنامية التي فشل كلينتون في ضبط تفاعلاتها، وصل الى المنطقة الرئيس الفنلندي مارتي اهتيساري، متسلحاً بتجاربه الديبلوماسية في ناميبيا وكوسوفو. ولقد التقاه الشرع واستمع الى طروحاته قبل ان يشعر بالألم والارهاق، كأن هموم المفاوضات ضغطت فجأة على قلبه المتعب. او كأن الرئيس المناوب للاتحاد الاوروبي يريد تجديد تجاربه السابقة على اعقد مشاكل هذا القرن واكثرها قدماً. لذلك طلب من السوريين مباشرة الحوار حول الأمن والمياه، قبل الدخول في مسألة تحديد الحدود. وعندما رفضت دمشق هذه النصيحة، اعلن باراك تعهده بأن يسعى الى السلام مع العرب "بغصن الزيتون والسيف"، مستعملاً الشعار الذي اطلقه ياسر عرفات من فوق منبر الاممالمتحدة، ثم اتبع تهديده بانسحاب احادي الجانب من لبنان، آملاً ان يضع سورية امام ضغوط عربية ودولية لسحب قواتها من لبنان. السؤال الذي تطرحه المعارضة في اسرائيل يتمحور حول موعد الانسحاب تموز المقبل وما اذا كان ايهود باراك يستخدم هذا السيناريو كخدعة عسكرية، ام انه بالفعل غير قادر على الالتزام بخط الانسحاب من الجولان؟ كتب المعلّق العسكري "زئيف شيف" في صحيفة "هآرتس" يقول ان باراك يواجه معارضة خفية لفكرة الانسحاب من المنطقة العازلة في جنوبلبنان، ذلك ان قيادة الجيش لا ترى اي جدوى من هذه العملية، في حال جرى الانسحاب خارج اطار الاتفاق مع سورية. وتستخدم رئاسة الاركان امثلة عديدة لدعم وجهة نظرها، كحاجة روسيا لاقامة منطقة امنية خلف حدودها في الشيشان… او حاجة تركيا لانشاء منطقة مشابهة في شمال العراق، وتتسلح القيادة الاسرائيلية بتصاريح زعماء "حزب الله" لتؤكد ان الانسحاب خلف الحدود الدولية لا يضمن امن الجليل الاعلى او حتى سلامة تل ابيب من نيران الصواريخ. ويدعي هؤلاء ان اسحق رابين وظّف الوقت لاستكمال برنامج الاصلاح العسكري، واستخدم اسلوب المماطلة في المفاوضات مع سورية، بهدف تعزيز القوة الحربية الاسرائيلية، وكسب مزيد من اوراق المساومة في لعبة البوكر، اي لعبة المواجهة. وهم يضغطون على باراك لاقناعه بأهمية تطبيق نظريته الامنية القائلة بأن تفوق اسرائيل العسكري هو ضمانتها الامنية الاولى، وليس مشروع السلام! في خضم معركة عضّ الاصابع يتوقف نشاط رئيس الديبلوماسية السورية مدة شهر تقريباً، على ان يستأنف عمله المرهق مطلع الشهر المقبل، وبما ان سياسة وزارة الخارجية السورية تصدر من فوق مكتب الرئيس الاسد، فإن غياب منفّذها سيفرض على جميع الاطراف المعنية الانتظار ريثما يتعافى. خصوصاً وان تجاربه كوزير منذ عام 1984 منحته ثقة الرئيس الذي يستقبله دائماً، ويتشاور معه في المواقف الرسمية بحيث اصبح المتعهد الاول لتطبيق سياسة سورية الخارجية. وبفضل نجاحاته في هذا الحقل رشحته الصحف للدخول في عضوية القيادة القطرية خلال المؤتمر المقبل المقرر انعقاده في شباط فبراير سنة الفين. وعندما يحصل على هذا التعيين، ربما يبتسم له الحظ في رئاسة الحكومة. * كاتب وصحافي لبناني