مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وفريد شوقي، من المؤكد أن تحية كاريوكا، في رحيلها قبل أيام، عنت أكثر من مجرد رحيل فنانة استثنائية: موتها ربما كان في الامكان احتسابه في خانة المراحل الانعطافية والدلالات في زمن التغيرات الكبرى الذي نعيشه. فمع رحيل تحية كاريوكا ينقضي زمن مُخلياً المكان لأزمان أكثر إثارة لعلامات الاستفهام. ولكن يبقى السؤال: كيف يقيّض لفرد، جاء من الحضيض أن تكون لحياته، ومن ثم لموته، هذه المعاني كلها؟ خمسة مشاهد أولا مشهد البداية: القاهرة، أواسط سنوات العشرين. مراهقة تصل من مسقط رأسها الاسماعيلية، ولن يعرف الكثيرون اسمها الحقيقي. في العاصمة تبحث المراهقة عن فنانة استعراض تدعى سعاد محاسن كانت وعدتها بالعمل عندها. لكن سعاد كانت عادت الى بلدها سورية. المراهقة لن تيأس ولن تضيع في ظلام الليالي القاهرية. ستتوجه بسرعة الى كازينو بديعة وتبدأ مسارها الفني: راقصة شرقية. مشهد المجد الأول: القاهرة، تلك المراهقة نفسها صارت صبية، وصديقة لأم كلثوم. ذات يوم ترافق الراقصة المغنية الى حفلة تحييها هذه الأخيرة. عندما تبدأ أم كلثوم غناء "غنيلي شوي شوي" تنادي على الصبية التي كانت واقفة بين الكواليس تصغي اليها مشدوهة. تربط حول خصرها حزاماً وتدعوها الى الرقص على إيقاع اغنيتها أمام جمهور أدهشته تلك الحركة. منذ تلك اللحظة لن يبقى الرقص في عهدة العوالم وشارع عماد الدين. صار شيئاً أكثر جدية من ذلك. مشهد البحر: المكان هذه المرة، مدينة "كان" في الجنوب الفرنسي، أواسط الخمسينات. تلك المراهقة نفسها صارت اليوم امرأة ناضجة. مهرجان المدينة السينمائي يعرض لها واحداً من أجمل وأقوى أفلامها: "شباب امرأة". وهي تسير على الشاطئ مختالة بثوبها المصري البلدي. كانت تلك سنوات العري والساعيات الى الشهرة على الشاطئ اللازوردي. أما ممثلتنا المصرية الشابة فرأت أن ثوبها البلدي سيكون أكثر إثارة. ترى من خّمن في تلك اللحظة أن تلك السمراء ذات النظرات الضاحكة، هي هي "مصاصة الدماء" كما ترجم عنوان "شباب امرأة" الى الفرنسية؟ بالنسبة الى فنانتنا، لم يكن ذلك هو المهم. المهم كان تحولها نهائياً!؟ من راقصة الى ممثلة بشهادة المهرجان ونقاده. مشهد المناضلة: وتمضي السنوات، لنجد أنفسنا في القاهرة سنوات الثمانين. فنانتنا صارت كهلة، ترتدي الحجاب. لكن عينيها باسمتان دائماً، ولم تفقد شيئاً من حيويتها. هي الآن بعيدة عن الفن بعض الشيء. لكن ذلك لم يمنعها من تزعم اضراب الفنانين الشهير ضد قانون نقابي جائر. في السن التي كانت فيها فنانات من عمرها يخلدن الى الهدوء، كانت هي لا تزال شعلة حركة وغضب وكرم. ان لم يكن الاضراب والاعتصام نجح يومها، فإن السيدة أعطت مثلاً، هي التي لم تتوقف طوال حياتها عن اعطاء الأمثال. وأخيراً... مشهد التكريم: سنوات بعد ذلك، ها هي السيدة نفسها، عجوزاً هذه المرة، حجابها لا يزال على رأسها. وابتسامتها الجزلة لا تزال في عينيها. بصعوبة ترتقي السلم الخشبي للوصول الى مسرح دار الأوبرا. فهناك كان ثمة تكريم للسيدة من قبل مهرجان سينمائي قومي. في تلك السنوات التي شهدت ذروة اعتزال وتحجب بعض أشهر الفنانات، لم تتردد تلك العجوز، رغم حجابها، من اعتلاء الخشبة والدفاع عن الفن ضد الذين أعلنوا... التوبة عنه. الابتسامة لم تتبدل ستون عاماً مضت بين المشهد الأول والمشهد الأخير. خلال تلك السنوات تبدلت أمور كثيرة، في مصر، في العالم العربي، وفي العالم. في الفن وفي الحياة الاجتماعية. شيء واحد لم يتبدل: تلك الابتسامة الرائعة في عيني تلك السيدة. الابتسامة التي لديمومتها، ارغمت المخرج صلاح أبو سيف، حين أراد ابدال الفرح بالحزن في العينين أنفسهما، الى استدعاء من أغضب السيدة وأحزنها. فكان ان صوّر الشعور المطلوب، بشكل استثنائي. ترى هل سيعرف أحد، أبداً، اسمها الحقيقي؟ هل سيعرف أحد لماذا - في تلك الأزمان التي كان اشتغال صبية مصرية في الرقص فيها يعتبر عاراً ما بعده عار - تحولت ابنة الاسماعيلية المراهقة الى راقصة، تلك المهنة التي كانت، في ذلك الحين، وقفاً على بنات الأقليات ولا سيما "الشاميات"؟ هل كان اسمها نبوية أو عبلة؟ أم كانت بكل اختصار: تحية؟ تحية محمد كريم؟ في جميع الأحوال عرفت باسم تحية كاريوكا. والقسم الثاني من الاسم جاء بالطبع من تنويعة برازيلية على رقصة "السامبا" - تنويعة من ريو دي جانيرو، كما يشير الاسم نفسه - اتقنتها تلك المراهقة في ذلك الحين وارتبطت بها. ستون عاماً بطولها، عرفت تحية محمد كريم باسم تحية كاريوكا. وعرّف الرقص الشرقي بها. لكنها هي، حين ملأت استمارة انتساب الى نقابة الفنانين قبل نحو ربع قرن من الآن، أصرت على أن تكتب في خانة المهنة: "ممثلة... راقصة سابقاً". هل لأنها كانت تخجل من ماضيها كراقصة؟ أبداً، بالتحديد لأنها كانت كفت عن أن تكون راقصة منذ زمن بعيد. ومع هذا، حتى اليوم، لا يذكر الرقص الشرقي العربي تحديداً، إلا وتذكر معه. وغالباً مع زميلتها وغريمتها سامية جمال مشهد اعتراضي: طوال الخمسينات، كانت حكاية التنافس بين الاثنتين تشغل صفحات الصحف الفنية. من هنا حين مثلتا ورقصتا معاً، مثل اختين سياميتين في فيلم "حبيبي الأسمر" كان الحدث جديراً بصفحات الصحف الأولى. مهما يكن في الأمر، هناك الرقص العربي قبل وبعد: قبل تحية كاريوكا وبعدها. قبل تحية كاريوكا كان ذلك الرقص مجرد "هز بطن" و"شغل عوالم" من طراز اللواتي يصفهن ادوارد لين في كتابه عن عوائد المصريين في القرن التاسع عشر، ويملأن روايات نجيب محفوظ عن القاهرة خلال النصف الأول من القرن العشرين. مع تحية كاريوكا تبدل ذلك كله: صار الرقص فناً قائماً بذاته. وصارت الراقصة فنانة يحترمها المجتمع. بفنها فرضت تحية كاريوكا هذا. لكنها فرضته بشخصيتها أيضاً: وشخصيتها كانت على الدوام مزيجاً من الاهتمام بالفن وبالسياسة وبالقضايا الاجتماعية. ولعل صداقتها لأم كلثوم اضفت عليها هالة معينة، بحيث صارت تحية كاريوكا بالنسبة الى الرقص ما كانته أم كلثوم بالنسبة الى الغناء، وما يمثله نجيب محفوظ بالنسبة الى الرواية. تبنت الثورة بعد انتقاد ومع هذا لم تخل الصحف أبداً من أخبار زيجاتها: ثماني زيجات على الأقل "لكن كلها بالحلال... وده كان قسمتي ونصيبي" كانت تحية كاريوكا تقول. أسعد زيجاتها كانت مع رشدي أباظة "الوحيد الذي أحببته حقاً" وأشهرها مع محرم فؤاد الذي لم تعرف أبداً لماذا تزوجته. أما الأسوأ فكانت مع الأخير... فايز حلاوة الذي سيرى كثيرون أنه هو الذي قادها بعيداً عن هواها الناصري، حين ألفا معاً فرقة مسرحية راحت تشاكس على انجازات عبدالناصر وتشمت من هزيمته في العام 1967، لكن هذه حكاية أخرى. رغم زيجاتها العديدة، لم تتسم حياة تحية كاريوكا بأي جانب فضائحي. وحتى حين ربط بينها وبين الملك فاروق، عرفت كيف تنسي الناس الحكاية بسرعة. هي التي تبنت ثورة الضباط الأحرار بعد فترة من حدوثها، وبعد شهور شك وسخرية قادتها الى السجن. ومن المؤكد أن أيام السجن تلك، أضفت على تحية نوعاً من البطولة، وجعلتها - هي - أكثر ميلاً للانخراط في العمل السياسي "على طريقتي طبعاً" كان يحلو لها أن تقول مبتسمة. كانت وطنية بشكل عام. ووطنيتها جعلتها أول من يتطوع في الدفاع المدني ويتدرب على السلاح بين الفنانين خلال عدوان 1956، ثم خلال حرب حزيران يونيو 1967. بعد ذلك، حين حوصر الفلسطينيون في لبنان من قبل الاسرائيليين الذين وصلوا الى حد احتلال بيروت، كانت تحية كاريوكا رغم كهولتها وأمراضها في ذلك الحين من اوائل الفنانين الذين أسرعوا للقيام برحلة التضامن الشهيرة. ولكن، هل كل هذا هو الأكثر أهمية في حياة تحية كاريوكا؟ هل كانت مجرد راقصة اضفت على فن الرقص مكانة واحتراماً، وامرأة وطنية، كان من سوء قسمتها ونصيبها، أن لم تستقر طوال حياتها مع رجل واحد يغمرها بحنانه وتعطيه بعض ما وزعته على الناس من حنان؟ أبداً... الأكثر أهمية والذي يميل الكثيرون الى نسيانه، هو ان تحية كاريوكا كانت ممثلة، وممثلة من طراز متميز. كانت ممثلة أكثر مما كانت راقصة. وهي بقدر ما أعطت السينما، أخذت من السينما. صحيح ان تحية كاريوكا لم تمثل مع يوسف شاهين، الذي كانت لها عنده مكانة خاصة، إلا في فيلمين، في واحد منهما مثلت دورها في الحياة تحية كاريوكا خلال اعتصام الفنانين كجزء من فيلم "اسكندرية كمان وكمان" الذي هو جزء من سيرة شاهين السينمائية الثلاثية، وفي الثاني "وداعاً يا بونابرت" في دور صغير، لكنها في المقابل مثلت في أكثر من مئة فيلم، اقتصر دورها في بعضها على الرقص، لكنها في البعض الآخر قامت بأدوار لا تنسى. طبعاً، سيبقى الفيلم - العلامة، "شباب امرأة" من اخراج صلاح أبو سيف، وهو الفيلم الذي قادها الى "كان". صلاح أبو سيف قال حين سأله الناقد هاشم النحاس عن الكيفية التي تعرف بها على تحية ما جعله يسند اليها دور البطولة النسائية في هذا الفيلم متيحاً لها "القيام بدور يعتبر ولا شك واحداً من أهم أدوارها السينمائية": "عرفت تحية من مدة طويلة سابقة، كانت ضمن مجموعة الأصدقاء التي تضم فطين عبدالوهاب وكامل التلمساني وكمال الشيخ. ومما لاحظته فيها أنها تملك عينين تبتسمان. حتى في لحظات غضبها عيناها تبتسمان". تحت ادارة صلاح أبو سيف مثلت تحية كاريوكا ايضاً في "الفتوة" وفي "السقا مات" وفي ".. وسقطت في بحر العسل". لكنها عملت أكثر مع حسن الإمام "خللي بالك من زوزو" و"السكرية" و"اضراب الشحاتين" كما عملت مع بركات وحسن الصيفي ولكنها، اذا كان هناك دور ظلت تذكره حتى أيامها الأخيرة، الى جانب دور "شفاعات" في "شباب امرأة" فإن هذا الدور هو دورها في "أم العروسة" من اخراج عاطف سالم... وكذلك دورها في "للحب قصة أخيرة" لرأفت الميهي. ثقافة فنانة ان الاستماع الى تحية كاريوكا وهي تذكر عملها في الأفلام الفنية الصعبة أكثر مما تذكر عملها في الأفلام التجارية السهلة، يدفعنا الى التساؤل، عما إذا كانت تعتبر نفسها مثقفة؟ بالأحرى كانت ذات ذكاء فطري. فالأرجح ان انخراطها في العمل في سن مبكرة حرمها من أن تتعلم، لكنها على مدار السنين، ومن خلال عملها مع فنانين مثقفين من أمثال نجيب الريحاني وحسين فوزي وتوغو مزراحي، ولاحقاً من خلال اختلاطها بالصحافيين الكبار من أمثال محمد التابعي وكامل الشناوي ومصطفى أمين وعلي أمين وغيرهم، اكتسبت قدراً كبيراً من الثقافة، جعلها تكتب في استمارة نقابة الفنانين انها تتقن الفرنسية والانكليزية وتقرأ كتباً عن الفن والسينما بهاتين اللغتين لافتقار المكتبة العربية الى كتب بلغة الضاد، عن الفنون عموماً وعن الفن السابع، كما أكدت هي. في الأحوال جميعها يمكن القول إن تحية كاريوكا كانت خريجة متميزة من خريجات مدرسة الحياة. فهذه الفنانة التي بدأت باحثة عن سعاد محاسن لتنضم الى بديعة حسني، والتي صارت ملكة للرقص العربي، ونجمة فن وممثلة سينمائية متميزة، عاشت السنوات الأكثر تبدلاً وصخباً في تاريخ مصر. وهي عاشت تلك السنوات في أعماقها وواكبتها مواكبة المتنبه. ومن هنا فإن رحلتها من الاسماعيلية الى القاهرة الى "كان"، ومن كازينوهات الثلاثينات، الى حجاب التسعينات، ومن "الأستاذ فرحات" فيلمها الأول في العام 1935، وكانت بعد في الخامسة عشرة الى "الاسكندرية كمان وكمان" وهو واحد من أفلامها الأخيرة. ومن الرقص الى السينما الى المسرح الذي اضحت سيدته خلال السبعينات والثمانينات، ومن الملك فاروق، الى دعم الفلسطينيين في لبنان... هذه الرحلة لا يمكن اعتبارها مجرد رحلة في حياة انسان. انها بالأحرى، رحلة في جزء أساسي وجميل من تاريخ مصر. وربما من تاريخ العرب أيضاً. من هنا ما أحسه البعض، حين بلغهم نبأ رحيل تحية كاريوكا، بأن جزءاً من ذلك التاريخ يولي الادبار. وليس من الصدفة أن يولي الادبار على هذه الشاكلة، في سنوات التغيرات الكبرى التي نعيشها.