حالة استثنائية سيتوقف تاريخ الفن عندها لزمن طويل مقبل، ليس لكونها أشهر راقصة عرفتها مصر أو لأنها واحدة من أهم الممثلات في تاريخنا الفني، بل لأنها كانت وستظل واحدة من أكثر الشخصيات المصرية كاريزميةً ... تلك هي تحية كاريوكا. هكذا قال الناقد السينمائي طارق الشناوي في كتابه «زمن ...تحية كاريوكا» الصادر ضمن مطبوعات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الأخيرة. قدمت تحية كاريوكا (1919- 1999) للسينما 119 فيلماً روائياً بدأتها في العام 1935 عندما قامت بأداء تابلوهات استعراضية راقصة في فيلم «الدكتور فرحات» من إخراج توغو مزراحي، قبل أن تشارك في بطولة عدة أفلام مع كبار مطربي الأربعينات من القرن الماضي بينهم فريد الأطرش في فيلم «أحلام الشباب» و «شاطئ الحب» ثم مع محمد الكحلاوي في فيلم «طاقية الإخفاء» و «الصبر جميل» و «ليلة الجمعة» ومع إبراهيم حمودة في فيلم «الصبر طيب» ومع محمد أمين في فيلم «نجف» و «يحيا الحب». ثم جمعتها بالفنان الكبير محمد فوزي عدة أعمال منها «حب وجنون» و «ابن للايجار»، و «بنت باريس» و «غرام راقصة». كما أنها شاركت مع كارم محمود «عيني بترف» و «فايق ورايق» ومع عبدالعزيز محمود «منديل الحلو». ويكمل الشناوي «لأن المسافة ليست بعيدة بين الرقص والتمثيل نجد أن كل الراقصات لديهن حلم آخر هو التمثيل ولكن تحية أصبحت حالة مختلفة ومتفردة حينما أخذت بنصيحة أستاذها سليمان نجيب وتعلمت الباليه وأجادت اللغتين الإنكليزية والفرنسية وشاركت في الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد استعانت السينما الغنائية والاستعراضية منذ نهاية الثلاثينات وحتى مطلع الخمسينات بتحية كاريوكا، فقدمت أفلاماً مع نجوم تلك السنوات ومن بينهم فريد شوقي ومحسن سرحان ومحمود إسماعيل ومحمود المليجي وغيرهم. ويوضح الشناوي قائلاً: «أما النقطة الفاصلة في مسيرتها الفنية فكانت مع العملاق نجيب الريحاني - زوج معلمتها بديعة مصابني - في فيلم «لعبة الست» (1946) من إخراج ولي الدين سامح وقامت بالغناء فيه أغنيتها المشهورة «يا خارجة من باب الحمام» من ألحان محمود الشريف، ويعتبر هذا الفيلم نقطة انطلاق رئيسة ومهمة لها في مجال التمثيل، حيث قفز بها من راقصة شهيرة يستعان بها في الأفلام لترقص كثيراً وتمثل قليلاً. وهذا الفيلم -والكلام للشناوي- يصلح في الحقيقة أن يصبح درساً لكل راقصة تريد أن تمثل ولكل مخرج يريد أن يقدم فيلماً بطلته راقصة. كان فيلم «شباب امرأة» 1956 للمخرج صلاح أبو سيف (حيث لعبت دور شفاعات الرائع، هو ذروة أعمال كاريوكا. فقد ذابت تماماً الحدود الفاصلة بين الدور والشخصية التي تؤديها. وكان ذروة أدوار بنت البلد ليس فقط في تاريخ تحية كاريوكا بل وتاريخ السينما العربية، إذ قدمته بأستاذية واقتدار فصار ترمومتر أداء دور بنت البلد. ثم قدمت في العام التالي فيلم «الفتوة» وتوالت مشاركتها عبر أفلام مثل «وسقطت في بحر العسل» و «السقا مات». تعايشت كاريوكا مع الزمن ولم تناصبه العداء ولهذا توَاصل عطاؤها. ففي السبعينات كانت المرحلة زاخرة بالسياسة فقدمت «زائر الفجر» لممدوح شكري و «الكرنك» لعلي بدرخان كما يعد فيلم «سمارة» و «أم العروسة» من العلامات المهمة في مسيرتها الفنية. قدمت كاريوكا المسرح السياسي مع زوجها السابق فايز حلاوة ومن أشهر مسرحياتها «روبابكيا» و «يحيا الوفد» و «البغل في الإبريق» و «حضرة صاحب العمارة». وهي ظلّت تتابع الحياة السياسية حتى سنواتها الأخيرة وكانت الفنانة الوحيدة التي أضربت عن الطعام في العام 1988 في اعتصام نقابة السينمائيين ولم يوقف إضرابها سوى تدخل الرئيس حسني مبارك حينذاك. ويرى طارق الشناوي في بعض أعمالها رؤية خاصة بها، فمثلاً في ثنايا فيلم «آه يا بلد» تنكشف أفكارها حول حرية الفنان وقيود السياسة. فيما قال عنها النجم محمد صبحي: «أرى فيها فتاة الأحلام والمرأة والأم» ولكن المقال الأهم والأشهر كتبه المفكر إدوارد سعيد عنها في العام 1990 قائلاً: «على رغم أن تحية كاريوكا جاوزت السبعين، فإنها لا تزال فاعلة كممثلة ومناضلة سياسية، فضلاً عن بقائها شأن أم كلثوم رمزاً بارزاً من رموز الثقافة الوطنية». كانت تحية كاريوكا آخر رحيق الزمن الجميل زمن العمالقة نجيب الريحاني وأنور وجدي ويوسف وهبي وأم كلثوم وأحمد رامي ومحمد عبدالوهاب وسليمان نجيب وفريد شوقي ورشدي أباظة.