الزمان واحد تقريباً، بداية سنوات السبعين من القرن المنصرم. المكان: مكانان، تجمع بينهما الإيديولوجيا وتفرقهما امور كثيرة اخرى لا علاقة لنا بها هنا، الاتحاد السوفياتي من ناحية والصين من الناحية الأخرى. من المكان الأول يطرد في ذلك الحين واحد من اكبر شعراء الروسية، جوزف برودسكي ليسلك طريق المنفى الى الولاياتالمتحدة، حيث لن يلبث أن يفوز بجائزة نوبل للآداب. ومن المكان الثاني يسافر شاب بالكاد تجاوز سن المراهقة ليتدرب شهوراً في فرقة باليه بن ستيفنسون في مدينة هوستون الاميركية ويصبح خلال فترة واحداً من أشهر راقصي الباليه في العالم. الأول كان شاعراً مشاكساً وصار واحداً من أوائل المنشقين. أما الثاني فكان مجرد فنان لا علاقة له بالسياسة. ومن هنا حين سينشق عن سياسة بلده، لن تكون لانشقاقه خلفيات سياسية. ومع هذا، على عكس ما حدث للسوفياتي برودسكي الذي ظلت حكاية انشقاقه حكاية خاصة لا علاقة لها بالسياسة، أدى انشقاق الصيني الى أزمة ديبلوماسية حادة بين موسكووبكين... مع أن سفره أصلاً الى الولاياتالمتحدة كان ضمن تبادل ودّي بين البلدين. الحكايتان حقيقيتان وتزامنتا حدثياً. والسؤال هنا هو الآتي: حين سار المبدعان السوفياتي والصيني على درب مصيرهما الذي كاد يكون مشتركاً، هل كان ليخيل اليهما انهما، كل على حدة، سيكونان يوماً موضوعين لفيلمين سينمائيين كبيرين أولهما روسي - حيث بات وصف سوفياتي خارج التاريخ - والثاني أميركي؟ هل كان ليخيل اليهما انهما سيلتقيان عبر الفيلمين في عرضين متزامنين، يوماً، في مراكش بالتحديد، ليكون فيلماهما من أبرز ما يعرض في الدورة الأخيرة لمهرجان هذه المدينة السينمائي... والاثنان خارج المسابقة الرسمية؟ وهل كان سيخطر في بالهما، معاً، أن الفيلمين سيتحدثان عن نفيهما، ثم عن عودتهما الى الوطن بعدما زالت أسباب النفي؟ أبداً بالتأكيد. كما ان العودة نفسها، والتي صورها كل من الفيلمين في ما يخص شخصيته الاساسية، لم تكن متساوية. إذ، فيما كانت عودة الراقص الصيني الى دياره، حقيقية، أعادت كاميرا فيلم «راقص ماو الأخير» تصويرها في شكل أخاذ واحتفالي صاخب يكاد يكون واقعياً مئة في المئة. كانت عودة الشاعر الروسي الى دياره متخيلة جملة وتفصيلاً، تخيلتها كاميرا فيلم «غرفة ونصف الغرفة» في شكل حلمي مدهش. بل لنقل منذ الآن إن «رحلة العودة» هذه لجوزف برودسكي الى دياره تشكل كل الفيلم، حيث اختار مخرجه أن يجعل من الرحلة المتخيلة سلسلة مشاهد ومواقف تعود زمنياً الى الوراء لترسم ليس فقط حياة صاحب قصيدة «جون دان نام» الشهيرة، بل حياة والديه وموتهما، وحياة جزء من الساحة الثقافية في موسكو ولينينغراد خلال سنوات الستين والسبعين من القرن العشرين. رحلة ما بعد الموت نحن هنا إذاً أمام فيلمين عن «منشقين» من النوع الذي كان يشغل أعمدة الصحف وصفحات التعليقات في شكل وافر، يوم كان الانشقاق نفسه سلاحاً في الحرب الإيديولوجية الباردة بين «الشرق» و «الغرب». ونعرف اليوم أن هذا النوع من الاهتمام قد تضاءل، بل، نكاد نقول انه اختفى ولا سيما في السينما، ليصبح مجرد جزء من الماضي... ذكريات يفضل أصحاب العلاقة أن ينسوها. ومن هنا حين تشاء صدفة ما أن يُحقق فيلمان كبيران يطاولان هذا الموضوع في وقت واحد، من الصعب أن نتصور ان الغاية منهما اليوم فتح ملفات ايديولوجية، أو حتى أن يكونا جزءاً من استحضار ذكرى معينة لمناسبة تاريخية ما. بشيء من حسن النية نقول، إذاً، اننا أمام فيلمين غايتهما الأولى سينمائية، يأتيان في زمن يكثر فيه انتاج أفلام السير الذاتية. ونكاد نشدد على هذا الجانب بخاصة لأن نهاية فيلم «راقص ماو الأخير» تكاد تثني على التحولات الهائلة في صين اليوم، الصين التي عادت وغفرت لبطلها الراقص واستقبلته بأذرع مفتوحة حين عاد أخيراً ليزور الديار. وهو أمر لا ينطبق طبعاً على حكاية برودسكي، الذي نعرف أنه رحل عن عالمنا قبل حدوث تلك التغيرات الجذرية في وطنه السوفياتي، الذي كان قد ظل على حنينه اليه والى لغته وهو في منفاه... وهذا، طبعاً، ما يشكل الموضوع الأساس ل «غرفة ونصف الغرفة»، الذي بُني أصلاً على شكل قصيدة شعرية، واستخدم مخرجه فيه الكثير من عناصر اللغة السينمائية في «كولاج» ينتمي حقاًَ الى سينما - ما - بعد الحداثة، تيمناً بشعر برودسكي نفسه. «غرفة ونصف الغرفة» هو الفيلم «الروائي» الطويل الأول لمخرجه، مخرج التوثيق الروسي المخضرم أندريه خرجا نوفسكي، الذي حين قرر وهو في التاسعة والستين من عمره، أن ينتقل من سينما التوثيق وسينما التحريك، فضل أن يبقي على هاتين كجزء أساس من لغته السينمائية. ومن هنا نراه يستخدم المشاهد التمثيلية المصورة، ومشاهد التحريك والوثائق التاريخية المؤفلمة، والسرد الشعري ومشاهد الطبيعة الصامتة والريبورتاج الصحافي، ليصنع ساعتين سينمائيتين حالمتين تتابعان حياة برودسكي من قبل بدء تلك الحياة: منذ شباب والديه ولقائهما وعيشهما معاً، ثم انجابه وتربيته حتى أيامه الأخيرة، وصولاً الى ما بعد تلك الأيام، أي بعد موته حين يتخيل المخرج تلك «الرحلة» المدهشة التي يقوم بها الشاعر عائداً الى مدينته، لينينغراد - وقد عاد اسمها سانت بطرسبرغ - هو الذي أصلاً لم يبرحها أبداً في خياله تيمناً بقول سابقه في المنفى فلاديمير نابوكوف، صاحب «لوليتا» بين أعمال رائعة أخرى، حين كتب وقد أضحى أميركياً عجوزاً، انه على رغم كل شيء يعرف أنه حين يأتي مساء كل يوم، يرحل في روحه وقلبه الى روسيا الحبيبة محلّقاً فيها. الشيء نفسه يقوله الفيلم عن برودسكي الذي نراه وهو على سفينة العودة، عجوزاً مكللاً بمجد نوبل الأدبي، يعيش ماضيه، وفي شكل خاص ماضي أبيه، الذي يبدو أنه كان الشخصية الأساسية المؤثرة في حياته. لكنه في الوقت نفسه يعيش مدينته وتحديداً من خلال كاميرا خرجانوفسكي المتمرسة في هذا النوع من التوثيق الساحر للمكان. راقص الصين العظيم فيلم «غرفة ونصف الغرفة» ينتمي الى سينما شاعرية، تليق بأعمال جوزف برودسكي الشعرية وبحياته التي كادت أن تكون رتيبة من دون أحداث كبيرة، وكادت أن تتواصل في موسكو أو في لينينغراد، لولا انه ورفاقه في الستينات، اكتشفوا الحرية من خلال فترة سماح خروتشفية - نسبة الى الرئيس نيكيتا خروتشيف، ناقد ستالين الأول ومحرر الأذهان في الخمسينات، الذي فتح آفاقاً سرعان ما أغلقها الحزبيون الجامدون، من دون أن يعرفوا كيف يطفئوا جذوتها لدى مبدعين من طينة برودسكي. هذا الكلام من الصعب أن يقال عن الراقص الصيني لي خونكين، الذي كان في السابعة عشرة من عمره، حين سمع به الأميركيون خلال زيارة وفد فني منهم الى الصين يضم، في من يضم، مدرب الرقص بن ستيفنسون، فاختاروه في اتفاق تبادل فني كي يدرس رقص الباليه الحديث في هوستون لمدة ثلاثة أشهر. هذه الحكاية يصل اليها الفيلم بعد أن يكون قد قدم الينا طفولة لي وترعرعه في قرية فلاحين بائسين، حيث ولد العام 1961. وفي هذا الشريط الكلاسيكي الذي حققه الاسترالي بروس برزفورد، ليس ثمة حداثة، إذ نحن هنا أمام فيلم كلاسيكي يصور لنا نمو لي وتألقه، على رغم كل الصعوبات، حتى يصبح راقصاً مراهقاً لافتاً للنظر، ما يسهل ارساله الى أميركا، حيث إثر مشاهد في غاية الطرافة تتناول «اكتشافه أميركا» و «اكتشاف أميركا له»، وإثر حكاية حب يجمعه براقصة ناشئة، يبدأ صاحبنا تساؤلاته حول بلده والشيوعية والحكم الشيوعي، حتى اللحظة التي، إذ يكون قد أصبح واحداً من أشهر الراقصين في أميركا، يستدعيه الحزب الشيوعي للعودة الى الديار. هنا - وكما تروي لنا سيرة خونكين التي كتبها بنفسه في نصه الذي صار كلاسيكياً بعد ذلك وأُخذ عنه الفيلم وعنوانه - تصل حكاية هذا الراقص النجم الى ذروتها ويعيش أزمة حياته الكبرى، وهي الأزمة التي تمخضت عنها حكاية الصراع الديبلوماسي الذي ثار بين بكين وواشنطن. والحكاية، طبعاً، حقيقية يذكرها بالطبع أولئك الذين كانوا في سنوات السبعين من القرن الماضي مهتمين بمتابعة الصراعات في الحروب الباردة. فلي، إذ تزوج من حبيبته الفتية اليزابيت ماكي، ما يجعل طرده من أميركا مستحيلاً، حتى ولو شاءت الحكومة الأميركية ذلك، يختطف ويعتقل داخل القنصلية الصينية في هوستون. ومن هنا تندلع تلك الأزمة الديبلوماسية الشهيرة، التي تنتهي بصفقة مهينة للصينيين تنص على تركه يعيش في أميركا. فيطلق سراحه، ليعيش حياته ونجوميته بعد ذلك... ويغير زوجته ويظل على حنينه الطاغي الى مسقطه في بلدة كينغداو الصينية. وهي القرية التي يزورها في المشهد الاخير في الفيلم بعدما كانت التبدلات الإيديولوجية - ولو الجزئية - في الصين، قد تركته يعيش بسلام، بل سمحت حتى بإيصال أبيه وأمه اليه في أميركا نفسها، حيث كان لدى وصولهما يؤدي دور البطولة في استعراض رائع. كل هذا صوره فيلم «راقص ماو الأخير» بكلاسيكية طيبة، ما يجعل منه فيلماً لا يخلو من نزاهة في سياقه الخطي المعتدل... ولعل هذا ما يفرق بينه، جذرياً، وبين فيلم «غرفة ونصف الغرفة» حيث يبدو هذا الأخير وكأنه - اضافة الى سرد «سيرة» برودسكي - محاولة مدهشة للتجديد في فن السينما. أما القاسم المشترك بين الفيلمين، ويكمن في كونهما معاً عملين عن بعض التاريخ الانشقاقي الإيديولوجي، فإن مشاهدة الفيلمين في وقت واحد تكاد تقول لنا ان الصدفة وحدها هي المسؤولة، لتذكرنا بالقول الشهير: لعل صدفة واحدة خير من ألف ميعاد.