إن لم يكن المرء يعرف أشياء كثيرة عن تحية كاريوكا، سيدهشه للوهلة الأولى ان تكون السينمائية اللبنانية المقيمة في مصر نبيهة لطفي قد اختارتها موضوعاً لفيلمها التسجيلي الجديد. فالمعروف عن نبيهة لطفي انها فنانة مناضلة تختار مواضيع أفلامها منذ ما يزيد عن ثلث قرن تبعاً لاقتراب هذه المواضيوع او عدم اقترابها من قضايا النضال سواء كان سياسياً او اجتماعياً او مناصراً للمرأة. غير ان الذين اطلعوا عن كثب على حياة تحية كاريوكا، وقرأوا مثلاً ما كتبه عنها مفكرون من امثال ادوارد سعيد، لن يأخذهم اي عجب، لأن هذه الكتابات، بمقدار ما حيّت كاريوكا الفنانة والمجددة الكبرى في فن الرقص، وكذلك في فن التمثيل السينمائي والمسرحي، حيّت كذلك في تحية كاريوكا، المرأة المناضلة وصاحبة الأفكار التقدمية. وهي امور يلاحظ جمهور فيلم نبيهة لطفي ان هذه الأخيرة دفعتها الى حدود قصوى، بحيث صار يبدو وكأن بطلة «شباب امرأة»، كانت «جان دارك مصرية»- بحسب أحد النقاد - تخفي مواقفها وأفعالها الوطنية تحت قناع الرقص والفن! طبعاً ليس هذا صحيحاً تماماً. كما ان نبيهة لطفي لم تصل الى قوله بصراحة، حتى وإن كانت ركزت عليه في جزء أساسي من فيلمها الذي عرض ضمن مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الذي أقيم أخيراً في ابو ظبي. ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة إن قلنا ان لهذا التصرف شرعية، طالما ان من حق المبدع ان يختار الزاوية التي يريد ليسلط عليها الضوء في فيلمه. وبالنسبة الى نبيهة لطفي، «تحية كاريوكا لم تكن يوماً راقصة وفنانة فحسب، إنما كانت، أيضاً، أيقونة مصرية». وتضيف لطفي: «عند وصولي الى مصر سنة 1955، كانت تحية كاريوكا في ذروة نجاحها. وكنا كطلبة متأثرين بها، وعلى ارتباط معها بعلاقة ندية، إذ لم تتعامل معنا يوماً كنجمة إنما كمواطنة تكافح في سبيل بلدها. منذ ذاك الوقت صار في قلبي محبة لها، وحبي لها قادني لتحقيق فيلم عنها». وإذا كان المشاهد سيشعر بعد رؤية «كاريوكا» انه لا يزال على ظمئه من ناحية رغبته في الغوص أكثر في حياة وفن تحية كاريوكا، فإن نبيهة لطفي تفتح الباب واسعاً امام أعمال مقبلة وتفسيرات إضافية يقوم بها فنانون سينمائيون يأتون من بعدها ليستأنفوا ما وصلت اليه في فيلمها. أبواب فتحت ولا شك في ان فيلم «كاريوكا» كما أرادته، وحققته، نبيهة لطفي، يفتح آفاقاً واسعة، ليس فقط أمام إعادة الاعتبار لتاريخ إحدى ابرز الفنانات المصريات في القرن العشرين، بل كذلك امام ازدياد تصدي السينمائيين المميزين من ذوي الرسائل الفنية والفكرية، لأعمال تتناول حياة مصر الفنية بأشكال أكثر جدية مما اعتادت الأمور ان تكون عليه، وبخاصة بعيداً من الأعمال «الروائية» التي اعتادت، تلفزيونياً وسينمائياً، أن تخوض في جوانب من حياة الفنانين – الراحلين خصوصاً - واضعة عليها كميات من الملح والبهار، خاضعة لأهواء الأهل والورثة والأصدقاء. طبعاً لا يعني هذا ان العمل التوثيقي يختلف كثيراً، لكن كمّ الحقيقة فيه يكون اكبر بشكل عام. من هنا هذا الشعور الذي يخامر المشاهد وهو يتابع فيلم نبيهة لطفي بأنه حقاً امام سيرة حقيقية لتحية كاريوكا. ففي الفيلم غنى هائل في الوثائق وزحمة في الشهادات من أقارب الفنانة ومحبيها مثل رجاء الجداوي وعادل السيوي وصنع الله ابراهيم ومحمود أمين العالم ورفعت السعيد ويوسف شاهين وصلاح عيسى... الى درجة يبدو هذا الغنى في بعض الأحيان عبئاً على هذا الشريط. والسبب واضح: في السينما العربية الوثائقية لا يزال المبدعون غير قادرين بعد، على الاهتمام بالسيناريو، إذ تبدو تركيبة الفيلم خاضعة لما هو متوافر، ما يخل بالتوازن ويعطي انطباعاً بأن ثمة ارتجالاً في تركيب الفيلم. يتبدى هذا من خلال الاعتماد على التوليف اللاحق على جمع المادة بدلاً من الاعتماد على تصميم للموضوع بشكل مسبق يستفيد مما هو متوافر من مواد، في عملية تنظيمية تخضع التوليف اللاحق لها، وتخلق ذلك التوازن الذي يقيم الفارق عادة بين الفيلم الجيد والفيلم الاستثنائي الذي تستحق تحية كاريوكا ان يكون لها. ولا شك في ان نبيهة لطفي كانت تتوخى تحقيقه، لكن اموراً عديدة داهمتها، فجعلت الفيلم يعاني شيئاً من اختلال التوازن. جهود طبعاً لا ينتقص هذا الكلام جهود نبيهة لطفي وإمكاناتها الفعلية، لكنه ينبه الى انه بدلاً من التركيز على ادوار كاريوكا السياسية بكل هذه الوفرة، كان في امكان الفيلم ان يركز اكثر على طفولتها وصباها وبيئتها الشعبية لمعرفة كيف يمكن فتاة مصرية من عائلة محافظة ان تصبح راقصة وفنانة، وكيف امكن صبية شبه أمية ان تترك بصمتها في تاريخ مصر الحديث. وبدلاً من استنفار كل الأهل والأصدقاء ليقولوا عن تحية كاريوكا كلاماً مكرراً رتيباً، كان من الممكن الاستعانة بعالم اجتماع ومؤرخ يرسم صورة حقيقية من خلال تحية كاريوكا لبيئة وعالم فنيين ثريين. وبدلاً من قصاصات الصحف المتحدثة عن زيجات تحية وطلاقاتها كان في الإمكان التوغل أكثر في هذه الظاهرة بسرد تاريخي.. وما الى ذلك. ربما يشي هذا الكلام بأنه يطالب بفيلم آخر، غير الذي حققته نبيهة لطفي. ولكن ليس هذا المقصود. إذ الهدف هو محاولة للبحث عما كان من شأنه ان يعطي الفيلم سياقاً أكثر اتساعاً ولا سيما في مجال محدد، وهو الابتعاد من ذلك الميل لدى السينمائيين التوثيقيين العرب الى الإكثار من الشهادات، التي غالباً ما تكون نمطية مادحة، لا تزيد معرفة المتفرج. ولا تنكر لطفي عدم رضاها عن الفيلم مئة في المئة، وتقول: «بصراحة لم أكن اريد ان أعرض الفيلم في مهرجان أبو ظبي لأنني اردت ان أضيف عليه بعض التعديلات. لكن ردود الفعل هنا كانت إيجابية. وقد سعدت بها، لأن انجاز هذا العمل لم يكن سهلاً. إذ عشت خلال تنفيذه سنتين من الوقت الضائع، وواجهت صعوبات في الإنتاج وفي المواعيد وفي الوصول الى المادة الأرشيفية. كل هذا أثر فيّ وفي قدرتي على مواصلة المسيرة، ولولا حبي الكبير لتحية كاريوكا لما صمدت كل هذه المدة». أياً يكن الأمر، تظل نبيهة لطفي، حالاً استثنائية في الحركة التسجيلية العربية. فهي على رغم التعب والسنين الطويلة التي قضتها خلف الكاميرا، لا تكف عن الرغبة في مد السينما العربية بأعمال جادة... وما حماستها في الحديث عن مشروعها المقبل الذي يغوص في عالم شادي عبدالسلام إلا صورة لامرأة تأبى الاستسلام.