لم يجد منتدى دافوس في سنوات حكومة بنيامين نتانياهو الاخيرة دولة في المنطقة تستضيف المؤتمر الاقتصادي لدول الشرق الاوسط وشمال افريقيا، بسبب المأزق الذي عانت منه عملية السلام في ظل هذه الحكومة، بذلك اضطر المنتدى الى تأجيل انعقاد المؤتمر الى حين الوصول الى انفراج في عملية السلام. ومع وصول ايهود باراك الى السلطة اخذ العمل الحثيث من اجل انعقاد مثل هذه المؤتمرات يعود الى الواجهة. وفي مقابل تجميد هذا التحرك الذي اراد اصحابه من خلاله تسويق علاقات التسوية، حافظت اوروبا على تحركاتها لاحياء الشراكة الاوروبية - المتوسطية، من خلال سلسلة الاجتماعات التي عقدت حديثاً في اماكن مختلفة من اوروبا، لايجاد مخرج لاستئناف هذه الشراكة بعد الخلافات التي اسفر عنها اجتماع مالطا. ان التحرك الاميركي عبر منتدى دافوس، والتحرك الاوروبي من خلال الشراكة المتوسطية، يهدفان الى ايجاد مواقع افضل لوجودهما في المنطقة. ففي الوقت الذي وجدت اوروبا نفسها مستبعدة من ترتيبات المنطقة التي استفرد الاميركيون بها، سعت لإيجاد صيغة الشراكة لتعزيز وجودها والوقوف في وجه التفرّد الاميركي. ففي الوقت الذي لم تجد اوروبا موقعاً في اطار عملية السلام الا اعتبارها ممولاً للحل، حين تم استبعادها من المشاركة السياسية، على رغم كل المحاولات الاوروبية المبذولة بهذا الشأن، مما فرض عليها البحث عن طريق آخر لتنظيم علاقاتها مع المنطقة. ان السلوك الاميركي والاوروبي تجاه المنطقة، يتعلق برؤية كل منهما لمواقعه في ظل المنافسة القائمة في العالم، بعد المتغيرات التي شهدها منذ مطلع التسعينات. ولا شك ان هذه المتغيرات فتحت الباب امام اوروبا والولاياتالمتحدة لاعادة النظر بعلاقاتها في المنطقة والبحث عن ترتيبات جديدة تخدم مصالحها. فالشرق الاوسط الذي انتقل من تأثير القطبية الثنائية الى القطب الاحادي عمل على انتاج اوضاع استراتيجية جديدة عززت الطموحات الخارجية باعادة ترتيب اوضاع المنطقة، ووجدت الولاياتالمتحدة في عملية السلام المدخل المناسب لهذه الترتيبات، وقامت على اساسها الدعوات الاميركية لإقامة نظام اقليمي شرق اوسطي تبعتها دعوات اوروبية لايجاد صيغة الشراكة المتوسطية. عمل انهيار الدول الاشتراكية على ترتيب الوضع الدولي للتفرد الاميركي، واعطى اختفاء الاتحاد السوفياتي عن الخريطة الدولية حرية حركة للولايات المتحدة على المستوى العالمي، فأعلن الرئيس الاميركي السابق جورج بوش ولادة النظام العالمي الجديد في آب اغسطس 1990. ومنذ ذلك الوقت سيطرت على التفكير الاستراتيجي الاميركي جراء هذه المتغيرات نزعة كلية، تعتبر العالم كله ميداناً للمصالح الاميركية. اختلف المحللون على طبيعة النظام العالمي الجديد، هل سيكون نظام القطب الواحد ام نظاماً متعدد الاقطاب؟ وبصرف النظر عن هذا الخلاص، اظهرت التسعينات ان حجم الهيمنة الاميركية في تزايد، وان واشنطن تملك القدرة على استخدام وسائل الردع من اجل ابقاء نفوذها وسيطرتها على المناطق الحيوية والحساسة في العالم. ولم يقتصر ذلك على استثمار القوة العسكرية التي خرجت بها من سباق التسلّح خلال الحرب الباردة، بل فرضت هيمنتها ايضاً على المؤسسات الدولية مثل الاممالمتحدة، وكذلك على المؤسسات التي تخوض عملية الاختراق المالي في العالم كله، وتحديداً مجموعة الدول الصناعية السبع، والشركات المتعددة الجنسية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية. كرّست الظروف السابقة الولاياتالمتحدة بوصفها القوة المهيمنة في الشرق الاوسط والقيّمة على توازن القوة فيه. وسمح التفرّد للولايات المتحدة ان تطلق تصوراتها الاكثر قابلية للتطبيق في المنطقة، بصرف النظر عن صلاحيتها للمنطقة. فالمنطقة موقع حيوي واستراتيجي للولايات المتحدة، وتحتوي على اكبر احتياطي في العالم. بذلك، باتت الظروف مواتية للولايات المتحدة من اجل اعادة صوغ المنطقة وفق توجهاتها، حتى تعمل للحفاظ على توازن القوة في المنطقة لضمان مصالحها الاستراتيجية. وأتت عملية السلام في المنطقة لانجاز صيغ جديدة للعلاقة بين دول المنطقة، والبحث عن هياكل وآليات لحماية عملية السلام الجارية، وبناء هيكل امني للشرق الاوسط وبناء هيئات جديدة بدلاً من القديمة وعلى رأسها جامعة الدول العربية، والشرق اوسطية هي الهدف الاهم لعملية السلام من وجهة نظر الولاياتالمتحدة صاحبة المشروع الرئيسي. وعملية السلام هي بمثابة الجسر لاقامة نظام اقليمي جديد، فالسلام حسب المفهوم الاميركي يهدف تحويل العلاقات في المنطقة من صراعية الى تعاونية، يؤدي الى قبول اسرائيل وادماجها في المنطقة. ويقوم التوازن الذي تحرص عليه الولاياتالمتحدة على المحور الاستراتيجي التركي - الاسرائيلي، لربط الهيكل الامني بالدول غير العربية. في اطار عملية فرض الهيمنة تم العمل على استبعاد الدول الكبرى الاخرى وتهميش دورها، فوجدت اوروبا نفسها عملاقاً اقتصادياً من دون دور سياسي. فالتفرّد همّش الدور الاوروبي في العالم عموماً وفي المنطقة خصوصاً، كما تم استبعادها من دور فاعل في عملية السلام. وفي مواجهة هذا الاستبعاد كانت الدعوة للشراكة المتوسطية كمدخل خلفي للولوج الى المنطقة، وكردّ على تهميش المشاركة الاوروبية الدولية وكمحاولة لانقاذ الطموح الاوروبي في دور اكثر فاعلية في المنطقة وجنوب المتوسط. تمثل الشراكة الاوروبية - المتوسطية مشروعاً آخر لاختراق المنطقة وتعزيز المصالح الاوروبية فيها. وبحكم الجوار والمصالح في المنطقة اطلقت اوروبا مشروعها للشراكة، عبر قمة برشلونة 1995، بهدف الوصول الى منطقة للتبادل الحر بين الاتحاد الاوروبي والدول المطلة على البحر المتوسط بحلول عام 2010. وسعى الاوروبيون لان تكون هذه الشراكة منفصلة عن عملية السلام، لمحدودية الدور الاوروبي في العملية، وكأن هذا الفصل محكوم عليه بالفشل، لهيمنة عملية السلام على مسيرة الشراكة. وفي اطار هذه الشراكة ولخلق فضاء اقتصادي اوروبي - متوسطي، تتمسك اوروبا بمجموعة من الاشتراطات على دول الجنوب لاستكمال عملية خلق هذا الفضاء الاقتصادي، وعلى رأس هذه الاشتراطات المطالبة بإعادة الهيكلة الاقتصادية وتحرير السوق. وهي بذلك تفرض على دول الجنوب انجاز مجموعة من الاجراءات والمشاريع الكبيرة، التي لها كلفة اجتماعية عالية. فالاستقرار السياسي مطلب رئيسي لضمان استقطاب الاستثمار الخارجي، وتشجيع المبادرة الدولية الحرة، يتطلب مراجعة النظم النقدية والمالية لهذه الدول. فالشراكة الاوروبية - المتوسطية بأبعادها الاقتصادية والسياسية هي محاولة لدمج هذه الدول في منظومة اقتصادية واحدة تعيد انتاج طبيعة منطقة البحر المتوسط على قاعدة التمدد الاوروبي، ومن ثم تنمية هذه العلاقات وصولاً الى اقلمة هذه العلاقات في اطارات سياسية وامنية. ان المشروعين الاميركي والاوروبي، وجدا حركة نشطة في اللحظات التي انجزت عملية السلام اختراقات على المسارين الفلسطيني والاردني، وكانت تعطي العلامات على امكان تحقيق اختراقات على المسارين السوري واللبناني، وبذلك بدا وكأنهما يتسابقان على انجاز هياكلهما التي ترسخ مشاريعهما. لكن هذا الزخم اخذ بالتراجع مع وصول حكومة نتانياهو الى السلطة في اسرائيل، ما اعاد المنطقة الى حال التوتر، وبالتالي أثّر على كل من المشروعين، اذ تباطأت حركة كل منهما، فأعلنت واشنطن عبر نادي دافوس الغاء المؤتمر الاقتصادي للعام 1998 وتراجع الاوروبيون عن مشروعهما الكبير وحاولوا احياءه عبر خطوات صغيرة او اقل طموحاً. ان الوضع الذي ساد في ظل سياسات نتانياهو آخذ بالتغيّر الآن، بذلك فإن المشاريع التي أجّلت حتى الوقت المناسب، تنتظر انفراجاً في عملية السلام حتى تعود الى زخمها وتنطلق. * كاتب فلسطيني.