مع اقتراب مرور ثلاث سنوات على إنشاء الشراكة الأوروبية - المتوسطية التي تم تدشينها في مؤتمر برشلونه في تشرين الثاني نوفمبر 1995، يحق لنا أن نتساءل في شأن ما أنجزته خلال الفترة الماضية، وما هو مستقبلها، وهل ستنجح في ما فشل فيه الحوار العربي - الأوروبي من قبل، وكيف يمكن تفعيلها؟ فمن المعلوم لدينا جميعاً أن قمة نجاح مؤتمر برشلونة، المنشئ لتلك الشراكة، تمثّلت في ايجاد ذلك التجمع الفريد من الدول المتباينة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً في إطار واحد بهدف التعاون لتحقيق شراكة شاملة في المستويات السياسية والتنموية والثقافية. وما ساعد على تحقيق هذا النجاح تضافر مجموعة من الأسباب مهّدت الأرضية المناسبة لعقد مؤتمر برشلونة، منها ما يتعلق بالحالة السياسية في الشرق الاوسط مثل التقدم المطرد في عملية السلام في ذلك الوقت بفضل اتفاقات السلام الإسرائيلية مع كل من الفلسطينيين والأردن، حتى أن منطقة الشرق الاوسط بدت وكأنها على أعتاب عصر جديد يبشر بالأمن والسلام والاستقرار بعد عقود من الصراع والحروب بين العرب وإسرائيل. ومن ثم أمكن لمؤتمر برشلونة أن يجمع بين الدول العربية وإسرائيل في إطار واحد للتعاون والمشاركة، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات العربية - الإسرائيلية. ومنها ما يتعلق بأهداف الأطراف المشاركة في برشلونة، إذ كان مشروع الشراكة من وجهة نظر معظم الأطراف العربية يمثل أفضل الخيارات المطروحة، خصوصاً إذا قورن بمشروع الشرق أوسطية التي رأت فيه هذه الأطراف مشروعاً إسرائيلياً - أميركياً لتكريس النفوذ الاميركي والإسرائيلي في المنطقة. في حين رأت الأطراف الأوروبية في الشراكة فرصة جيدة لترجمة القوة الاقتصادية لأوروبا الموحدة الى قوة سياسية في منطقة الشرق الاوسط وبما يساعدها على استعادة دورها المفقود في المنطقة، خصوصاً منذ انتهاء الحرب الباردة. هذا فضلاً عن ما يمثله مشروع الشراكة هذا من إطار مناسب لمعالجة المشاكل الاجتماعية والثقافية والامنية والاقتصادية مع بلدان جنوب المتوسط، بما يحافظ على الأمن والاستقرار الاجتماعي والهوية الثقافية للمجتمعات الأوروبية، خصوصاً في ما يتعلق بالهجرة العربية من شمال افريقيا الى الدول الواقعة شمال المتوسط. أما إسرائيل فوجدت في صيغة برشلونة إطاراً مكملاً لما بدأته في مؤتمرات التعاون الاقتصادي الشرق أوسطية في سعيها الى الاندماج في اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط. وهكذا كانت دوافع شتى لكل طرف من أطراف برشلونة للعمل على إنجاح الشراكة. ومن هنا بدأت الآمال تراود الكثيرين من شعوب بلدان جنوب المتوسط في الانتقال عبر هذه الشراكة الشاملة الى القرن الحادي والعشرين ببيئة جديدة طالما حلموا بها ولم تتحقق، بيئة تتحقق في ظلها الحرية الحقيقية للفرد بما يحفظ له كرامته الانسانية بمفهومها الواسع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بعيداً عن الطغيان والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والحرمان الاجتماعي، خصوصاً أن هذه الشراكة تزامنت مع مشاريع ومؤتمرات التعاون الاقتصادي الشرق أوسطية وتقدم عملية السلام. ولكن، هل نجحت صيغة برشلونة في ترجمة آمال شعوب جنوب المتوسط في شكل خطوات تنفيذية ملموسة مع اقتراب إكمال هذه الشراكة لعامها الثالث؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تشير للوهلة الأولى الى أن ما تم إنجازه في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية لا يمثل سوى حصاد هزيل لآمال وطموحات عريضة بدرجة تشير الى محدودية قوة الدفع الذاتية لصيغة برشلونة، بما يتطلب إعادة التقويم الجدي لهذه الشراكة والتعامل مع ما تضمنته من أهداف بمنطق جريء بما يحول دون استمرار ما ورد فيها محصوراً في شكل أماني غير قادرة على مجابهة الواقع. ففي نطاق الشق الأمني/ السياسي للشراكة، فإن الاجتماعات التي عقدت سواء على مستوى وزراء الخارجية وآخرها اجتماع باليرمو في إيطاليا، أو على مستوى الخبراء، في شأن مشاكل الإرهاب والجريمة المنظمة والمخدرات لم تتعد نتائجها ترديد الصياغات اللفظية من دون إجراءات ملموسة، خصوصاً في ما يتعلق بالدور الذي ينبغي للاتحاد الأوروبي القيام به إزاء عملية السلام في الشرق الاوسط. إذ لا يزال هذا الدور غير متناسب مع حجم العلاقات العربية - الأوروبية، ومع مسؤولية أوروبا في نشأة الصراع العربي - الإسرائيلي. ذلك أن دول الاتحاد الأوروبي لا تزال تحجم عن ممارسة ضغوط حقيقية على القيادة الإسرائيلية لتحريك عملية السلام والالتزام بما تم الاتفاق عليه من قبل، باعتبار أن العنصر المحوري لنجاح صيغة برشلونة يتمثل في نجاح عملية السلام، بل إننا نلاحظ أن دول الاتحاد الأوروبي تتفاوت في ما بينها في شأن موقفها من عملية السلام في المنطقة، حيث تعرضت زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك للمنطقة في العام 1996 للانتقاد من جانب بعض الدول مثل بريطانياوإيطاليا، كما أحجمت دول الاتحاد الأوروبي في اجتماع باليرمو لوزراء خارجية دول الشراكة الأوروبية المتوسطية عن تبني المبادرة المصرية - الفرنسية في شأن دفع عملية السلام تحت مبررات إعطاء الفرصة الكاملة للمبادرة الاميركية في هذا الصدد. وفي تعبير روبين كوك، وزير خارجية بريطانيا. وأدى هذا الموقف المتراخي إزاء عملية السلام من جانب اجتماع باليرمو الى تعرضه للانتقاد من جانب مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية في مصر، بل إن وزير الخارجية المصري السيد عمرو موسى، علّق على بيان باليرمو بتوضيح حقيقة أساسية ثم التأكيد عليها مراراً من جانب كثير من المفكرين المصريين وهي أن جمود عملية السلام سوف يوثر بالسلب على المشاركة الأوروبية - المتوسطية وليس "الشرق الاوسطية" فقط. ومع هذا فإن الأخطر في الشق الأمني/السياسي للشراكة هو ما تمثل في قيام بعض الدول الاوروبية وهي فرنسا، وايطاليا، وأسبانيا، والبرتغال بتكوين قوة عسكرية للتدخل السريع في بلدان جنوب المتوسط. وهو ما أدى إلى إثارة الشكوك والانتقادات من جانب كثير من البلدان العربية المتوسطية، خصوصاً مصر وبلدان شمال افريقيا، باعتبارها البلدان المستهدفة من هذه القوة بدرجة أساسية ولجهة خاصة أن إنشاءها تم من دون تنسيق مسبق أو تشاور مع بلدان جنوب المتوسط، وهو ما يتناقض ومفهوم الشراكة الأمنية الواردة في صيغة برشلونة. وفي ما يتعلق بالجانب الاقتصادي من صيغة برشلونة نجد أن الجانب الأوروبي يتسم بنوع من الازدواجية. إذ أنه في الوقت الذي يهدف الى مساعدة بلدان جنوب المتوسط على تفعيل عملية التنمية فيها وإعادة هيكلة اقتصادياتها بما يتناسب مع أسس ومبادئ السوق الحر، وبما يحقق في النهاية الهدف النهائي الوارد في صيغة برشلونة والمتمثل في إقامة فضاء اقتصادي أورومتوسطي بحلول عام 2010، فإن السياسات الأوروبية الاقتصادية تجاه بلدان الجنوب المتوسطي لا تساعد على تحقيق الهدف السالف ذكره، إذ تتبنى أوروبا السياسة الحمائية تجاه المنتجات الزراعية الواردة من بلدان الجنوب المتوسطي. هذا فضلاً عن ضعف المبالغ التي حددتها دول الاتحاد لتمويل مشاريع وبرامج التعاون بين دول المتوسط خلال الفترة 1996 - 1999 والمقدرة بنحو 6 بلايين دولار، إذ أن هذه المبالغ والتي لم يتم الإفراج عن معظمها حتى الآن لإجراءات الروتين الأوروبية، لا تكفي دول الجنوب المتوسطي التي تتبنى جميعها اليوم برامج طموحة لخصخصة اقتصادياتها وإعادة التكيف الهيكلي اللازم لها لمساعدتها على تدعيم قدراتها على المنافسة في الأسواق الخارجية خصوصاً بعد إقرار اتفاقات الغات. وجميعنا يدرك تماما خطورة الآثار الجانبية الاجتماعية والسياسية لهذه البرامج الاصلاحية الاقتصادية خصوصاً في ما يتعلق بتسريح العمالة وتدريبها، وضيق سوق العمالة في هذه البلدان أصلاً، وارتفاع الأسعار. من هنا فإن مسؤولية دول الاتحاد الأوروبي تصبح مضاعفة، إذ عليها مساعدة بلدان جنوب المتوسط على النهوض باقتصادياتها، ودعم عمليات التكيف الهيكلي فيها من خلال تزويدها بالتكنولوجيا المتقدمة صناعياً، خصوصاً أن تلك الدول قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال. فعلى سبيل المثال حقق الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر نمواً حقيقياً بلغ نحو 5 في المئة في العام 1997 مقارنة ب9 في المئة في العام 1994. وفي تونس حققت معدلات النمو ارتفاعاً ملحوظاً بلغ 5،7 في المئة في العام 1996 مقارنة ب 5،2 في المئة في العام 1995، وفي المغرب حقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً إيجابياً في العام 1996 بنسبة 3،10 في المئة. وفي سورية ولبنان والأردن كان معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي على الترتيب 5 في المئة و7 في المئة و2،5 في المئة. كما استطاعت غالبية هذه الدول تخفيض العجز في الموازنة وتخفيض نسبة التضخم. ولكن ما لم تنجح فيه جميع بلدان الجنوب المتوسط هو خفض معدلات البطالة المستفحلة، وهو ما يؤكد المسؤولية الثانية للاتحاد الأوروبي تجاه هذه البلدان والمتمثلة في مساعدتها على معالجة الآثار الجانبية لبرامج الإصلاح الاقتصادي خصوصاً في ما يتعلق بالعمالة وتأهيلها وتشجيع إنشاء الصناعات الصغيرة والأعمال الحرة لاستيعاب العمالة الوافدة على سوق العمل المتعطل في تلك البلدان. وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة من تجربة "الصندوق الاجتماعي للتنمية" في مصر مع تقويمها وتفادي أوجه القصور فيها. ولا يختلف الأمر بالنسبة الى الجانب الاجتماعي والثقافي في وثيقة برشلونة عن الجانبين السياسي والاقتصادي، إذ لم تسفر اجتماعات الخبراء من جانب دول ضفتي المتوسط عن تقدم ملموس في هذا الجانب بالذات، مثل تغيير الصورة القومية المشوهة لكل طرف عن الطرف الآخر في وسائله الإعلامية والتعليمية، وذلك على الرغم من أنه الأساس الذي ينبغي أن ينطلق منه أي تحرك لتفعيل التعاون الأورومتوسطي، إذ لا تزال مقولة "الشرق شرق والغرب غرب لا يتلقيان أبداً"، ماثلة في العقل الثقافي العربي والأوروبي واليهودي معاً، وخصوصاً في إطار ما شهدته الأوساط الفكرية والثقافية في العالم العربي من جدل كبير حول نظرية هنتغتون عن صراع الحضارات والتي يتوقع فيها صراعاً بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشية من جهة والحضارة الأوروبية من جهة أخرى. وهذا ما يتناقض مع ما أوردته وثيقة برشلونة في شأن الحوار بين الحضارات والثقافات. ولهذا فإن عدم تحقيق آليات تنفيذية حتى الآن في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية لتفعيل الجانب الثقافي والحضاري، يعتبر من أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها الى هذه الشراكة. كما أن عدم اتخاذ دول الجنوب المتوسطي لإجراءات ملموسة حقيقية في مجال تحسين أوضاع حقوق الإنسان فيها، وفي مجالات الإصلاح السياسي، سيحول دون تحقيق نجاح حقيقي لأي حوار جاد حول صيغة برشلونة بأكملها وليس فقط في مجال الحوار الحضاري والثقافي. وعلى هذا الأساس فإن مسيرة الشراكة الأوروبية المتوسطية توضح أنها أخفقت في تحقيق أهدافها باعتبارها أداة لتعزيز التواصل السياسي والاقتصادي والثقافي بين ضفتي المتوسط. ومن هنا يثور التساؤل، حول ما إذا كان إخفاق الشراكة الأورومتوسطية يرتبط بجمود عملية السلام في الشرق الأوسط، كما يردد كثير من المحللين؟ أم أنه يتعلق بأسباب هيكلية تتعلق بأطراف الشراكة؟ في الواقع، لا يمكن الفصل بين هذين السببين معاً، إذ أن جمود عملية السلام منذ تولي بنيامين نتانياهو السلطة في إسرائيل أدى الى الحد من قوة الدفع الذاتية للشراكة الأورومتوسطية. وتمثل ذلك في رفض بعض الدول العربية حضور بعض اجتماعات الشراكة التي تحضرها إسرائيل، أو تنظيم اجتماعات هذه الشراكة فيها لتتحاشى حضور الدول العبرية، وتعرضها للنقد من جانب أطراف عربية أخرى مثلما حدث بالنسبة الى المغرب وتونس. بل إن الاتحاد الأوروبي في اجتماع باليرمو الأخير وحرصاً منه على حضور إسرائيل أعطى ضمانات لوزير خارجية الأخيرة بعدم مهاجمة المؤتمر للسياسة الإسرائيلية تجاه عملية السلام، وهو ما يفسر الموقف الضعيف لهذا المؤتمر تجاه عملية السلام في المنطقة. ومع هذا، فإن تحقيق السلام في الشرق الأوسط ليس كفيلاً وحده بإنجاح عملية الشراكة، إذ تأتي الاختلالات الهيكلية في التقدم الاقتصادي والسياسي وفي الدخول بين الأفراد في ما بين ضفتي المتوسط، حائلاً حقيقياً دون دفع عجلة العمل في الشراكة. وهذا العامل الأخير هو ما ركزّت عليه الكتابات العربية في دول المغرب العربي منذ البداية، بل إنها حذّرت منه متوقعة فشل عملية المشاركة الأورومتوسطية برمتها، ومشددة على أن منهج العلاقات الثنائية بين دول الاتحاد الأوروبي وكل دولة من دول جنوب المتوسط، سيظل أفضل الطرق، ليس فقط لخدمة المصالح والاستراتيجيات الأوروبية، ولكن أيضاً يناسب واقع واحتياجات الدول المتوسطية الجنوبية، وذلك بالنظر الى المصالح المختلفة لكل طرف من الأطراف الجنوبية المتوسطية في علاقاته بالطرف الأوروبي. نخلص إذن من العرض السابق لمسيرة صيغة برشلونة إلى أن نجاح هذه الصيغة يتوقف على الإرادة السياسية لأطرافها، إذ تتحمل دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية مساعدة بلدان الجنوب المتوسطي في برامج التكيف الهيكلي لاقتصادياتها، وفي الضغط على القيادة الإسرائيلية لدفع عملية السلام، في حين تتحمل دول جنوب وشرق المتوسط مسؤولية الارتقاء بهياكلها السياسية والاقتصادية والثقافية الى المستويات المناسبة واللازمة لتأسيس شراكة جادة مستندة الى مؤسسات سياسية ديموقراطية معبّرة عن شعوبها في إطار مناخ صحي يسوده احترام حقوق الإنسان بمفهومها الشامل السياسي والاقتصادي والثقافي. وذلك بما يؤدي في النهاية الى تبني حوار جاد وحقيقي من دون تحفظ أو تخوف من جانب طرف تجاه الطرف الآخر تحت ستار من مبررات شتى. إذ أنه في ظل ذلك المناخ الصحي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يصبح كل شيء قابلاً للمناقشة والجدل، وبالتالي الوصول الى صيغة توافقية بين مختلف الأطراف المشاركة في صيغة برشلونة تتسم بالواقعية بين ما تطرحه من أهداف وبين ما هو موجود فعلاً من واقع اقتصادي وسياسي في البيئة الأورومتوسطية. ومن دون ذلك، فإنني أعتقد أن مسيرة برشلونة لن تكون سوى تكرار لمسيرة الحوار العربي - الأوروبي الذي انتهى مصيره الى الفشل دون تحقيق نتائج ملموسة طيلة ربع قرن من الزمان. * عضو مجلس الشعب البرلمان المصري سابقاً. استاذة جامعية