التفت الى الوراء، الى سني اليقظة الاولى والوعي الأول، حيث نشأت في حي شعبي في دمشق اسمه حي القصيبة، يزخر بالتقاليد والبطولات، حيث الناس فيه اسرة واحدة. منذ نعومة اظفاري اردت ان اكون قبضايا من قبضايات الحي، فكنت أتمنطق خنجراً في السر، وأحتفظ في جيبي بموس كبّاس ذي طقتين، وأتحرش بمن هم من عمري لأتشاجر معهم واهددهم بالموس او بالخنجر، وزادني من ذلك الزهو ان اطلقوا عليّ لقب "أبوعبده" نسبة الى ابي الذي اسمه عبده، كما هو متعارف عليه. كنت عندما ينادوني به أشعر بالتشاوف وأنفخ صدري عالياً. وأبي هو واحد من رجالات الحي الكبار، عندما كان شاباً شارك في الثورة السورية وأُصيب في قدمه. ولم تخرج الرصاصة منها حتى اليوم، وكنت أشد ظهري - كما يقولون - به، فلا اخاف من احد، لأن معظم اهل الحي يهابون أبي احتراماً وتقديراً. في سن السادسة عشرة او السابعة عشرة شاركت في شجار جماعي بين شبان حيّنا وشبان الحي المجاور لأن احد شبان ذلك الحي تحرّش بفتاة من حيّنا… وكنت اكثر المتحمسين بهذا الشجار، اذ قذفت رأس شاب من هناك بحجر فأدميته وأُغمي عليه ونقل الى المستشفى لاسعافه. وبعد ساعات، عندما كنا نتفاخر في الحي بما فعلناه في الحي الآخر، طوقتنا ثلة من التحري البوليس السري وألقت القبض على مجموعة منا انا واحد منها، الى رفيقي آخر ألقي القبض عليه ظلماً لأنه اصلاً لم يكن مشتركاً بالشجار. قادونا الى المخفر، ومن ثم احضروا الجرحى ومن بينهم الذي شج رأسه فأشار بيده نحوي ونحو رفيق المسكين وقال هاهما. وبعد التحقيق الطويل بقينا ثلاثة اقتادونا الى النظارة السجن الموقت حيث بتنا ليلة هناك. وفي اليوم التالي احالني قاضي التحقيق في قصر العدل الى السجن مع رفيقي البريء، بينما الثالث نجا بالواسطة، اذ له قريب يعمل موظفاً في المحكمة تدخل فأُفرج عنه. في الطريق الى السجن "كلبشوا" يدي بيد لص سرق دراجة، وعندما انتبه الى انني فتى قال لي محذراً: اذا لم تتعال عليهم أكلوك… ضخّم الامور. قُل انك قتلت رجلاً حتى يهابوك، والا استوطوا حيطك، وفي مدخل القلعة حيث كان السجن المركزي حلقوا شعرنا على الآخر. ثم قادونا الى القاووش رقم 9 الذي كان رئيسه سجيناً محكوماً مؤبداً لأنه ارتكب جريمة قتل من الدرجة الاولى - وكما هي العادة يرئسون مثله على بقية السجناء الذين يصبح معظمهم في خدمته، وكان اسم هذا الرجل ابو صياح. طويل، سمين، متكرش. وقد عملت بنصيحة سارق الدراجة. فعندما سألني ابو صياح عن اسمي، ضخمت صوتي وقلت: ابو عبده.. قال: شو عملت حتى جابوك لهون؟ قلت متفاخراً: قتلت رجلاً، فنظر الي معجباً ومد يده مصافحاً وهو يقول: أهلاً ابو عبده، أهلاً بالرجال. انت الآن اصغر سجين عندنا. اذهب الى صدر القاووش، فقلت له اريد ان يكون رفيقي معي لأنه حماني ودافع عني، فسمح له بمرافقتي. والمعروف ان صدر القاووش هو للسجناء القبضايات امثالي… اما سارق الدراجة والمغتصب فمكانهما بجانب المرحاض. ذلك اليوم حمل لي أبي وأقاربي صحون الحلوى والصفيحة الشامية لحم بعجين حتى لا آكل من طعام السجن، والطريف ان ما حُمل الي من مواد غذائية في ذلك اليوم يكفي السجناء جميعهم. وبالفعل وزعت اقراص الصفيحة على ابو صياح ورفاقه المقربين، فمنحني سجادة ووسادة كي اكون في راحة اكثر. وقلت لرفيقي: هذه الأطعمة ستكفينا عدة ايام فلا تخف. الا انني خرجت في اليوم الثالث من السجن بسند كفالة، وخرج رفيقي معي بكفالة ايضاً قدمها والدي لأنه عرف ان الفتى كان بريئاً لا علاقة له بالشجار، وهذه هي المرة الوحيدة التي دخلت فيها السجن في مطلع شبابي والتي ظللت ازهو بها ردحاً من الزمن. في المقابل كنت طالباً في الثانوية سقطت مرتين في البكالوريا، فقرر والدي الحاقي بالفرن الذي يديره لصنع الكعك والحلويات، وتعلمت هذه المهنة القاسية حيث كنت اعمل 18 ساعة في اليوم. كان ابي يوحي لي ان هذا الفرن سيكون لي بعد رحيله، ويتمنى علي الاهتمام بكل ما يتعلق بهذه المهنة الى ان اتقنتها تماماً. وفعلاً، اصبحت بعد مدة اشطر منه في ادارة الفرن. منذ تركت المدرسة لم أعد اهتم بالقراءة، الا ان صغرى عماتي وكانت تكبرني بحوالي خمس سنوات غيرت مجرى حياتي بالكامل، كانت قد تخرجت من دار المعلمات متخصصة باللغة الفرنسية، وكانت فنانة بكل ما تعني هذه الكلمة، فهي عازفة عود وصوتها شجي عندما تغني تملأ ما حولها طرباً. اخذت عمتي الاهتمام بي مجدداً. وحاولت اقناع ابي باعادتي الى المدرسة، وفعلاً نجحت في مسعاها وعدت لمتابعة دراستي. وكانت مادة اللغة الاجنبية في المدرسة هي الانكليزية، وحرصاً منها على تقوية هذه اللغة عندي، اخذتني الى معلمة خاصة تعلّم الانكليزية، كانت فتاة جميلة جداً، مسيحية من اصل فلسطيني اسمها ناديا، ما حصل انني احببت هذه الفتاة، بل كانت حبي الأول، الا انها ظلت تعاملني كتلميذ.. كنت اعبر لها عن حبي فتقول لي: بعدك صغير على الحب. اهتم بدروسك اولاً. وصارت ناديا كل همي، حتى انني صنعت لها كعكاً في شكل صليب وكتبت اسمها على الرغيف المعروك بالسمسم وحب البركة، واهديتها قلماً، وبضعة مناديل من الحرير. كانت تتقبل ذلك على مضض. واخيراً طلبت منها الزواج. فسخرت مني وطردتني. تألمت كثيراً وفاتحت صديقين لي في الحب فقررا مساعدتي على خطفها، وحددنا الموعد في احدى الليالي لكننا فشلنا في اقناعها بفتح الباب، ثم هددتنا بالصراخ ولمّ اهل الشارع علينا، فتركني صديقاي في حيص بيص لا اعرف ماذا أفعل. علمت عمتي في اليوم التالي بما حصل فأنّبتني تأنيباً شديداً. وطلبت من ابي اعادتي الى الفرن، لكن بعد فترة قررت هذه العمة الرائعة ان تثقفني على طريقتها، فكانت تقرأ روايات فرنسية وتترجمها لي باللغة المحكية. ومنذ ذلك الحين صارت تجلب لي روايات مترجمة وتطلب مني قراءتها فاستمتعت بذلك كثيراً، وصرت اقضي معظم فراغي في قراءة الروايات، خصوصاً البوليسية امثال ارسين لوبين وشرلوك هولمز. ثم تحولت نهائياً الى قراءة الآداب العالمية. وأول متعة في هذا المجال عندما بدأت اؤسس مكتبة خاصة، والكتب التي احببتها جلّدتها وطبعت اسمي على كعبها. وشيئاً فشيئاً تخليت عن فكرة القبضاي، وصارت عمتي تأخذني الى سهرات عند رفيقات لها. فما كان ابي يسمح لها بالخروج الا برفقتي خصوصاً في الليل. وفي هذا الجو الانثوي تفتحت على عالم جميل وأخاذ، فبدأت اعتني بأناقتي، وصرت أُقلّد نجوم السينما ان في تسريحة شعري او بارتداء الثياب الفاخرة، ولم يكن ابي يبخل علي بشيء من اجل ذلك، اما صديقات عمتي فصرن يلقبنني "دون جوان". وبالفعل تحولت اهتماماتي الى التعلق بفتيات الحي وغيرهن، حتى انني في احد الأوقات كنت على علاقة مع ثلاث فتيات في آن معاً. ولم استطع ان احدد أياً منهن احبها اكثر، وكُنّ يغرن من بعضهن البعض غيرة شديدة، حتى ان احداهن اعتدت على الاخرى على مرأى من الناس، وكنت أحس بالزهو من جراء ذلك. الا ان واحدة منهن افتقدتها عندما سافرت مع ابيها الذي نقل الى وظيفة خارج دمشق، وكانت فرصة لي لأكتب اول رسالة أبث فيها لتلك الفتاة لواعجي وحبي. وعندما تلقيت منها جواباً من بضعة سطور تعلن فيه اعجابها بما كتبت، تحمست اكثر، وصرت اكتب لها رسائل طويلة، وكانت فجيعتي بعد ذلك عندما اكتشف ابوها الرسائل السرية فأحرقها امام عينيها، كما اخبرتني في ما بعد، ودفع بها الى الزواج. تلك الرسائل كانت محاولاتي الأدبية الاولى، ثم اصبحت رجلاً نهماً في القراءة، فلم اترك كتاباً بالعربية في مكتبة عمتي الا قرأته، اضافة الى الكتب التي اشتريتها، وكانت مخصصاتي من فرن والدي لا بأس بها، فقرأت الأدب الروسي بكامله، خصوصاً "الاخوة كارامازوف"، وقرأت الأدب الاميركي، وخصوصاً لجون شتاينبك ولارنست هيمنغواي الى جانب الأدب الفرنسي حيث اثرت بي رواية "الغريب" لالبير كامو تأثيراً غريباً، وقرأت لجان بول سارتر ولسيمون دي بوفوار ولفرنسواز ساغان. في ذلك الوقت التفت الى الأدب العربي ايضاً فقرأت لمعظم الكتاب المصريين والعراقيين والسوريين حتى بت اشعر انني اعرفهم جميعهم عن قرب. بين العشرين والثانية والعشرين بدأت اكتب اشياء اشبه بالشعر والقصة.. ولم ارد نشر شيء منها الا بعد فترة، عندما قرأت مصادفة مسابقة للقصة القصيرة في احدى المجلات جائزتها 300 ليرة سورية، وكنت على صلة بماسح أحذية في الحي كان يروي لي معاناته واحباطاته فكان ذلك وحياً لقصة قصيرة حملت اسم "ماسح الأحذية" ارسلتها الى المجلة المذكورة ففازت بالدرجة الاولى واقتسمت الجائزة مع ماسح الأحذية نفسه. منذ ذلك الحين تشجعت على الكتابة، فرحت اكتب قصصاً ارسلها الى مجلات سورية ولبنانية كانت تنشرها فوراً. ثم جمعت هذه القصص في كتاب تحت عنوان "الحزن في كل مكان" وكان جواز مروري الى عالم الكتاب والأدباء. في ذلك الحين دعيت لتحرير صفحة ثقافية في جريدة "دمشق المساء" بالاضافة الى عملي في الفرن، وكنت أنشر فيها عموداً ذا صفة حميمية، فتلقيت رسائل من فتيات واحدة منهن كانت الاجرأ. فالتقينا ونشأ بيننا حب عارم سرعان ما انفصم لأنني لم اكن ارغب بالزواج مكرراً انني لن افعل ذلك أبداً - وتزوجت هذه الفتاة ايضاً. ثم انتقلت للعمل في جريدة "الأخبار" الصباحية محرراً ثقافياً وكان ذلك عام 1958. وبين حين وآخر كنا نلتقي في صالون الأديبة كوليت خوري التي كانت تقنعني بترك العمل في الفرن. وكان من اصدقائها المقربين الصحافي المعروف المرحوم نشأت التغلبي الذي كان الناطق الصحافي في رئاسة الجمهورية فسعت اليه كي يعينني في المكتب الصحافي - وكان ذلك اثناء الوحدة بين سورية ومصر - وهكذا اصبحت عضواً في المكتب الصحافي مع الزملاء اسكندر لوقا وغادة السمان وفاروق عبدالكريم. وكان عمري وقتذاك نحو خمسة وعشرين عاماً. ونشر خبر في ذلك الحين: ياسين رفاعية من الفرن الى القصر. ومنذ ذلك الحين دخلت النفق الأسود ولم اخرج منه الى الآن. وهي مرحلة اخرى اكثر تفاعلاً وانفعالاً وجحوداً وقبولاً واضطهاداً ونفياً. روائي سوري