تلاعبني الذاكرة، تتماثل طفلاً شقياً يقفز امامي متنقلاً بين سنوات المرحلة الابتدائية، ليمر سريعاً على المرحلة الاعدادية، يمد لسانه عند المرحلة الثانوية، ويضحك من بلاهتي في بداية حياتي الجامعية، يحزن حين يراني مصاباً في حرب تشرين. لا استطيع ان امسك طرف خيط منه، فما ان احاول حتى يقفز بي مبتعداً متلاهياً مداعباً، ولكني امكر به واتوقف امام لحظات مهمة في حياتي. والدي رحمه الله الصحافي المعروف احمد نورس السواح، كان صاحب جريدة "الرأي العام" في 1948، ثم "الفجر" في 1952، و"الفجر الجديد" بعد انفصال الوحدة. و"الفجر" ثم "الفجر الجديد" جريدة سياسية يومية. وهذا يعني اننا عشنا في بيت تحضر فيه السياسة مع الخبز، وكان تأثير الانقلابات السياسية علينا في الطفولة اكثر وقعاً من الآخرين. وعلى رغم صغر سني ففي ذاكرتي الكثير عن تلك المرحلة، والكثير من الخوف من هروب والدي المتكرر من البيت، وتخفيه مع كل انقلاب يحصل. وهذه مجتمعة كانت بداية تشكل وعيي السياسي ونظرتي للحياة. لكن الوحدة وما حدث فيها كانت اول مرحلة أثرت بي تأثيراً كبيراً وغيرت من مجرى حياتي. في عام 1959 كنت في الصف الخامس اي نهاية المرحلة الابتدائية في تلك الايام، حيث كنا نحصل عى شهادة السرتفيكا، التي الغيت لاحقاً. وكان استاذي يومها، صديقي في ما بعد، الاستاذ عبدالبر عيون السود المفكر الكبير رحمه الله، كنا في حصة دراسية، وكانت ايام الوحدة، وكانت قاعة الدراسة تطل على شارع في وسط مدينة حمص، وفجأة تعالى صياح، فتوجهنا بانظارنا الى النافذة، كانت تظاهرة تندد بمقتل سعيد الدروبي في اقبية الاستخبارات على ايدي اجهزة الامن التابعة لحكم الوحدة في مدينة حمص. دمعت عينا الاستاذ عبدالبر وقال: رحمه الله لقد كان مناضلاً. سألته من هو؟ ولماذا مات؟ قال حزيناً: في ما بعد ستعرفون. هيا الآن لقد انتهت الحصة، اخرجوا إلى باحة المدرسة. في ما بعد عرفت. وظلت تلك الحادثة عالقة في ذهني واثرت في مجرى حياتي وتفكيري، فكانت مع ماعلق في ذهني من تاريخ الانقلابات السياسية في سورية، مصدر توجهاتي العامة. انا ضد اي نظام دكتاتوري حتى ولو ادى الى توحيد العرب جميعاً. ومن تأثير تلك الحادثة أنني الى الآن لم انتسب الى حزب سياسي، وكنت دائماً مع الديموقراطية والحرية حتى لو أدى ذلك الى قطع عيشي. بعد ذلك حدث الانفصال، وعادت سورية الى الحكم البرلماني. وبعيداً عن تقويمي لمرحلة الانفصال، فقد أكدت فيها بيني وبين نفسي اصراري على التمسك بالديموقراطية نهجا لأي حياة او حكم. في تلك الفترة نشرت اولى قصائدي في جريدة والدي "الفجر الجديد" والتي كانت قد عادت الى الصدور في مدينة حمص، بعد ان توقفت مع ما توقف من صحف في ايام الوحدة. واذكر جيداً ان والدي أعطى قصيدتي لمدير تحريره في تلك الفترة الاستاذ حسن الشامي الذي غير لي كثيراً من كلماتها حتى انني لم اعرف انني كاتبها، ولم اكن راضياً حينها ولا الآن، لانني كنت أعتقد أنني كتبت شعراً مختلفاً، وباسلوب جديد بعيد عن اسلوب الاستاذ حسن الشامي الكلاسيكي، ولكني مع ذلك فرحت فرحاً لا يوصف وانا احمل الجريدة واريها لرفاقي واقربائي في المدرسة والحي. المحطة الثانية المهمة في حياتي كانت في عام 1964 حينما قدمت موضوعاً في الانشاء التعبير لأستاذي الكبير الشاعر رفيق فاخوري كوظيفة منزلية. وبعد يومين عاد والدي رحمه الله مبتسماً واحتضنني واخبرني ان الاستاذ زاره وابلغه ان ابنه، الذي هو انا، مشروع كاتب مهم ويجب ان يهتم بي. يومها صحبني ابي الى مكتبة في حمص وقال لي بأن كل ما احتاجه من كتب آخذه من هنا. وقال لصاحب المكتبة اعطه ما يريد من كتب وسأمر بين فترة واخرى لاسدد الحساب. في تلك اللحظة شعرت بزهو كبير، واحسست انني صرت كاتباً كبيراً وصرت اتعامل مع نفسي على هذا الاساس، وبدأت اقرأ بنهم كبير وصارت الكتابة قدري. كانت "دار الآداب" بدأت بطباعة اعمال جان بول سارتر ونشر فلسفته الوجودية والتي فهمناها يومها وقبل القراءة المعمقة بأنها تعني فقط الحرية والتحرر والانفلاش. ولكن بعد ان قرأنا جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وفرانسواز ساغان بنهم وتشبعنا بافكارهم، تغيرت افكارنا. وكنت مع مجموعة من اصدقائي نتحاور ونتناقش حول افكارهم، على صغر سننا في المرحلة الثانوية. وصرنا نسلك سلوكاً وجودياً حسب فهمنا في تلك المرحلة. ومع انتشار موضة الخنافس زاد تحررنا فاطلنا شعرنا، ورحنا نتسكع في الشوارع ونجلس على الارصفة. أثرنا بغيرنا، وصرنا ظاهرة في مدينة حمص تتحدث عنها الناس. بعضهم يؤيدنا وهم قلة، والجميع يعادينا، حتى ان بعض الوجهاء في المدينة زاروا والدي واشتكوني اليه، فعاد الى البيت مبكراً على غير عادته ليضع حداً لسلوكي المشين في رأيه والذي كنت اعتبره تحرراً من قيود المجتمع البالي. ناقشني، احتد، ناقشته بوجهة نظري، ولانه كان يحبني كنت احسه سعيداً باسلوبي في النقاش والحوار واستماعي لآرائه والرد عليها. أنهى الحوار دون العودة الى منعي أو ردعي. كان معجباً بان ابنه صار رجلاً، ولم يعد الى فتح الموضوع مرة اخرى. علمت في ما بعد انهم رجعوا واعلموه بأنني لم ارتدع فردهم خائبين. على رغم انزياح الفلسفة الوجودية، وعلى رغم انني لم اطل التأثر بها، الا انها تركت اثراً كبيراً في مجمل حياتي والى الآن، ورسمت بعضاً من وجوه ابطالي في مجموعتي القصصية الاولى "الموت بفرح" التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 1976. كوني ابن صاحب جريدة يومية فقد كان شبه مسلم به ان اكلف برئاسة تحرير اي مجلة حائط في المدرسة. أنجزنا عدة اعداد من مجلات الحائط في الصف العاشر، وقبلها في المرحلة الاعدادية، ثم قمت بمغامرتي وانا في الصف الحادي عشر مع مجموعة من الزملاء، حيث قمنا باصدار مجلة طلابية مطبوعة، سميناها وقتها "الجيل الصاعد"، طبعنا منها عدداً واحداً ومُنعنا بعدها، وبعد ان صودرت المجلة من حقائب الطلاب لاسباب لا مجال للحديث عنها هنا. بعد سنة قمنا بمغامرتنا الثانية، وهي اصدار عدد طلابي خاص في مجلة "الخمائل" لصاحبها الاستاذ الشاعر محي الدين الدرويش بالتعاون مع ابنه الاستاذ عون الدرويش. وكان عدداً ناجحاً جمعنا فيه المواهب الطلابية، وبعض من نشروا في ذلك العدد صاروا كتاباً مشهورين. حادثة طريفة لا بد ان ارويها هنا تتعلق بميلي المبكر للكتابة. ففي درس الرسم، وكنت لا احب الرسم، وكان استاذنا في تلك السنة الفنان معتصم دالاتي، صديقي الحميم حتى الآن، وكان امتحان آخر السنة، وضعت ورقة الرسم امامي من دون ان امد يدي الى القلم، مر بي الاستاذ وقال مبتسماً: ها قد جاء الامتحان حيث يكرم المرء او يهان، لقد تهربت من دروسي كل السنة، لنر ما ستفعل الآن. نظرت اليه حزيناً وقلت: أستاذ... وصمت: قال ما بك؟ قلت انا اكتب الشعر. فقال: "اذا اكتب لي قصيدة فاذا تأكدت ان ما تكتبه هو شعرك فعلاً وغير مسروق، سأرى". فرحت وكتبت له قصيدة خلال نصف ساعة. اعطيته الورقة. قرأها وقال مندهشاً: كلام جميل وهذه العلامة التامة، ولكن، اعلم انني لو رأيت فيك املاً في ان تصبح فناناً لما فعلت ذلك، ولكني يائس منك في مادة الرسم اساساً. بعدها صرنا نلتقي وصرت ازوره في البيت وتلازمنا حتى الآن. رسبت في الصف الحادي عشر بعد الفوضى التي عشتها مع زملائي بتأثير الوجودية. وكان قرار والدي ان اعيد السنة عقوبة لي، ولكني اصررت اني قادر على تقديم البكالوريا بشكل حر. قال لي والدي: اذا كان كذلك فعلي الاعتماد على نفسي وتأمين مصدر لعيشي. وفعلت، توظفت، وصرت اصرف على نفسي، وتقدمت الى البكالوريا، ونجحت ودخلت الجامعة وبقيت مستقلاً ماديا عن والدي. انتقلت للعيش في دمشق وتسجلت في كلية الآداب قسم اللغة العربية. وصلت الى دمشق وانا اعتبر نفسي شاعراً وكاتباً وقاصاً. ودخلت الجو الثقافي من اوسع ابوابه فقد كان اخي الاكبر، الباحث فراس السواح سبقني الى دمشق واقام علاقات وطيدة في وسطها الثقافي، فكان من اصدقائه الفنانون فاتح مدرس وصخر فرزات ورضا حسس والشاعر مصطفى البدوي والباحث محمود حوا والشاعر فايز خضور وغيرهم كثر... صاروا تلقائياً اصدقائي المقربين. ونشرت اولى قصصي كمحترف في العام 1967. ونلت بعدها الجائزة الثالثة في مسابقة أجرتها جريدة "الثورة"، وصرت اتردد على مقاهي المثقفين، وانخرطت في افراحهم واتراحهم، في موبقاتهم ومنتدياتهم. امضيت سنتي الاولى على هذا النحو الى ان قامت حرب 1967، فأخذتنا الحماسة، وتجمعنا في الجامعة نطالب بالسلاح للمشاركة في الحرب. وزعوا علينا السلاح، وأرسلونا الى الجبهة، ولكننا لم نصل الى هناك، فقد قصفنا الطيران الاسرائيلي في الطريق، وجرحت في قدمي، ونقلت بعد مسير طويل، وقدمي تنزف، الى المستشفى حيث اخرجوا شظية من قدمي. ثم كانت النكسة التي عانينا كثيراً من نتائجها، والتي طبعت جيلنا كله ولفترة طويلة بحزن طاغ. في السنة الثانية نسيت الجامعة وكنت اقول لمن يسألني: ماذا سأفعل بالشهادة الجامعية؟ أنا كاتب معروف ولن احتاج الشهادة الجامعية، كنت اتقدم الى الامتحانات دون أن أقرأ المادة التي سأمتحن بها. رسبت ثلاث سنوات في السنة الاولى، استنفدت فرص الرسوب، وصار علي ان التحق بخدمة العلم، بعد ان فقدت الحق بالتأجيل الدراسي. عندها تنبهت الى الخطأ الكبير الذي وقعت به، ولكن الاوان كان قد فات. كنت قد كذبت على والدي فقد كنت اخبره كل سنة بأنني ترفعت الى السنة الثانية فالثالثة. وحين صار علي الالتحاق بخدمة العلم، اصبح مفروضاً علي أن أخبره الحقيقة فأخبرته. وكانت الواقعة، غضب ولم يعد يتحدث معي، وصار يتجاهلني في البيت وخارجه، كانت صدمته بي شديدة. التحقت بخدمة العلم وبينما أنا بانتظار فرزي لقطعة عسكرية ما، زار والدي قائد مركز التجمع في النبك، تفاءلت خيراً، فها هو قد جاء ليتوسط لي لأخدم في مكان آمن مريح بما بقي لديه من معارف بعد أن كانت جريدته قد توقفت مع ما توقف من صحف بعد عام 1963. كان قائد التجمع من مدينة حمص. وكان يعرف والدي ويحترمه، روى لي والدي ذلك في ما بعد، قال له وقد أصبح في مكتبه، لماذا حضرت بنفسك، لقد قرأت اسم ابنك وسأضعه في مكان مريح. فأجابه والدي، لقد حضرت لعكس ذلك، اريد منك أن تضعه في أبعد مكان على الجبهة، أريده أن يتعلم درساً قاسياً في العسكرية أريده أن يصير رجلاً. وهكذا كان. خدمت في لواء للدبابات، وخضت حرب 1973، وأصبت فيها اصابة بالغة. أمضيت اطول خدمة عسكرية الزامية، ما يقارب الخمس سنوات، فقد احتفظوا بي للعلاج بعد ان سرح زملائي من الخدمة. قصتي مع الحرب ومع الموت في الحرب طويلة، الا انني عدت بعدها اكثر نضجاً واقل عنجهية وأكثر تواضعاً. وسمح لي بقرار من السيد رئيس الجمهورية بدورة استثنائية تقدمت بها للامتحان ونجحت وتخرجت. وصرت الى ما انا عليه الآن. ويظل الطفل الشقي يتقافز أمامي متناقلا عبر الذاكرة. وفي الذاكرة أشياء كثيرة وكثيرة. سحبان سواح كاتب سوري