ثمة فكرة أعود اليها بين حين وآخر هي ان ثمة جناحاً نافذاً من اليهود الاميركيين يقف ضد السلام بين العرب واسرائيل، كما ان ثمة غالبية اسرائيلية مؤيدة للسلام. هذه الغالبية الاسرائيلية قد تنقص يوماً، كما حدث عندما جاء بنيامين نتانياهو الى الحكم راكباً موجة التفجيرات الانتحارية في القدس وتل ابيب، الا انها موجودة دائماً. اما بين اليهود الاميركيين فثمة نفس ليكودي أقوى مما تعرف اسرائيل، وأنصاره أعداء السلام الحقيقيون الذين يضغطون على الإدارة لمعاداة الدول العربية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، بهدف إجهاض أي تقارب مع الولاياتالمتحدة قد يساعد مشروع السلام. ربما كان الأمر مع أمثال هؤلاء اليهود الاميركيين ما يعبر عنه المثل الشعبي "الجمرة ما بتحرق إلا موضعها"، فهم بعيدون عن الشرق الأوسط، ويشنون حرب نظارة يدفع العرب واليهود في المنطقة ثمنها من أرواحهم ومستقبلهم. وكنت توقفت عن قراءة ما يكتب بعض غلاة الليكوديين من اليهود الاميركيين، كما يعرف كل من يتابع هذه الزاوية، غير انني تذكرتهم وأنا اقرأ قبل أيام مقالاً حقيراً في "وول ستريت جورنال" كتبه نورمان بودهورتز، وهو من أركان مجلة "كومنتري" الخارجة من عدوان فكري على البروفسور ادوارد سعيد قاده باحث اسرائيلي يموله مايكل ميلكين، أحد لصوص شارع المال والاعمال، المتهم والمدان في عمليات مالية ممنوعة، وقد سجن ودفع غرامات قياسية، وخرج ليساعد نافثي السموم السياسية. المقال كتب على طريقة "الخسن والخسين بنات معاوية"، فلا نعرف كيف نصحح الاخطاء، وهو يعكس نفسية صاحبه وأمثاله اكثر مما يعكس حقائق على الأرض. هو يكرر زعم ان اليهود القليلين في فلسطين تصدوا لجيوش خمس دول عربية كبيرة وهزموها. غير ان هذه الخرافة تتكرر فيما هناك كتب تاريخ جديدة في اسرائيل نفسها تقول انه لم تكن هناك جيوش عربية سنة 1947 - 1948، وانما كان يوجد 600 ألف مسلح يهودي مع خبرة ميدانية مقابل بضعة آلاف مقاتل عربي. ونحن لا نقول هذا، وانما يقوله مؤرخون اسرائيليون تدرس كتبهم اليوم في اسرائيل. بعد ذلك يأخذ الكاتب القارئ في متاهة تاريخية، عندما خسر العمل الانتخابات في اسرائيل سنة 1977، وكره الليبراليين نيكسون، وقضية ألغر هيس، التي لا يصفها بخيانة، ومناحيم بيغن واجتياح لبنان، وحرب فيتنام، ليصل الى اسحق رابين سنة 1992، ونكوصه عن وعود انتخابية بعدم التفاوض مع منظمة التحرير، بل "جريمته" الأكبر بالتعهد بالانسحاب من الجولان. وإذا كنت فهمت شيئاً من هذا السخف فهو ان الكاتب يقارن بين شعور الاميركيين ازاء حرب فيتنام، وشعور الاسرائيليين ازاء اجتياح لبنان، ما انشأ في البلدين تياراً معادياً للحرب. واضح جداً ان بودهورتز يفضل الحرب حلاً، أو استسلام العرب من دون قيد أو شرط، لذلك فهو يزعم ان القادة العرب لم يتخلوا عن الحرب الا اقتناعاً منهم بأنها لن توصلهم الى ما يريدون، وهكذا قرروا ان يكون لهم موطئ قدم في فلسطين ليشنوا منه "جهاداً" ناجحاً ضد اليهود. إذا كانت هناك "نية اجرامية" فهي عند امثال الكاتب. واسهل رد عليه وأوضحه ان القادة العرب لم يتفقوا في حياتهم على شيء وهم غير متفقين اليوم على التعامل مع القضية الفلسطينية، والحديث عنهم كفريق واحد، يجتمع ويخطط ويقرر ويوزع أدواراً، شطط يتراوح بين الغباء المطبق والخبث المفضوح. بعد ذلك يستشهد الكاتب بالبروفسور فؤاد عجمي الذي كتب مرة يقول ان الرفض العربي لاسرائيل مستمر، وانه في الشارع العربي، وهو أشد ما يكون في مصر. ومع انني لا اتفق مع الدكتور عجمي كثيراً فهو مصيب، وقد رأيت بعيني في خان الخليلي في القاهرة بائعاً يخرج من متجره ويصرخ "الله أكبر، أنا ما بعش يهود" بعد ان دخل سياح يهود المتجر. والسبب في ذلك بسيط فطالما ان هناك يهوداً اميركيين من أمثال بودهورتز يريدون ان يفرضوا علينا اسرائيل بالحديد والنار، وبما يقضي على الحقوق العربية في فلسطين، فستظل العلاقات متوترة متأججة. غير ان السلام قادم على الرغم من أعدائه، وهم بين العرب كما بين اليهود. وفي اليوم الذي كتب بودهورتز مقاله كانت الصحف الاميركية وغيرها تنشر ان اسرائيل أفرجت عن 199 سجيناً أمنياً فلسطينياً، وتبدأ اعادة سبعة في المئة من أراضي الضفة الغربية قبل الموعد المحدد بثلاثة ايام. السلام النهائي لن يكون عظيماً، وسيخسر الفلسطينيون فيه كثيراً من حقوقهم التاريخية الثابتة، الا انه يظل أفضل من الحرب التي ينشدها الفريق المتشدد من اليهود الاميركيين، ويذكون مشاعر الكره باستمرار حتى لا تخمد جذوتها.