رصيد أميركا، مع اندونيسيا وتيمور الشرقية، ليس مُشرّفاً. في عهدي سوكارنو وسوهارتو كان ذاك البلد مسرحاً ساخناً للحرب الباردة. والسياسة الاميركية التي دعمت سوهارتو، غضّت النظر عن ضم تيمور، ثم غضّت النظر عن سحق شعبها وحركته الاستقلالية. الآن، الضغط الأميركي والغربي عموماً هو الذي تسبب بموافقة العسكر الاندونيسي على التدخل الدولي. ومع ان التدخل ليس مضمون النتائج حتى الآن، ومع انه قد يستجر صراعاً بين حبيبي والجيش، يبقى اضطرار العسكر للموافقة عليه بالغ الدلالة: انه طعنة للعسكر نفسه الذي تولى لربع قرن اخضاع التيموريين، وطعنة لقومية اندونيسية شوفينية تريد الابقاء على ضم تيمور رغماً عن سكانها وارادتهم. الضغط الاميركي والأوروبي الذي اطلق بين القوميين الاندونيسيين عواطف مضادة للغرب ول"البيض"، سبقه موقف اميركي واوروبي قاطع يؤيد اطاحة سوهارتو: الديكتاتور الموالي تقليدياً للغرب. وفي المقابل، فالذين يؤيدون عدم التدخل في الوضع الاندونيسي والتيموري هم الروس والصينيون. هل يعقل، بعد هذا، ان يقال إن شيئاً لم يتغير؟! نقّاد أميركيون وأوروبيون للدور الأميركي في التاريخ، سريعاً ما يشيرون الى التحوّل في الحاضر واشكالاته. واشاراتهم تحكمها الرغبة في تخليص شعب تيمور بتدخل أميركي او بغيره، مع تسجيل مخاوف صريحة من الموقفين الروسي والصيني المعارضين للتدخل، ومع اعلان الاستياء من التلكوء الآسيوي في التصدي لمهمات آسيوية أصلاً. عندنا، وعند غربيين قليلين لم يبرأوا من الحرب الباردة، يقتصر عمل "المحللين" على المضي في شتم اميركا. وهذا الشتم وجهه الآخر الاصرار على ايجاد ذرائع للسياستين الخارجيتين للصين وروسيا. وفي المرتين يكون الاستناد الى التاريخ لا الى حركة الواقع وتغيراته، فيما تعني كلمة "تاريخ" قراءة آحادية جداً للتاريخ. أغلب الظن ان هذه الطريقة في "التحليل" طريقة حربٍ باردةٍ لا طريقة ما بعد انتهائها. وما بعد انتهائها لا يعني انقطاعاً نوعياً لكنه يعني تغيرات من دونها لا نفهم شيئاً، بل نمضي في سياسة الشتم والعود على بدء. وما دام لم يعد هناك اتحاد سوفياتي يستفيد من الشتم، فكل ما يبقى لائحة من الاحقاد المتكررة والمضجرة التي تشوّش على كل محاولة لفهم الجديد والمختلف. وما يشجّع على سوء الظن بهذه الطريقة في "التحليل"، ان اصحابها سبق لهم ان دانوا التدخل في العراق بعدما استبعدوه، ثم دانوا التدخل في كوسوفو بعدما استبعدوه. ودائماً كانوا يتقدّمون بنصائح لأهل البلدان المعنية يرفضها ابناء هذه البلدان. وها هم يقولون للتيموريين ان عدوّهم هو الاميركي الذي دعم جاكرتا في الماضي، فيرد التيموريون ان عدوّهم هم الحكم الاندونيسي الذي كان يشدّ ظهره بأميركا لكنه صار يشد ظهره بروسيا والصين. الفهم بناءً على الحرب الباردة ام الفهم بناء على ما يجري الآن؟ هذا التمييز هو الذي يوضح الفارق بين النصائح المتكررة والمضجرة، وبين محاولة فهم عدد من الأمور البالغة التعقيد التي منها: العلاقة بين أثر التلفزيون والرأي العام وبين ضغط الكونغرس واللوبيات الانعزالية في أميركا وباقي الغرب، والصلة بين ما هو أوروبي وما هو غير اوروبي في اجندات التدخل وقدراته، والارتباط بين الادوار الاميركية المباشرة وتلك التي تستند الى الأممالمتحدة والى مرتكزات اقليمية وسيطة على ما يبشّر الدور الاسترالي النامي، والتداخُل بين الضغط على عسكر اندونيسيا والاستقرار السياسي في آسيا تالياً وبين الاستقرار الاقتصادي وانعقاد قمة آيباك لجعل اقتصادات العالم كلها مفتوحة في 2020، وأخيراً احتمالات تطوير مرتكزات اقليمية للتدخل حيث ينبغي التدخل خارج أوروبا، وهي المسؤولية التي تلكّأت آسيا طويلاً عنها. بعض الجهد ينبغي ان ينصرف الى هذه المهام المتواضعة قياساً بالحرب الملحمية التي انتهت، وشرعت آثارها تنتهي، الا في "التحليل" الطَروب.