تنتقل هدى النعماني بلوحاتها ورسومها من معرض الى آخر مرسّخة هويتها كشاعرة تعانق الألوان والخطوط وكرسامة لا تتخلّى عن الشعر لحظة. لوحاتها لا تملك أعماقاً إلا كونها من فيض الشعر ونضوج خميرته في الذات والمخيلة والبصيرة، ولا تستند الى جمالية إلا ما تنتجه العفوية من مفارقات عشوائية تلتقي بالمصادفة مع ذائقة الشاعرة واستنسابها للألوان عند تجانسها أو تنافرها ولكن هل تكفي عملية صب اللون على القماش للقول بأن صاحبة العمل فنانة تشكيلية؟؟ ولعلّ المعرض الفردي السابع الذي أقامته أخيراً في صالة الأونسكو في بيروت، وتضمن 99 لوحة وجدارية غالبيتها من الأحجام الكبيرة زيت واكريليك وماء الذهب ومواد مختلفة يعكس نوعاً من الاختبارات اللونية على القماشة بين طبقات خشنة وناعمة ومجعدة ومالسة، حيث تتقاطع الخيوط المتأتية من انسكاب اللون، فتشرد أو تلتف وتتشابك كما تتداخل الألوان وتتماوج بلا حدود في فضاء تشكيلي متعدد البؤر وكذلك متعدد التأويلات. فسيلان الألوان يجعل البقع تتدافع على السطح فتتعانق أو يكبح بعضها جماح بعض، يضيئوها نور خفي ينبعث من توهج الأصفر أو امتزاج الأبيض بالوردي ومراراً الأزرق الليلكي أو الفراغات المتروكة عن عمد بين الطبقات والسطوح. ثمة احساس يمليه ضرورة توزيع اللون عند ضفاف اللوحة، مما يعكس طريقة تحرُّك الرسامة وهي تدور حول القماشة، في تعاطيها المباشر مع طريقة دلقها للون، لتغدو جزءاً من الحدث التشكيلي الذي يصنع نفسه في لحظته. إذ تسعى لتقويم مسار اللون أو توجيه حدة اندفاعه وانفلاشه على المساحة. فتنجح أحياناً وتتعثر في أحيانٍ أخرى، بين شك ويقين وتظل مغامرة التجريب مغرية لمزيد من المجاذفة الخطرة والممتعة في آن وهنا المفارقة. فكثيراً ما يؤدي استعمال "البويا" الصناعية عند سكبها بكثابة، الى حدوث تجاعيد عند سطح البقعة لدى احتكاكها بالهواء فتجف من الخارج وتظل طريةً من الداخل على قماشة محدودة التشرُّب، مما يعرِّضها للتشقق مع مرور الوقت. فثمة شقوق تستغلها النعماني للأيماء بنسيج متعدد الطبقات والألوان والأثلام، وفي أمكنة أخرى انتفاخات تشبه القروح، لا تملك حيالها شيئاً، مما يدفعها أحياناً لحرقها، أو لتغطية العطوب بالبخ اللوني... هكذا تتعدد المعالجات في مظاهرها العبثية وفي آليتها وتشابه نتائجها ومجانيتها أحياناً، لتقطف أوج الانفعالات، فتدنو لغة النعماني من ايحاءات الأميركية "هلن فرنكنتالر" في صنع صور سديمية لرؤى داخلية مبهمة، كما تتبع أحياناً سلوك "سام فرنسيس" الذي يضع اللون السائل على اللوحة الملقية على الأرض ثم يعمد الى رفعها عمودياً فتسيل الألوان باتجاه الأسفل تاركة آثار جريانها. فاختيار هدى النعماني للتعبيرية التجريدية الأميركية في مسارها المتحرر من الضوابط والقيود، جعل تعاطيها مع الفن أسهل لِبُعده عن التصوير الواقعي بمعناه الأكاديمي، إلا أن فناني تلك المدرسة، لهم جذور وبدايات ومرجعيات متصلة بمعرفة الشكل قبل انكاره والثورة عليه، مع تأسيس التيار التجريدي اللاشكلي المسمى بالأكشن "Action Painting"" حيث الحدث العرضي، وانعكاسات المشاعر اللاواعية في التصوير هما مصدرا التحرر والإبداع. إلا أن الدهشة والغرابة، وجدتهما النعماني عند اقتباسها لهذا الفن، انطلاقاً من حساسيتها الشعرية مما أوجد لديها حوافز الاستمرار في التقليد والاطلاع لتكوين ذاكرة لونية، تستفيد من الأحجام الكبيرة، لإظهار أوسع حقل للرؤية، حيث جاذبية العلاقات اللونية تصل لأقصى مراحل انتشارها وتفجرها وسطوعها. ولا تخلو لوحات النعماني من المبالغات الاستعراضية، لما تنتحله من إظهار للصدمة البصرية، التي لا تلبث أن تزداد قوةً ولمعاناً مع استخدام الألوان الذهبية والفضية، مما يعطي قماشتها طابعاً زخرفياً متفرداً. هذا الطابع الذي اهتمت النعماني بأسلبته منذ بدايات تجاربها أوائل التسعينات وتعاطيها مع مواد الرمل وألوان الذهب والشمع الذائب بحثاً عن نسيج يشبه حجارة كريمة متلألئة تحت شمس الصحراء ورمالها الشاسعة، إلا أن هذا النسيج يزداد حضوراً وأهمية لا سيما مع الإشارات الخطية التي تحمل شيئاً من الاختبار الغرافيكي في سلسلة "لا" المتنوعة الايقاعات والاستدارات، فهي تكتب مساحتها أحياناً كما تكتب الشعر على ظاهر الورق، لذا هي شاعرة متعددة القراءات. جريئة في تطلعاتها وطموحاتها. واثقة في خطواتها. فشغفها بالفن يجعلها تدير ظهرها لكل تاريخ الرسم والتصوير بحثاً عن التجريد الذي يمتزج فيه القلق بالمتعة والسحر بالشعوذة ورحاب اللون بإيقاع الحرف.