التسابق على إطلاق مشاريع بينالات عربية في بيروت، هي الظاهرة التي تلوح في أفق العاصمة مثيرة اللغط والشبهات والنقد والتوضيح والقطيعة الفنية، تبعاً لالتباس مفهوم البينالي ومراميه في أذهان بعض المبادرين الطامحين والمتباهين بنقل تلك الموضة العربية الى بيروت بغية قطف ما تبقى من شعارها كعاصمة ثقافية والاستفادة من مخصصات وزارة الثقافة اللبنانية قبل انتهاء العام 1999 أو تحضيراً لاستقبال العام 2000. المؤسف أن وزارة الثقافة وافقت على إقامة بينالين اثنين للفن التشكيلي اللبناني والعربي في بيروت، ضمن مهلة زمنية لا تتعدى الثمانية أشهر!! تقدمت بهما كل من رندة تقي الدين صاحبة غاليري عالم الفنون وزينات بيطار والمشروعان لا تنطبق عليهما مواصفات البينالي لأسباب كثيرة وبديهية، أوضحتها جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت بعد أن أعلنت مقاطعتها لأعمال تلك البينالات وأبرزها: أن البينال من خلال التسمية هو معرض يقام كل عامين ولا يجوز تكراره إلا بعد انقضاء الفترة المستمدة من التسمية وهي السنتان. وهو مؤسسة قائمة بذاتها تشترك في تكوينها الجهات الرسمية وشبه الرسمية والأهلية والأكاديمية وهي لا تقوم على مجرد مبادرة فردية مهما كانت ناشطة. وتساءل بيان الجمعية عن الجهة التي تقرر لجان التحكيم وتقدم الجوائز والضمانات وتدير الندوات وتصرف الأموال، وكيف يمكن الادعاء بإصدار كتب وموسوعات للفن العربي مواكبة للبينالي بهذه العجلة! ولعل الخلل الكبير يكمن في افتقار وزارة الثقافة الى مرجعية ثقافية أو الى عناصر متخصصة تخطط لإقامة الأنشطة والمشاريع المستقبلية، ولا بأس أن تتعاون من أجل تحقيقها مع الخبرات الكفوءة ليكون الحدث الثقافي على مستوى وطني شامل من دون أن يقع في اطار الانجاز الفردي المتبجح وغايته حب الظهور والكسب المادي والمعنوي، على الصعيدين اللبناني والعربي. وبما أن أبرز شروط وجود البينال هو دراسة الظواهر التشكيلية وتحليل أساليبها واتجاهاتها بخلفياتها وآفاقها، فإن ما حققته زينات بيطار في "معرض الفن التشكيلي العربي الحديث في القرن العشرين" لا يعدو العنوان الفرعي لما أسمته إدعاء "بينال بيروت" فهو معرض جماعي عربي يقام حتى 7 تشرين الأول / أكتوبر في أجنحة قصر الأونسكو، ويشمل نتاجات نحو ثمانين فناناً وفنانة من لبنان والأردن والعراق والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر والإمارات العربية وسلطنة عمان وليبيا وتونس والسودان ومصر. وقد غابت دول كثيرة عن المشاركة في طليعتها سورية فضلاً عن ضعف بعض الأجنحة التي لا تمثل حقيقة الفنون الطليعية في دولها. وإذا استثنينا الجناح اللبناني الذي "ارتجلته" بيطار من مقتنيات المجموعة الخاصة برمزي السعيدي ومن مجموعات غالبيتها معروضة سابقاً في غير مناسبة، وهو من أبرز نقاط الضعف في المعرض، فإن الملامح الاختبارية الجادة التي تعبر عن فنون أواخر القرن العشرين قليلة ومتفاوتة في مستواها الفني بين دولة وأخرى، مما أعطى المعرض طابعاً استعراضياً مسطحاً يخلو من وجهة نظر محددة أو مفهوم واضح إزاء الفنون العربية. فالدعوة التي وجهتها بيطار للدول المشاركة إنضوت تحت عنوان كبير وفضفاض لا يكشف ولا يعرف كيف يكشف الطاقات الشابة والأفكار الثورية الجديدة لما بعد الحداثة، التي تختم قرناً وتفتح آفاق الألفية الثانية. هذا لا ينفي أهمية الحضور العربي وتنوعه وانفتاحه على اختبارات العصر، بما ينسجم مع بيئته وموروثاته الجمالية والشعبية. ففي الجناح السعودي تتقدم التجارب التجريدية على ما عداها، لتنتقل من علاقات الخطوط والكتل والألوان في نتاج عبدالله حماس، الى لغة المواد وكيفية تعاطيها مع المساحة وايحاءات سطح القماشة وتأويلاتها كما في أعمال عبدالله ادريس ومحمد الغامدي وعوضه الزهراني، لمياء السبهان، كما أن الأشكال الحروفية والزخرفية يتم استعادتها انسانياً كما في زيتية عثمان الخزيم أو في مناخ تجريدي هاشم سلطان وحنان حلواني، وثمة تجربة لافتة في معالجة أحمد فلمبان للواقع ولمواضيع الوجوه. وفي الجناح الكويتي يعكس عبدالله القصار بعض مظاهر الحرب ونتائجها العدوانية بأسلوب سوريالي، ويحتفظ محمود الرضوان بأمانته لمناظر البيئة الصحراوية اللافتة ولتصوير المواقع والأمكنة بقوة النور وحدة الظلال وانكساراتها، وينحو نحوه أيوب حسين معطياً لواقعيته شيئاً من البانورامية، وقد تكون تعبيرية غادة الكندري ساذجة أحياناً، في مخاطبتها لوجوه الأفراد والجماعات ولكن أفكارها لها أجنحة خيال. أما في جناح سلطنة العين، فأعمال محمد بن نظام شاه البلوشي وموسى بن عمر الزوجالي، تطرب العين بقوة حضورها الزخرفي التي تأخذ بعداً تجريبياً - بصرياً أما التجريد الذي يستلهم حركة الطبيعة في أعمال حسين بن علي عبيد حركة القمر وتلاطم الأمواج والصواري الغارقة ينقلب الى هندسة عقلانية ذات تقنية متطورة في لوحات عبدالله بن ناصر الحنيني المتنوعة الرؤى والمعالجات والباحثة عن مفردات وإيحاءات جديدة. وتستعرض العين من جناح قطر، مائيات وفاء العمد بدراستها التفصيلية الدقيقة لجمالية الهندسة العربية وكولاج عيسى الملاّ وهندسية مربعات عيسى الغانم، وتتوقف عند الجناح السوداني حيث المناخات الأفريقية المميزة في رسم محمد عتيبي على الجلد والتعبيرية الراقية في أعمال أحمد عبدالعال وهو من الفنانين المخضرمين، الذين أدخلوا الحداثة التشكيلية الى السودان من باب حكايات الوجوه الإنسانية المرتبطة بجذورها، لذلك تضج أمكنته بالوجوه والعصافير والأشجار والوشم في نسيج شرقي حار أو تنتصب قاماته على طريقة بول غيراغوسيان لتبتعد في الفراغ. وتنفرد تجربة علي العباني من ليبيا في معالجتها للمناظر الخلوية التجريدية بقوة انغمار اللون وطفو اللمسات في طبقات شفافة متداخلة لترسم آفاقاً من الكثبان المضطربة بتموجاتها واندفاعاتها. ومن تونس قطاف فني يتنوع في روعة قماشاته الزخرفية المملوءة بالإشارات والرموز الهندسية والنباتية وحقولها المشتولة بالطلاسم وحكايات الأزمنة سلوى جابر وريم القروي كما تشهد الحركة التونسية صعود التعبيرية التي تتحول الى مناخ صدامي قوي في أعمال زياد الصرم كولاج ورق وخطوط عريضة وحرة وعصبية وقد يتناغم بلهجة أقل انفعالاً في لوحات الأمين ساسي مع ثنائيات وحوارات بين رجل وامرأة، لا تلبث أن تنحسر الى جلسات الرجال حول طاولات المقهى في تعابير مشدودة عند أقصى الحركات المبالغة على طريقة بيكون بينما يتسم واقع رؤوف الكراي بشيء من الطرافة والإباحية والحلم في آن. وقلة هم الفنانون الذين يمثلون الجناح المصري، في طليعتهم نازلي مدكور التي تلح في قماشتها البصرية على اغراءات قماشتها ذات الملمس الرملي والصخري وهي تستعيد تموجات تراب الأرض والتربة الحمراء حيث تخرج ملامح الوجوه من دخانها الأسود المتصاعد، وربما تغيب لتظهر الخطوط المعوجة لبيوت بعيدة، في مناخ جيولوجي بدائي ساحر كأن التكوين الكتلوي يعتمد على إيحاءات القماشة التي تجعل الريشة تتبع تعرجاتها، قدر ما ترشد الأشكال الى أطيافها. ومن طبيعة كونية اخرى تطل لوحات مصطفى عبدالوهاب، وترتاب لغة مصطفى الرزاز في حيرتها بين التعبير الزخرفي والرمزي - الطفولي، وعن معرفة يستعير مصطفى عبدالمعطي رموز الهرم والاعمدة المخططة عمودياً والحلازين الممددة افقياً كعناصر بنائية مهزوزة في فضاء غرافيكي مؤسلب في نظرة تشييدية مستقبلية للعالم، ومن مناخات معالجته اللونية وتعاطيه مع المساحة اعمال أحمد فؤاد سليم ولكن آفاقه الممشطة العزلاء تتم عن شطارة اليد اكثر من القلب والمضمون. اما في جناح الامارات العربية فالنحت هو اللافت، سواء في استعادة الوجوه البدائية في خشبية محمد عبدالله، او في موضوع الفرقة الموسيقية الذي نفذه محمد الاستاد بمادة الحديد، وصولاً الى الطرح الجديد لمحمد احمد ابراهيم عن افتتاح النحت على مواد جديدة، مستخدماً الطين والقش واللبن في تكوين متاهة تشبه السير في حي من الاحياء القديمة. ويكاد يكون الجناح العراقي من اقوى الاجنحة العربية، حيث الحضور الانساني يتصف بالعمق، مما يجعل استعادة عفيفة لعيبي على رغم متانتها في التصوير الكلاسيكي وغرائبيتها تنتمي الى لغة جاهزة من مفرداتها ومناخاتها. ومن تحولات الاحداث السياسية، الى رموزها العميقة، تطل تجربة علي طالب في لوحات "المرأة الملاك" و"الكرسي الخالي وحقيبة السفر" و"الانسان المسحوق والمعلب الممسك بحقيبة"، فتصاويره بالحبر هي على عتبة دموعها القاسية وربما صراخها المكتوم. ويتحول ايضاً الكرسي الى رمز متشعب الدلالات في منحوتات منقذ سعيد البرونزية الذي يعتمد في تآليفه المتصاعدة على دراسة الحركة والتواءاتها وانكساراتها، ويعرفنا المعرض على موهبة العراقي جبر علوان المتفردة بنبرتها الانسانية الموجعة فاقامته في روما مكّنته من التعاطي مع احلامه وجنونه وصخبه وقلقه، بحرية جعلته يضرم الالوان بنيرانها وحرائقها السوداء في سماء مكفهرة بالغيوم في مناخات تعبيرية دراماتيكية حنونة وقاسية كئيبة وحالمة في آن.