الحوار مع شفيق عبود لا يجدي نفعاً، بل يبلبل لأنهيؤدي إلى طرح أسئلة أخرى عن جدوى النقد، عن علاقته بما يتحدث عنه، عن دوافع التصوير أو الكتابة نفسها. يتخلص عبود من ذلك، لا لينأى عن اللوحة، بل ليقيم فيها، في سرها، على أن له حواراً معها يستمر حتى بعد إنشائها، وهو الذي يشدد أمام أسماعي على أنه "الراوي". يتخلص من كل ما "يعقلن" اللوحة، أو صنعها الفني، من كل ما يحيلها إلى أسباب لها معقوليتها ورجاحتها، عير عابىء بالنقد، بسلطته، التي لا تعدو كونها في هذه الحالة تدبيراً لاحقاً، له ما يشغله ويحركه في الكتابة، في جوار النقد مع كتابات ومفاهيم واصطلاحات، أكثر مما له مع واقع اللوحة نفسها، مع تولدها الفوضوي، لا النسقي مثلما ينتهي النقد إلى التصنيف والدرس والتنميط، وإن كانت صدرت عن معايشات مستديمة مع مواضع وأحوال وانفعالات. وعبود في ذلك وفيّ للتلقائية، لصدور اللوحة عن انفعال بما جرى، ذات لحظة، ذات معايشة ما. يقول لي عن لوحة "الجنة"، وهي مأخوذة من معايشة في "مسبح الجنة" في جبيل: "نسيت تصوير النخلة، كان لها أن تكون في هذا الموضع في الجهة العليا من اللوحة". قد نسارع إلى القول، إلى ربط أسباب التعلق هذا بمعايشات "انطباعية" التناول، وهو قول - لو سلمنا به - لأعاد عبود إلى سابق تجربة له، ما كانت تولي "الحكاية" - كما سماها لي في مرات سابقة، في باريس - صدارة العمل، بل قام جهده حينذاك على محوها، على تضييع معالمها، على طمسها بطبقات من التلوين والتعمية. ولو أحلنا كلامه هذا إلى تجارب "مدرسة باريس" التي انتمى إليها، لوجدناه يبتعد أكثر مما مضى عن الجمع المستحب بين اللاشكلي والتعامل التلقائي. أربع وعشرون لوحة في معرضه البيروتي، ذات مقاسات متباينة، بينها الكبير ما يقرب من المتر والنصف متر والمتوسط والصغير، عدا أنها تجمع بين مواد عمل مختلفة، منها الزيتي الذي ظل عبود وفياً له، بخلاف أقرانه الذين انحازوا على عجل إلى "الأكريليك"، أي المواد الدهنية و"التمبيرا" المصنوعة من البيض، عدا أنه نفذها على حوامل قماشية عدا أعمال قليلة على الورق. وهي مواد وأدوات تظهر لنا خلوصه الدائم إلى ما اعتاد عليه، وما تمرس به، من دون انشغال بما تتيحه المواد الدهنية، على سبيل المثال، من سرعة في "الجفاف" أي ثبوت حالتها الضوئية سريعاً فوق القماش، أو غيرها من عروض وتقديمات. ذلك أنه يبقى مخطوفاً بتوليدات الضوء التي تنبثق من تكوينات الألوان الزيتية وكثافتها خصوصاً في كيفيات أصعب الألوان الدهنية أكثر إشعاعاً منها، وأكثر سطوعاً، كما يحلو لعبود استنطاقها. وهي طريقة في العمل، في توليد الضوء من مواد شديدة الكثافة و"العتمة" إذا جاز القول، تعود في أصولها إلى عتمة المحترفات الأوروبية في سابق عهدها، حيث كان للفنان أن يستخرج الضوء من المكان الأعتم والأشح ضوئياً. هكذا نراه في عدد قليل من الأعمال يعتمها بمجرد أنه لم يتدرج في استظهار الضوء من كثافة المادة الصلدة، خصوصاً إذا كانت الألوان المنتقاة معتمة. وهذا نراه في عدد آخر من الأعمال إذ ينجح في تلميع الضوء حتى لو استعمل زجاجاً يخفف بالضرورة من قوتها، نرى بعضها الآخر يتأثر بمجرد وقوعه خلف زجاج. ذلك أن اشتغال عبود على اللوحة مرهف اللمسة، يكفي حدوث تغير بسيط في درجة اللون، في توازنه أو عدم توازنه مع غيره لكي تحدث التغيرات هذه تبديلات قوية في "ميزان" اللوحة. كيف لا، واللوحة عند عبود اشتغال متمادٍ على عناصرها، على موادها، على تعديلات طفيفة، في أيام متباعدة ومتلاحقة، يجريها عليها، هنا وهناك. وهو ما نلتمسه في ضربات ريشته، التي تبلغ في بعض أعماله المعروضة حدوداً قلما عرفتها تجربته سابقاً: ضربات قوية، عنيفة، تنزل على اللوحة نزولاًً كثيفاً، في كتل لونية أحياناً. وإذا كنا عرفنا في سابق تجربة عبود تجميعاً للمواد اللونية، أو تراكماً لها، ينشأ من معالجات متمادية على اللوحة، لكي تظهر وفق ما يتوصل إلى اكتشافه فيها، أو طبقاً لتقنية في التصوير تقوم على طريقة في التلوين عمادها إنزال طبقة لونية على ما جرى تصويره بغرض طمسه، ولكن بكيفية تظهره في طريقة ضبابية أو مغبشة، فان عبود يبتعد عن الطريقة هذه في بعض أعماله الجديدة ويعود في صورة أصرح إلى الإبلاغ، إلى "الرواية"، أي إلى إجراء "الحكاية" في مدى اللوحة. وهو ما يتجلى في صورة بينة في مباني اللوحات، حيث أن لها طرقاً مختلفة في تنظيم السطح التصويري، وفي توليد أنماط من المساحات التشكيلية. في أعمال نراه يعود إلى ما سبق تجريبه، وهو "تجميع" مباني اللوحة في وسطها، في بناء متجمع يخشى الإفلات من كتله وعناصره، فنراه يشدها إليه شداً، وإن استطالت بعض هذه الكتل أو ابتعدت في مجال اللوحة عن وسطها القوي والمركز. وكان عبود يجري على عملية التجميع هذه ألعاباً تخفف من هذا الحضور القوي، وذلك بتمديد طبقات لونية عليه، ما يخفف بالتالي من بروزه وسيطرته القوية. وهو ما يتجلى في أعمال أخرى في بلوغ اللوحة، أو قيامها - لو شئنا التشبيه - على أساس منظور جوي، أي أن العين الناظرة ترى إلى تكوينات أو مشاهد معروضة على ناظرها من على مسافة، فلا تعرض لها العلامات والكتل في صورة وجاهية، بل على مبعدة. بل نرى المنظور هذا يتحقق في بعض الأعمال الجديدة، كما في عمل "عرس في البارك"، في صورة ترينا مشهداً شديد السرد، وفيراً بالعلامات الطبيعية، حتى أننا نتبين مواضع المشهد كلها التي يعود إليها عبود بأمانة. أي أنه لا يستعيد المشهد وفق طريقة الكلاسيكيين أو الانطباعيين، أي انطلاقاً من النقطة، بل من الوقفة التي يتناول بها الفنان في عينه الطبيعية هذا المشهد. ولا يستعيدها وفق طريقة التجريديين أو اللاتشبيهيين، أي ينطلق من المشهد الطبيعي، ويتخفف من حمولاته، ويعالجها كما لو أنها مبسوطة للمعالجة تحت ناظريه، ولكن في محترفه. نراه، إذن، يعالجها وفق طريقة مخصوصة، كما لو أنه يقف من نقطة عالية مشرفة على المشهد، أو كأنه -عملياً - يعمل انطلاقاً من صورة فوتوغرافية، ولكنه يبسط موادها وتشكيلاتها أمامه ويعالجها معالجة كيفية، تستعيدها ولكن مثل مواد للمعالجة البصرية والتشكيلية. في المعرض أعمال تعود إلى السنوات الأخيرة، إلا أن فيها معالجات مختلفة للسطح التصويري، ما يعدد مقارباتها ويرينا عبود سائلاً، مجدداً، باحثاً عن حلول مختلفة لما يعرض له فوق مساحة اللوحة، عند معالجتها ومكابدتها. فإذا كانت اللوحة عنده تنطلق غالباً من قصد، من تصميم، من لحظة ضوئية وانفعالية في مشهد، فانها تتعرض في معالجتها إلى أحوال تكاد تنهيها أو تقطع صلاتها تماماً بما انطلقت منه. فالتصوير هو في العمل، في مجرياته، في توليداته الفجائية، في توصلاته، التي للفنان أن يتوقف عندها، أن يرضي بها، أن يستقر عليها على أنها بروز الحالة أو خروجها المقبول إلى العلن. وهو الذي نثيره في أسئلة أخرى عن لوحته: متى تبدأ لوحة عبود، أو متى تنتهي؟ ذلك أننا قد نتبين في غالب الأحوال منطلق اللوحة، أو ترسيمتها الأولى، وهو ما تبقى بعض آثاره في اللوحة "النهائية"، إلا أننا لا نتحقق في حاصل اللوحة المعروضة على ناظرنا من وجهة العمليات التي انقادت إليها وانتهت إليها، طالما أننا نرى عمليات تلوين وتصوير عدة، فوق بعضها بعضاً، ما يعني أن الفنان اختارها أو توقف عندها ثم عمد إلى تعديلها، أو توجيهها وجهة، بل وجهات مختلفة. وهو ما نلقاه غالباً في الطبقات الكثيفة التي تنتهي إلينا بها لوحة عبود، وهي تتخذ في بعض أعماله الجديدة هيئة بل هيئات ما اعتدنا عليها في سابق أعماله: ضربات ريشة عنيفة، مثقلة بمواد التلوين، كما لو أنه يلون ويصور بسكين أو بآلة حادة عريضة تبسط اللون بسطاً كثيفاً ونافراً، بل بارزاً في اللوحة، ما يذكرنا بتجارب حديثة عند بعض الفنانين الذين يعولون على "مادية" اللوحة وحسب في التبليغ التشكيلي. لهذا يستحسن الحديث عن صيغة "نهائية" تنتهي إليها لوحة عبود، لا على أنها مقصد الفنان، بل منتهى أو مؤدى توصلاته التجريبية "المفتوحة" فوق مدى اللوحة، على أن ما يحدد التبديلات هذه قائم في المعاينة والتوليد المستمرين للوحة. وهو ما نلقى بعض تحققاته كذلك في عمليات التنقيط حسب طريقة الانطباعيين "التنقيطية" القديمة المعروفة التي تقوم عليها بعض الأعمال في أحوالها الأخيرة، إذ نجد الفنان "يزيد" على صيغة اللوحة "المستقرة" نقاطاً لونية، لها أن توازن بين عناصر اللوحة أو بين توزعاتها اللونية، لتوفير "ميزانها" العام. لوحة عبود تشبه أو توازي في عمليات صنعها النص الشعري، حيث الشاعر يعين نقطة الانطلاق من مرسى، وقد يقصد وجهة بعينها، وقد يتقيد بها في هذه التقطة أو تلك من مساره، إلا أنه يسافر واقعاً، أو في نهاية المطاف، وفق ما تشتهيه أهواء الكلمات بحمولاتها وإحالاتها وتعلقاتها، إلى درجة أننا نتساءل: من هو ربان السفينة في هذه الحالة؟ وما هي حقيقة السفر؟ ما طبيعته؟ ما هذا الهوى الذي له هيئة جادة على الرغم من لهوه الأكيد؟ وما هذا الانشغال الذي يبدو أقرب إلى "اللعب" مثلما سماه مالارميه، ومثلما يقول لي عبود كذلك، وينتهي إلى أن يكون أشبه بمعمار مبني بإحكام، شديد اللزوم والضرورة؟