ماذا لو كان قارئ هذه السطور مساهماً، من دون ارادته، في تمويل القمع الذي يتعرض له شعب تيمور الشرقية؟ قبل اي استعجال في استهجان السؤال يستحسن توفير عدد من المعطيات. اولا، ان شعب تيمور يتعرض، في الواقع، الى قمع رهيب. لقد صدق، بعد مقاومة دامت سنوات، ان في وسعه التصويت ب"نعم" على الانفصال عن اندونيسيا والاستقلال. غير ان الدبابات جرفت صناديق الاقتراع. انقضت الميليشيات والجيش على المواطنين. احرقت. نهبت. هجّرت. قتلت. ضربت ركائز السلطات المحلية. شلت الاجهزة كلها. طاردت موظفي الاممالمتحدة. انقضت على اندية الاحزاب. فجرت مقرات كنسية. ارغمت الشرطة على اعلان عجزها. غادر ثلث السكان مناطق اقامتهم. وافرغت العاصمة من سكانها. واجمع المراقبون الاجانب على حصول مجازر جماعية. اما زملاؤنا الصحافيون، والذين كانوا اكثر من 500 عند تغطية الاستفتاء، فباتوا اقل من ثلاثين عندما فلت الوضع وهم يحاولون، قدر الامكان، القيام بمهماتهم الصعبة. ثانياً، ان ما حصل ويحصل الآن كان متوقعاً الى حد بعيد. فثمة وسائل اعلام جدية تؤكد ان المخابرات الغربية كانت على اطلاع، منذ شهور، على خطة "اوبيرازي سابو جاغا" وترجمتها "عملية التطهير الكامل". ومؤدى هذه الخطة ان الجيش الاندونيسي اتخذ قراره بتقسيم المستعمرة السابقة، وتصفية الحركة الاستقلالية، و"نقل" عدد كبير من السكان. وشرع تنفيذها في آذار مارس الماضي عندما اشرف على نقل ميليشيات "ايتاراك" التي يمولها وينظمها ويدربها ويسلحها. كما تولى تأمين اسنادها والتنسيق بين فصائلها وساعدها على بدء تصفية قادة المقاومة وكوادرها والقضاء على النخبة الثقافية القليلة العدد اصلاً كانت جاكرتا، في هذا الوقت، تطلق سراح بعض الرموز للتغطية. لا يستطيع مسؤول ان يقول، الآن، اننا لا نعرف ماذا يحصل لأنه، ببساطة، كان يعرف ماذا سيحصل. ثالثاً، ليست ازمة تيمور الشرقية بنت البارحة. فهي مطروحة على جدول الاعمال الدولي منذ 1975 عندما سحبت "ثورة القرنفل" البرتغالية جيش الاحتلال. فلما اعلنت الجمهورية تدخل الجيش الاندونيسي. كانت المقاومة، في البداية، سلمية وذات بعد عسكري. ولكن تصاعد القمع، والاعتقال، والنفي، والاغتيال. غلب الوجه الثاني تدريجياً. والمعروف انه سبق لما يسمى "المجتمع الدولي" ان قام بلفتة نحو تيمور عندما منح اثنين من مناضلي الاستقلال جائزة نوبل في 1996. غير ان عواصم القرار، واشنطن تحديداً، لم تشأ الاعتراف بوجود "مقاتلين من اجل الحرية" في تيمور، ولذا استمر التجاهل وتعاظم الدعم لنظام سوهارتو الذي وصل الى الحكم، اصلاً، في اعقاب مجازر دموية اودت بحياة مئات الآلاف. كان ذلك ايام الحرب الباردة. ولكن شيئاً لم يتغير بعد انتهائها. لقد كان نظام سوهارتو ركناً اساسياً من المنظومة الاستراتيجية الاميركية في تلك المنطقة. ويمكن، لمن تسعفه الذاكرة، ان يستحضر ما جرى مع الثلاثي مادلين اولبرايت، وليام كوهين، صموئيل بيرغر ذات مرة في جامعة اميركية: كانوا يقومون بحملة تعبئة تمهد لعدوان على العراق عندما فاجأهم الحضور بسيل من الاسئلة الاحتجاجية على دعم نظام جاكرتا ضد شعب اندونيسيا وشعب تيمور. رابعاً، كان ان حصلت الازمة المالية الآسيوية واصابت اندونيسيا. كاد الوضع ينهار عندما اتضح جلياً الأثر المرعب للزواج بين عولمة وحشية ونظام ارتزاقي، فاسد، قمعي، عائلي، زبائني. وقيل، وقتذاك، ان ثروة سوهارتو وعائلته وحاشيته تفوق ديون البلد. المهم ان الازمة رمت عشرات الملايين من اصل 206 ملايين هم تعداد السكان تحت خط العوز وأدت الى تفجر صراعات اتنية خطيرة. لقد اضطر الجيش، وهو الممسك الفعلي بزمام السلطة، الى تغيير الواجهة. ذهب سوهارتو وجاء حبيبي. لكن الاندفاعة الديموقراطية فرضت مزيداً من التعديلات، سواء لجهة المطالبة بمحاكمة فساد الطبقة الحاكمة السابقة او لجهة اجراء انتخابات جديدة، او لناحية تعزيز المطاليب الجهوية والاتنية بالحقوق في هذا البلد المتناثر على آلاف الجزر. غير ان المصالح التي رعت الوضع السابق استنفرت لحماية خلفه. وكان عنوان ذلك عشرات بلايين الدولارات 50 بليوناً على اقل تقدير تولى بيل كلينتون جمعها وهو استاذ في هذا المجال عبر صندوق النقد الدولي، وذهبت كلها للدفاع عن استقرار النظام وتعويض كبار الخاسرين. نصل، هنا، الى بيت القصيد. لقد دفعت هذه المبالغ كلها من دون اشتراطات قاسية حول سلوك النظام في تيمور وغيرها. وبما انها اموال تدفعها حكومات ومصارف، وبما انها محسومة من الضرائب والايداعات، وبما انها تعود الى المواطن المكلّف او المودع، وبما ان احداً لم يسأله في اوجه انفاقها، فان النتيجة هي انه يمكن لواحد منا ان يكون، من دون مشورته، داعماً لعمليات القمع في تيمور. لقد حملت مجازر رواندا والبحيرات الكبرى تكذيباً سريعاً لاطروحات ما بعد حرب تحرير الكويت. وتحمل اخبار تيمور تكذيباً لما جرى ترويجه بعد حرب تحرير كوسوفو. وهذا التكذيب قاس لأن المطلوب ليس اكثر من استخدام سلاح القروض من اجل تعديل اسلوب التعامل. هذه عينة عن تصريحات لمسؤولين اميركيين تضيء خطة واشنطن. يقول وزير الدفاع وليام كوهين: "علينا ان نكون انتقائيين في الزج بقواتنا، والظروف المحيطة بهذه الازمة تقول انها ليست منطقة مؤهلة لذلك". تقول وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت: "لقد قلنا مراراً وتكراراً ان الحكومة الاندونيسية هي المسؤولة عن الحل ثم اننا نعمل عبر الاممالمتحدة وبطريقة لم تكن ممكنة في كوسوفو". يقول الناطق باسم الخارجية الاميركية جيمس روبن: "ان العلاقة المنتجة بين اندونيسيا والمجموعة الدولية، بما في ذلك صندوق النقد، رهن بالسلوك البناء الذي تعتمده جاكرتا لانهاء المأساة الانسانية في تيمور الشرقية". ثم يضيف مسرعاً "لكن ذلك لا يعني تجميد اي قرض او مساعدة". يقول الاميركيون، في العادة، كل شيء. هل من يقرأ؟