بعد مرور عقدين، أو 240 شهراً، على توقعيها اتفاق أوسلو (1993)، وإقامة كيان السلطة، مع ما تختزنه هذه التجربة المريرة، من إجحافات وثغرات وتوهّمات، ها هي القيادة الفلسطينية، بقرارها المتعلق باستئناف المفاوضات، تبدو أكثر ميلاً لعقد اتفاق «أوسلو» جديد مع الإسرائيليين، وفق خطة جون كيري وزير الخارجية الأميركي. المشكلة أن هذه القيادة تسير على نفس قواعد «أوسلو»، والتي نجم عنها مخاطر كثيرة، على شعب فلسطين وقضيته وحركته الوطنية، إذ لم تثبت على شرطها المتعلّق بوقف الأنشطة الاستيطانية، وعدم شرعيتها، وبشأن حق الفلسطينيين في القدسالشرقية (على الأقل)، واعتبار قرارات المجتمع الدولي المتعلقة بقضية فلسطين مرجعية تفاوضية. والأنكى أنها تكرّر ذات التجربة بإضفائها طابع السريّة على هذه المفاوضات، ما يجعل التقرير في شأن قضية فلسطين ومصير شعبها بيد بضعة أشخاص، في غرف مغلقة، من دون صلة بالشعب الذي دفع باهظاً، من معاناته وعمره، ثمن نهوض حركته الوطنية، طيلة نصف قرن تقريباً، لا سيما أننا نتحدث عن واقع يفتقد تقاليد المشاركة الشعبية والإجماعات الوطنية ويعاني ضعف الأطر القيادية وتهميش الهيئات الشرعية. فما الذي تخفيه هذه القيادة حقاً؟ ولماذا لا تصارح شعبها بحقيقة ما يجري؟ ولم لا تراجع تجربتها التفاوضية بإخضاعها لحسابات الجدوى السياسية والمكاسب والمخاسر؟ ومن الأساس، فإن هذه القيادة، وهي تخوض معمعة المفاوضات مجدّداً، معنيّة بتقديم إجابات على بعض التساؤلات، في شأن واقع الفلسطينيين قبل عقد اتفاق أوسلو، وقيام كيان السلطة، وبعده. ومثلاً، وبين هذا وذاك، هل قلّ الاحتلال في الضفّة وغزة، أم ازداد رسوخاً؟ هل نقصت مساحة المستوطنات، وقلّ عدد المستوطنين، أم باتت المساحة أكبر، والأعداد أكثر بكثير؟ وهل بات جيش الاحتلال والمستوطنين في الأراضي المحتلة أقلّ أمناً أم أكثر أمناً؟ ثم من جهة الفلسطينيين، فهل بات هؤلاء في الضفة والقطاع، أكثر حرية وأمناً أم أقل؟ وهل باتوا أكثر وأحسن قدرة على مواصلة كفاحهم أم باتوا أكثر تقييداً وأقل قدرة؟ ثم هل أوضاعهم داخل الأرض المحتلة وخارجها أضحت أقل سوءاً أم أكثر؟ أيضاً، هل وضع منظمة التحرير والفصائل أفضل مما كان قبلاً؟ وهل الهوية الوطنية للفلسطينيين باتت أكثر رسوخاً أم أنها تتعرّض للتفكّك والتصدّع؟ وهل مكانة قضيتهم أضحت أفضل عربياً ودولياً بعد قيام السلطة أم أنّها تتعرّض للتبدّد والتآكل؟ وأخيراً، هل بات الفلسطينيون أكثر قدرة على التأثير في الرأي العام الإسرائيلي وإثارة التناقضات بين الإسرائيليين من ذي قبل أم أقل؟ وهل باتوا أكثر قرباً من تحقيق أهدافهم المشروعة، ولو على مستوى الأهداف التي أقرّ لهم بها المجتمع الدولي، أم أكثر بعداً؟ طبعاً، هذه الأسئلة لا علاقة لها برفض أو قبول المفاوضات من حيث المبدأ، وإنما بكيفية فهم هذه المسألة، والتعامل معها، باعتبارها جزءاً من العملية الصراعية، وطريقاً لتحقيق الأهداف الوطنية، لا لتبديدها. فما أهمية المفاوضات، وإقامة السلطة، إذا كان ذلك سيؤدي إلى تفكيك الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل تحقيق هدف الاستقلال الوطني، مثلاً؟ وما أهميتها إذا كانت تنطوي على المخاطرة بقتل معنى القضية الفلسطينية، وتقويض مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني؟ ومن الذي يكون ربح حينئذ، إسرائيل أم الفلسطينيين؟ وحتى لا يكون كلامنا عمومياً لنأخذ كلام صائب عريقات، وهو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وكبير المفاوضين الفلسطينيين، الذي ذكر «تسعة أسباب حدت بالقيادة الفلسطينية استئناف المفاوضات، وهي على حدّ قوله: «أولاً، حصلنا على مرجعية خطّيّة تؤكّد أن مرجعية عملية السلام تتمثّل بتحقيق الدولتين على حدود 1967، مع تبادل أراض متّفق عليه. ثانياً، جدول الأعمال يشمل كافة قضايا الوضع النهائي (القدس، الحدود، المستوطنات، اللاجئين، المياه، الأمن، الأسرى). ثالثاً، نبذ الحلول المرحلية والانتقالية. رابعاً، سقف زمني للمفاوضات قدره 6-9 أشهر. خامساً، الإفراج عن الأسرى الذين اعتقلوا قبل نهاية عام 1994. سادساً، تأكيد الإدارة الأميركية أنها تعتبر الاستيطان غير شرعي، وأنها سوف تعمل على الحدّ من النشاطات الاستيطانية إلى الحد الأقصى. سابعاً، صدور توجّهات (عقابية) من «الاتحاد الأوروبي»، في شأن الاستيطان الإسرائيلي. ثامناً، دعم الدول العربية بالإجماع لاستئناف المفاوضات. تاسعاً، دعم دول العالم لاستئناف المفاوضات... وعدتنا دول كثيرة... أنه في حالة رفض إسرائيل، خلال فترة 6-9 أشهر، تحقيق مبدأ الدولتين على حدود 1967، فإنها سوف تبادر إلى الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 بعاصمتها القدسالشرقية، وسوف تؤيد انضمامنا إلى المؤسسات والمواثيق والمعاهدات الدولية، وأنها سوف تتعامل مع المستوطنات... وفقاً للقانون الدولي، وعلى اعتبارها غير شرعية». («الأيام»، 5/9) واضح أن لا شيء حقيقي، أو ملموس، في كل ما ذكر، فإسرائيل ما زالت تتمسك بشروطها وبإملاءاتها، وبرؤيتها الخاصة لعملية التسوية مع الفلسطينيين، فالبند الأول، وهو ليس وعداً إسرائيلياً حتى، يعطي الفلسطينيين مجرد كلام في شأن حقهم بإقامة دولتهم في الضفة والقطاع ولكنه يتلاعب بذلك في الحديث عن تبادل الأراضي، الذي وافقت عليه القيادة الفلسطينية سلفاً، بغطاء عربي، تمثل بموقف «لجنة المتابعة العربية للسلام»، التي أعطت موافقتها على ذلك لكيري في واشنطن (أواخر أبريل الماضي). أما البنود الأخرى، فهي إما مجرّد قضايا إجرائية، أو ليس لها أهمية تفاوضية، كونها غير ملزمة، ولا معنى سياسي لها، بدليل مواصلة إسرائيل لأنشطتها الاستيطانية؛ فقط قضية تحرير الأسرى، الذين كان ينبغي أن تطلقهم إسرائيل منذ زمن، هي القضية الملموسة هنا. هكذا، ليس في الواقع ما يثبت أن إسرائيل ستتخلى عن نهجها في فرض الأمر الواقع، فلا موازين القوى تغيرت، ولا الإسرائيليين باتوا أكثر ميلاً للتسوية مع الفلسطينيين، عن طيبة خاطر. أيضاً، ليس ثمة في الوضع الدولي ما يفيد بالضغط على إسرائيل، أكثر من السابق، أما الوضع الفلسطيني والعربي فهو غير ملائم البتة لتسوية جديدة، تكون أكثر إنصافاً للفلسطينيين، وأكثر عدلاً بالنسبة لحقوقهم. وعلى الأرجح فإن القيادة الفلسطينية باستمرائها واقعها كسلطة، على حساب كونها قيادة حركة تحرّر وطني، ومع ارتهانها لعملية التسوية، وعدم بحثها عن خيارات أخرى أو موازية، واعتماديتها على الدول المانحة، وفي ظل غياب المشاركة الشعبية، وضعف الإطارات الشرعية والمؤسّسية، ما عاد يهمها سوى تعزيز مكانة كيانها السياسي في الضفة والقطاع، حتى ولو كان على حساب قضية فلسطين، ووحدة شعبها. وتفيد التسريبات، المتعلقة بالخطوط التفاوضية المتداولة، أن التركيز يجري في هذه المرحلة على قضايا الحدود والترتيبات الأمنية وتحسين الأوضاع الاقتصادية لفلسطينيي الأرض المحتلة، مع تأجيل قضيتي اللاجئين والقدس، في حال لم يتم التوافق بشأنهما؛ علماً أن القيادة الفلسطينية قبلت مقترحات كلينتون (طابا 2001)، وبحل متوافق عليه لقضية اللاجئين وفق «المبادرة العربية»، وباقتراح وجود إدارة دولية للقدس. أما في شأن القضايا الثلاث المطروحة، فقد بات واضحاً أن إسرائيل رسّمت الحدود كأمر واقع، بالمستوطنات والجدار العازل، وأن الخلاف حول الحدود بات يدور على حجم الأراضي التي سيتم تبادلها، كماً ونوعاً، ففي حين تطمح إسرائيل إلى ضم مناطق أوسع، فإن القيادة الفلسطينية تتحدث عن مساحة أقل، علماً أن أي توافق سيحسم معه قضيتي الاستيطان وموارد المياه. وقد يمكن القول هنا أن أي مساحة تنسحب منها إسرائيل، أو يتم تبادلها، هي أراض فلسطينية أصلاً، فإسرائيل تنسحب «من أرضي إلى أرضي» (بحسب قول محمود درويش)، لكن الأمر هنا يتعلق بالحسابات الإسرائيلية لهذا الموضوع، ومعناه في الصراعات السياسية والتفاوضية. وفي ما يخصّ الترتيبات الأمنية ففي حيت تصرّ إسرائيل على وجود عسكري لها في مرتفعات الضفة وفي غور الأردن، فإن السلطة لا تمانع وجود قوات من طرف ثالث (الأممالمتحدة أو الناتو مثلاً). أما مشاريع الإنعاش الاقتصادي وتحسين الأوضاع المعيشية فتعتمد على دعم الدول المانحة، وضمنه دعم الدول النفطية الخليجية. لكن الأكثر إثارة في هذه المفاوضات يتعلق بمشاركة الأردن في قضايا اللاجئين والقدس والحدود، وهذه من الزاويتين الفلسطينية والعربية ربما لا مشكلة مبدئية فيها، لا مع «كونفيديرالية» ولا مع «فيديرالية»، إذ المشكلة هنا تكمن في معنى ذلك من جهة إسرائيل، مع معرفتنا بجهدها للالتفاف على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وثمة جانب آخر لا يقلّ إثارة ويتعلق بتضمين هذه التسوية بعداً عربياً يشمل التغطية على اتفاق أوسلو جديد، وإعلان إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. طبعاً، ثمة وعد من القيادة الفلسطينية بأن أي اتفاق جديد سيطرح على الاستفتاء، كي يقرّر الفلسطينيون (في الضفة وغزة)، وبمعزل عن مجتمعات اللاجئين، ما يريدون. لكن المشكلة أن ذلك سيجري من دون صلة بأحوال الفلسطينيين الرثة، في الداخل والخارج، وحال الإحباط التي وصلوا أو أوصلوا إليها، وضمنه بسبب غياب قيادة تبقى الأمل مشتعلاً في قلوبهم، ما قد يدفعهم للقبول ربما بأي شيء، بخاصة أننا شهدنا هذه الأيام أنهم يخاطرون بأرواحهم، لعبور البحر، للخلاص أو للبحث عن أمل آخر في مكان آخر. * كاتب فلسطيني