حسب بعض المراقبين في منطقة القرن الافريقي، فإن احتمالات اجواء اللاحرب واللاسلم بين اثيوبيا واريتريا واردة، رغم ان وسطاء دوليين يعكفون في الجزائر على وثيقة تحدد الترتيبات الفنية اللازمة لإنهاء النزاع الحدودي بين البلدين سلماً بعد ان قبل الطرفان بمبادرة منظمة الوحدة الافريقية، كإطار لفض الاشتباك بينهما. ويقول هؤلاء المراقبون ان النزاع أصبح مسألة نفسية أكثر منها سياسية. وباستقراء متمهل لملف الحرب الحدودية بين اثيوبيا واريتريا، يمكن وضع الأصبع على الجرح بسهولة. صحيح ان القتال قد اندلع في السادس من شهر ايار مايو 1998، لكن أجواء الحرب سبقت ذلك بكثير عندما اتضح ان الشأن الاقتصادي هو المشكل الحقيقي بين الجارتين، وقد تمثل ذلك في إصدار اريتريا عملتها المنفصلة النقفة وما تبعه من اشكالات في تجارة الحدود وفي التعامل التجاري عموماً، وفي ميناء عصب خصوصاً. فمنطقة مثلث بادمي الحدودية كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد اندلعت الحرب بخلفية معينة لدى كل من أسمرة وأديس أبابا: فالرئيس الاريتري اسياس أفورقي وصل الى قناعة خاصة به، وهي ان الحلفاء القدامى خانوا العهد، بينما رئيس الوزراء الاثيوبي، ملس زيناوي، وصل هو الآخر الى قناعته بأن أفورقي شخصياً قد سدد له طعنة من الخلف. اما الذين يراهنون على أن الحرب بين البلدين ستستمر طويلاً فيقوم رهانهم على فرضية ان هوة عدم الثقة بين أصدقاء الأمس وحلفاء أول من أمس، صارت عميقة ومن الصعب تجاوزها في زمن قصير. وأما الأمر الثاني والأهم، فهو ان الحرب اندلعت وفق حسابات خاطئة من الجانبين. فالرئيس الاريتري كان واثقاً من أن جيرانه ليست لديهم المقدرة الحربية على القتال من منطلق العارف بالبئر وغطائها. وفي الوقت ذاته اعتمد الاثيوبيون على كثرتهم العددية ستين مليوناً مقارنة بثلاثة ملايين، وهو ما كشفت عنه خطتهم الحربية خلال القتال والقائمة على اطلاق الأمواج البشرية في وجه العدو! واعتماداً على هذه الذهنية، فإن الاثيوبيين، في ما يبدو، يدركون ان جارهم يعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية تتفاقم كل يوم، وبالتالي فإن القضاء على نظام "الجبهة الشعبية" رهين باستخدام سياسة النفس الطويل في الحرب معه. وبمنطق مشابه، فإن الرئيس الاريتري يعتقد ان ما يطلق عليه "نظام جبهة تغراي" معزول، وان الاثنيات والقبليات الاثيوبية الأخرى ستتفرج عليه وهو يحارب، وبالتالي ستترك قواته وحيدة في الميدان. لكن هذه الرؤية وضح خطؤها، لأن القبائل المذكورة، خاصة الأمهرا والأرومو، لم تكن في الأساس راضية عن منح اريتريا الاستقلال أو الانفصال، ولذلك فقد أراحها فتح النيران على النظام الاريتري، وربما دعمته على أمل عودة اريتريا في النهاية الى الحظيرة الاثيوبية أو على الأقل قيام نظام فيها موال لأديس أبابا! لكن على غير ما يعتقد الكثيرون من ان مبادرة منظمة الوحدة الافريقية لإنهاء النزاع التي تجد مساندة عالمية واضحة، إضافة الى الضغوط الخارجية، هي سبب صمت المدافع، يقول الواقع ان ما يشبه الهدنة أو وقف اطلاق النار قد فرض نفسه بسبب الأحوال الجوية في موسم الأمطار. فهي إذن هدنة امر واقع غير إرادية، لكن من الإنصاف ان نضيف ان الحالة الجوية صحبتها أجواء سياسية مساعدة ايضاً. فمبادرة منظمة الوحدة الافريقية الاساسية التي قبلتها اثيوبيا، وطلبت اريتريا ايضاحات حولها ثم قبلتها في الساعة الحادية عشر، اضافت اليها قمة الجزائر في تموز يوليو 1999 دفعة تمثلت في ما سمي بالترتيبات المتعلقة بالمبادرة. وقد قبلتها اريتريا في حينها وأحالتها اثيوبيا الى مؤسساتها الدستورية التي وافقت عليها فيما بعد، وكانت تلك ضربة ديبلوماسية اثيوبية للتدليل على ان القرار في اسمرا في يد فرد، فيما هو في اثيوبيا عند المؤسسات الديموقراطية وليس لدى رئيس الوزراء المنتخب شعبياً! فالمبادرة الافريقية والترتيبات المتعلقة بها تضمنت التزام الطرفين عدم تصعيد العداء بينهما، والامتناع عن أي فعل أو تصريح يؤدي الى تعقيد المشكل، أو الإضرار بمبادرة التوصل الى حل سلمي له. فهل لمبادرة افريقيا فرص نجاح؟ بعيداً عن النوايا السياسية والتفسيرات أو حتى الارهاصات بها، يمكن القول ان الشارع السياسي في كل من اثيوبيا واريتريا، بعدما كان متحمساً للحرب، عاد بعد زهاء الخمسة عشر شهراً ليتخلى عن التشدد والحماسة لطبول الحرب... فلا أحد يمكن ان ينكر ان عدد الضحايا من الجانبين خرافي وأن حجم الدمار لا يصدق بالنسبة الى الجانبين. ومن هذا المنطق يمكن النظر بإيجابية وتفاؤل الى المبادرة الافريقية التي يمكن وصفها بأنها اعطت المنظمة القارية الافريقية مصداقية، خاصة بعد ان أيدتها جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا واميرك ا. فالأخيرة أعلن رئيسها، بيل كلينتون، مساندة بلاده اللامحدودة لمبادرة منظمة الوحدة الافريقية، بل صرح أنطوني ليك، المبعوث الاميركي للتوسط في النزاع الاثيوبي - الاريتري وهو مستشار سابق للأمن القومي، بأنه زار المنطقة سبع مرات حتى الآن في محاولة لإيجاد حل. ولهذا لم يستغرب احد ان يضم الفريق الفني الذي تقوده منظمة الوحدة في العاصمة الجزائر، الولاياتالمتحدة والامم المتحدة، وهو الفريق المكلف اعداد وثيقة لا تترك شاردة ولا واردة حول الترتيبات الفنية المتعلقة بأدق الجزئيات مثل وقف الحملات العدائية ثم وقف اطلاق النار، وترسيم الحدود ونشر المراقبين، بما في ذلك الجدول الزمني والجهات المنوط بها التنفيذ، ومن أين تأتي وكيف. فهي، بالتالي، عملية أساسية ومعقدة لأنها تشتمل على العنصر البشري، والمالي ايضاً، والعملي... وعندما سئل المتحدث الرسمي باسم منظمة الوحدة عن المدى الزمني الذي تستغرقه أعمال الفريق الفني، اكتفى برد موجز، هو أن لا أحد يعلم. لكن المنظمة القارية ترغب حقاً في تنفيذ مبادرتها بأقصى سرعة ممكنة! وربما تواترت أخبار في وكالات الأنباء العالمية عن اجتماع بين ممثلين لاثيوبيا واريتريا في الجزائر لبحث التفاصيل الفنية للمبادرة الافريقية. ومع ان أحدا لا يعلم من أين جاءت هذه الانباء، اعتبرها الاثيوبيون "مناورة" استخدمتها اريتريا للتشكيك في صدق النوايا الاثيوبية. وفي نهاية المطاف تدخلت المنظمة القارية لتعلن من خلال مؤتمر صحافي في الثاني من آب اغسطس الجاري، ان ما يجري في الجزائر هو اجتماع خبراء يضم منظمة الوحدة والامم المتحدةوالولاياتالمتحدة لتقديم الخطوات العملية التي يمكن ان تؤدي الى اطار اتفاق ينتظر ان يوافق عليه الطرفان المتقاتلان، بعد ان يرفع لهما عن طريق مبعوث شخصي للرئيس الحالي لمنظمة الوحدة، رئيس الجزائر، عبدالعزيز بوتفليقة، مصحوباً بممثل للأمين العام للمنظمة الافريقية. وبعد المشاورات التي تتم عندها ينتظر ان يتوجه وفدان من البلدين الى الجزائر لإتمام الاجراءات المتعلقة ببنود اطار الاتفاق بما في ذلك شروط وقف اطلاق النار، والانسحاب ونشر المراقبين، وترسيم الحدود. فهل تصل مبادرة المنظمة القارية الى منتهاها؟ وهل يتفق الطرفان على تفاصيل التفاصيل، أم يعمد أحدهما أو كلاهما الى عرقلة الاتفاق، وتكريس الاقتتال؟ ثم هل نلجأ في النهاية الى اعادة التساؤلات التي طرحناها في بداية هذا التحليل، وتبقى الكرة في ملعب الرئيس الجزائري بوتفليقة!