في نهاية الثمانينات نظمت "جمعية اوكسفورد العربية"، التي ضمت عدداً من الأكاديميين والباحثين المعنتين بالقضايا العربية والمقيمين في بريطانيا، سلسلة من المحاضرات والندوات حول الديموقراطية في المنطقة العربية. وفي هذا الإطار، وجهت الجمعية دعوة إلى أحد مفكري المغرب، من ذوي المكانة العربية والدولية المرموقة، لكي يتحدث عن موقف الليبراليين العرب من الديموقراطية، فألقى محاضرة حول هذا الموضوع استهلها بقوله: "لست أعرف من هم الليبراليون العرب، وبالتالي لا أعرف كيف يفكرون وما هو موقفهم من الديموقراطية، بيد أنني سأحاول عرض ما أتصوره موقفاً ليبرالياً عربياً من هذه المسألة". بدت هذه المقدمة وكأنها حكم قاس على الليبرالية العربية، ولكن المقصود منها كان تنبيه الأذهان إلى محدودية الدور الفكري والسياسي لهذا التيار في المنطقة، خصوصاً إذا ما قورن بالأدوار التي اضطلعت بها تيارات أخرى دينية وقومية ويسارية. وعلى رغم أنه مضت قرابة عشر سنوات على ذلك التقييم، ورغم أن هذه السنوات شهدت تحولات كبرى منها نهاية الاتحاد السوفياتي وانتشار النظم الديموقراطية في أكثر دول العالم، والأخذ بالمبادئ الليبرالية في العديد منها، على رغم ذلك، يمكن القول إن الليبرالية ما تزال ضعيفة في المنطقة، وانه لا توجد في دولها ومجتمعاتها جماعات ليبرالية نشيطة وفعالة، كما هو الأمر في مجتمعات أخرى من العالم الثالث والدول النامية. هذا القول لا ينطبق على الأنظمة المطلقة فحسب، بل أنه يصح أيضاً على دول عربية تمر في مرحلة تحولات ديموقراطية ملموسة. ففي المغرب، مثلاً، ظهر حزب "التجمع الوطني للأحرار"، وضمن الحزب برامجه بعض المبادئ الليبرالية، ولكن قادة الحزب يتجنبون اقرانه بالليبرالية، ورئيسه يصفه بأنه حزب "الوسط اليساري". وفي الأردن، على رغم وجود أحزاب وجماعات سياسية تمثل أغلب الأطياف العقائدية والنزعات الفكرية، إلا أنه لا توجد بينها أحزاب أو جماعات ليبرالية مؤثرة. هذا ما تعكسه، على سبيل المثال، الدراسة القيمة التي أعدها الباحث الدكتور محمد العجلاني حول "التجربة الديموقراطية في الأردن". فالباحث يستعرض المساهمات الانتخابية والخطاب السياسي للمحافظين والقوميين والإسلاميين واليساريين، ولكنه لا يجد في الواقع السياسي الأردني ما يدعوه إلى التوقف عند الليبراليين الأردنيين. وشهدت مصر ظهور أحزاب ليبرالية فعالة ومؤثرة في النصف الأول من القرن الحالي، إلا أن هذه الظاهرة تراجعت بصورة ملحوظة في النصف الأخير منه. وفي لبنان حيث اعتنقت النخبة الحاكمة لزمن طويل مفاهيم ليبرالية سياسية واقتصادية، لا توجد فيه جماعات سياسية منظمة ومؤثرة تتبنى هذه المفاهيم وتعمل على تحويلها إلى برامج ومشاريع تستقطب اهتمام قطاعات واسعة من المواطنين. الحذر الشائع في الأوساط السياسية العربية تجاه الليبرالية يظهر بصورة أخرى عندما نجد أنه بتأثير التطورات العالمية، اتجهت فئات كثيرة في المنطقة إلى تبني بعض الأفكار والقيم الليبرالية في خطابها السياسي، بينما هي، في نفس الوقت، تحمل على الليبرالية مصورة إياها بأنها غطاء ايديولوجي للتسلط الأجنبي أو الطبقي، أو أنها تروج للانحلال الخلقي. إن جماعات سياسية عربية متعددة تشارك الليبراليين في البلدان الأخرى حذرهم التاريخي من الدولة، وتشدد على الحرية في مجابهة السلطة، وإلى علمنة السياسة، وإلى التأكيد على الحكم الدستوري ومبادئ القانون التي تحد من طغيان الدولة على المجتمع وتحمي حرية المواطنين من التحديات والضغوطات السياسية. إلا أن هذه الجماعات، إذ تأخذ بهذه الأفكار، تتبرأ من الليبرالية، بل وتشارك في التنديد بها وتنفير المواطنين منها. الاستثناء البارز لهذا الواقع هو في الكويت، حيث توجد كتلة برلمانية فعالة ليبرالية الطابع والتوجه. اعضاء هذه الكتلة لا يسمونها كتلة ليبرالية ولا ينسبون لأنفسهم هذه الصفة، ولربما فضلوا أن يركز على الطابع الديموقراطي لتكتلهم، غير أنهم عندما تطلق الأوساط الاعلامية والسياسية العربية عليهم صفة الليبراليين لا يسعون إلى التبرؤ من هذه الصفة ولا يجدون فيها ما يخالف قناعاتهم ومواقفهم. وإذا كان الليبراليون يتميزون بمقدار الأهمية التي ينفونها، كما يقول هوبهارس، على حرية التعبير، وعلى اصطراع الآراء وعلى الحوار والنقد العلني، فإن النواب الكويتيين الليبراليين لم يقصروا في هذا المضمار، بل أن أحد رموزهم البارزة، النائب عبدالله النيباري، كاد أن يدفع حياته ثمناً لتمسكه بحقه في النقد وفي المكاشفة العلنية. الكتلة البرلمانية الكويتية "الليبرالية" تواجه مسؤوليات كثيرة في بلدها، ولكنها تستطيع الاضطلاع بدور مفيد خارج الكويت وفي الإطار العربي إذا مدت يدها إلى النواب العرب الآخرين الذين يشاطرونها الآراء والأفكار نفسها وذلك بهدف تنشيط الحياة البرلمانية العربية وتصحيح بعض النظرات الخاطئة السائدة في المنطقة. من هذه النظرات ما هو متعلق بالليبرالية تحديداً. إن الليبرالية نشأت في المجتمعات الغربية، إلا أن هذا لا يعني أنها مسؤولة عن سياسات الغرب الخاطئة تجاه العرب، أو تجاه الشعوب الأخرى. صحيح ان بعض الليبراليين كانوا مسؤولين عن هذه السياسات، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك أوساط ليبرالية غربية ضدها. فازاء سياسة الزعيم البريطاني غلادستون الليبرالية الاستعمارية في مصر عام 1844، ظهرت انتقادات واسعة في أوساط ليبرالية بريطانية كان من بينها ما نشرته آنذاك صحيفة "سبكتاتور" التي قالت متهكمة: "كلما فكرنا في الانسحاب من مصر، يتدخل القدر، أو المشيئة العليا، أو الأحداث الطارئة لكي تدعونا إلى البقاء". وإلى جانب السياسات الاستعمارية والمعادية للمصالح العربية التي اتبعتها قيادات ليبرالية غربية عديدة، نجد ان قيادات أخرى اتبعت مواقف انطوت على مقدار معقول من الانصاف تجاه العرب، كما هو الأمر مع ليبراليي الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدة آيزنهاور وروكفلر والليبراليين الأوروبيين الذين مثلهم تيار منديس فرانس وجيسكار ديستان في فرنسا، وهانس ديتريش غينشر في المانيا، وحزب الأحرار البريطاني الذي كان أول حزب بريطاني يتعرض إلى انشقاق داخلي بسبب الموقف من القضية الفلسطينية، ويعلن خلاله شباب الحزب تأييدهم الصريح للوطنية الفلسطينية. أما سجل الليبرالية في البلدان العربية، فإنه هو الآخر في حاجة إلى مراجعة نزيهة وشاملة. سجل الليبرالية العربية لن يكون خالياً من الأخطاء أو ربما من الخطايا. من ناحية أخرى، سيجد من يراجع هذا السجل أنه يحوي صفحات مضيئة تحكي قصص نضالات مشرفة ضد الهيمنة الأجنبية والتسلط والاستبداد المحليين والتخلف والتحجر. ومن المرجح ان تنتهي هذه المراجعات إلى الاستنتاجات الآتية: أولاً، ان الليبرالية ليست عدوة الوطنية، ولا هي غريبة عن فكرة الخصوصية القومية. هناك بالفعل، أحزاب وجماعات ليبرالية في الغرب وغير الغرب تتبنى مشاريع الهيمنة على الشعوب الأخرى، والتسلط على النظام الدولي، ولكن الانانية القومية لا الليبرالية هي التي كيفت مواقف وأفكار هذه الأحزاب والجماعات. وهناك جماعات أو افراد عرب يقرنون تبني الليبرالية بمظاهرة الغرب ودعم مشاريعه وخططه في المنطقة حتى ولو على حساب مصالح شعوبها وتطلعاتها الإنسانية المشروعة. هذا التزاوج محكوم بمزاج أصحابه الذهني وخياراتهم السياسية، وليس بمقتضيات الفكر الليبرالي. ثانياً، انه بالمقارنة مع سجلات العقائد ومنظومات الأفكار والتيارات السياسية الأخرى في المنطقة، فإنه لليبرالية أن تحتل حيزاً أكبر في السياسة العربية، وان يكون لمؤيديها ولمعتنقي مبادئها مكانة ارسخ وتأثيراً أبعد في الحياة العامة في المنطقة. في إطار هذه المقارنة ينبغي التوضيح ان الديموقراطية التي يدعو إليها الجميع لا تحتم ان يكون المرء ليبرالياً. إن المرء قد يكون ديموقراطياً واشتراكياً أو قومياً أو دينياً، ولكن من الصعب ان لم يكن من المستحيل أن يكون المرء ديموقراطياً وأن يكون معادياً لليبرالية، كما هو الأمر عند بعض الجماعات السياسية العربية. "الليبراليون" الكويتيون يواجهون تحديات كثيرة في بلدهم تجعلهم يترددون في الاهتمام بما هو خارجه. ولكن بعض هذه التحديات ناشئ عن فهم خاطئ في المنطقة للأفكار التي يحملونها. المساهمة في تصحيح هذه القناعات والنظرات تعزز مكانتهم في الكويت، كما تعتبر مساهمة في تصحيح الفضاء السياسي والفكري العربي بحيث تتحول الليبرالية فيه من تهمة إلى تيار فكري وسياسي يتنافس على قدر المساواة مع التيارات الأخرى في المنطقة. * كاتب وباحث لبناني.