انتهى مؤتمر قمة ميثاق استقرار منطقة البلقان، بعد اجتماعات وخطب وتصريحات اقليمية ودولية على مدى يومين 29 و30 تموز/ يوليو الماضي، ومتابعة من حوالى الفي صحافي غالبيتهم من الغربيين الذين ركّزت وسائل اتصالاتهم على ان المؤتمر "استهدف وضع الخطوط العريضة لخطة طموحة تسعى الى دمج المنطقة بأوروبا المتطورة" وان مسائل احترام حقوق الانسان والسيادة الوطنية والمؤسسات الديموقراطية "تشكل المطالب الرئيسية للاسرة الدولية من دول البلقان". وبدت التناقضات جلية في تركيبة هذه القمة، اذ ان طرفها المحلي تكوّن من ثلاثة فصائل، احدها شمل المجر وسلوفينيا وكرواتيا، وهي التي "اضطرت" الى حضور المؤتمر بسبب الضغوط عليها، على رغم تأكيدها بأنها ليست، سواء جغرافياً وتاريخياً او تطوراً، من جنوب شرق اوروبا، وكما لمحت بعض مصادرها دينياً باعتبارها كاثوليكية ايضاً، وهي بذلك تمثل استكمالاً لوسط اوروبا حيث جارتها النمسا. ووصل الامر بالدول الثلاث ان اعلنت المجر امتعاضها من الخريطة الاوروبية الجديدة التي وضعت المجر فيها قسراً، بينما ابلغ الرئيس السلوفيني ميلان كوتشان نظيره الاميركي بيل كلينتون بان بلاده تخشى من ان تؤدي الترتيبات الجارية في البلقان الى "اعادة ربط بلاده بعجلة المنطقة". وشدد الرئيس الكرواتي فرانيو توجمان على ان بلاده "ستبقى بعيدة عن التنظيمات السياسية والامنية او الاقتصادية التي يتم انشاؤها في البلقان". أما الفصيل الآخر، تكوّن من البوسنة والبانيا ومقدونيا وبلغاريا ورومانيا، وهي دول يهمها "اشباع بطون سكانها"، ودفعت من اجل ذلك كثيراً من مقومات سيادتها من دون ان تحصل على ما وُعدت به، وهي مستعدة لعرض ما تبقى لها اذا لاح لشعوبها الثمن. وعشية المؤتمر اجتمع وزراء خارجية ومالية بلغاريا ومقدونيا والبانيا على اساس ان بلدانهم هي الاكثر تضرراً في احداث كوسوفو، وأعدوا قائمة سمّوها "الاستراتيجية المشتركة" بما يسعون اليه، تضمنت جزءاً من حاجتها الى مساعدات بمئات الملايين من الدولارات الاميركية للتنمية ومتطلبات اعادة تأهيل البنية التحتية فيها وتشجيع اقتصادهم، اضافة الى رغبة بلادهم بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي والحلف الاطلسي، وكان الجواب الذي تلقوه "المساعدات تخص مجالاً آخر غير هذا المؤتمر واما الانضمام الى المؤسسات الاوروبية فانه حق لكم ولكن على المدى البعيد". والفصيل الثالث، ظهر في توجيه دعوة الى تركيا التي يقع 97 في المئة من اراضيها في آسيا، وهي في المعايير الغربية جزء من اوروبا سواء بانتمائها الى الحلف الاطلسي والرضا الاميركي عن نظامها او باقتصادها الكبير، وهو ما أثار تساؤلات في اروقة المؤتمر. ويذكر ان اليونان، التي تقع كل اراضيها في جنوب شرق اوروبا لم تحضر المؤتمر "لانها واقعياً تجاوزت وضع منطقة البلقان واصبحت اوروبية مئة في المئة". تطويق صربيا فسر مراقبون تجميع هذا "الخليط غير المتجانس" بأنه كان ضرورياً عند الاخذ في الاعتبار الغاية الاساسية من عقد القمة وهي "عزل صربيا وتحذير جيرانها من مغبة التخفيف من الخناق الاميركي المقرر عليها، لان استقرار منطقة البلقان واعادتها الى جادة الصواب في اوروبا رهن برحيل ميلوشيفيتش عن السلطة". وينسجم هذا الاجراء مع ترتيبات "النظام العالمي الجديد" الذي اعتمد إحداث بؤر مغضوب عليها متناثرة في مناطق الكرة الارضية، في اعتبارها الوسيلة التي يمكن استغلالها بسهولة للتحكم بمقدرات المناطق وتهديد الذي يسعى الى "التمرد" على الطاعة، والتدخل الذي ترتأيه الادارة الاميركية فيها كلما وجدت مصالحها تتطلب ذلك. ويبدو هذا الموقف جلياً في تعقيب مبعوث الاممالمتحدة الى البوسنة الاميركي جاك كلان بأنه "اذا ظل ميلوشيفيتش باقياً، فسيكون لدينا دب جريح في البلقان ليس لديه ما يخسره، سيمتلئ حقداً ويتسبّب في كمّ هائل من الاضرار". وعلى رغم متطلبات "محاملة" الادارة الاميركية لنيل رضاها من اجل الحفاظ على "الوظائف" فان اصواتاً ظهرت الى العلن، مشيرة الى خطورة ما يُفرض في البلقان، بينها مبعوث الاممالمتحدة الى المنطقة السويدي كارل بيلت الذي أفاد بأن "استمرار بقاء الصرب من دون اصلاحات اقتصادية وسياسية، سيمثل عقبة كأداء امام الاستقرار في المنطقة". ووصف غياب صربيا عن الخطة بأنه "مشكلة رئيسية". واضاف: "من الصعوبة بمكان الحديث عن جمع شمل المنطقة وتوحيدها مع اوروبا، اذا كانت الدولة المحورية من حيث الموقع الجغرافي والقوة الاقتصادية خارج العملية". وأكد على ان مسؤولية التخلص من ميلوشيفيتش "تقع على عاتق الصرب انفسهم". الى ذلك قال المنسق السابق لعملية السلام في البوسنة الاسباني كارلوس ويستندورب: "اود الاعتقاد بأنه في طريقه للزوال، الا انني اعرف ميلوشيفيتش جيداً واظن انه سيخرج سالماً". ويرى مراقبون انه كان من الافضل تمثيل بلغراد في المؤتمر من خلال رئيس الوزراء الاتحادي مومير بولاتوفيتش وهو من الجبل الاسود وغير متهم بجرائم حرب لأن ذلك كان يجعل يوغوسلافيا ملتزمة واقعياً بالمؤتمر من خلال مشاركتها فيه، اذ انها الآن غير معنية بما جرى، ومن الصعب فرض امور عليها ليست طرفاً فيها، كما ان ارغام دول المنطقة على مقاطعتها لا يمكن تنفيذه حتى في ابسط المجالات، وهو ما حصل أثناء الحصار على يوغوسلافيا خلال الحرب البوسنية. وحتى ثناء الضربات الجوية الاطلسية واضطرار الحكومات على الرضوخ للمطالب الاميركية منها، فان الاستياء الشعبي كان شديداً، ولا تزال عبارات "ناتو = النازية" تشاهد في انحاء العاصمتين المقدونية سكوبيا والبلغارية صوفيا. وعلى رغم عدم اقرار مؤتمر ساراييفو أية مساعدات مؤكدة لدول البلقان حذر مستشار السياسة الخارجية الالمانية مايكل شتاينر من ان عملية تنظيم المعونات والاعمار في البلقان معرضة للوقوع في حال من الفوضى "بسبب الافتقار الى التعاون بين الجهات المعنية". وقال: "ان خبرتنا في مجال تقديم المساعدات للبوسنة علّمتنا ان 90 في المئة من الطاقة استنفدت في تنسيق المنسقين". ويأتي هذا التقويم في وقت ذكرت مصادر غربية، ان حجم الاقتصاد البوسني "لا يزال بحدود ثلث قدرته قبل الحرب ويعاني 60 في المئة من القوى العاملة من البطالة". واشار مراقبون الى ان سبب هذا الوضع يعود الى ما يمنح للبوسنة من اموال يتصف بالشحة قياساً بحاجاتها، وهو لذلك يذوب في امور غير اصلاحية للوضع الاقتصادي او اعمار البلاد، لان المبالغ التي تقرر تكاد تسدّ متطلبات آلاف الموظفين الدوليين الذين يتقاضون رواتب سنوية تتراوح بين 120 الفاً و500 الف دولار اميركي اضافة الى مصاريف الاقامة والسفر والمخصصات الاخرى، كما ان محكمة جرائم الحرب في لاهاي تستهلك سنوياً ما لا يقل عن 40 مليون دولار "في بذخ على حساب المحتاجين جراء دمار الحرب" وما يتبقى بعد كل ذلك، فانه يسلّم الى الكيانين البوسنيين الاتحاد الفيديرالي المسلم - الكرواتي والصربي لدفع رواتب محلية. النظرة الاميركية وحسب رأي الرئيس الاميركي خلال القمة، اصبح كل شيء على ما يرام في البلقان "بفضل الجهود الاميركية". وقال: "انه من المهم ان نتذكر، كيف تم تحقيق التقدم في البوسنة. ان حقيقة قدرة البلاد على استضافة هذه القمة دليل على قدرة الحكومة المشتركة على العمل سوياً". العارفون بأوضاع البوسنة يجدون في هذا التصريح مبالغات. فالبوسنة لا تزال في اشد حالات الانقسام العرقي وان ما يعمل من المؤسسات المشتركة يتم قسراً بضغوط المسؤولين الدوليين العسكريين والمدنيين، ولا يزال اكثر من 750 الف بوشناقي مسلم، يشكلون نحو 38 في المئة من مجموع مسلمي البوسنة حسب الاحصاء الرسمي العام 1991 نزحوا الى خارج البوسنة - الهرسك خلال الحرب غير قادرين على العودة الى بلادهم بسبب استمرار تردي الاوضاع الاقتصادية والامنية فيها. وحتى مؤتمر الاستقرار تطلب استنفار 20 ألف شرطي محلي و30 ألف جندي اطلسي لحمايته، وتم منع السكان من استخدام عرباتهم للتنقل او فتح ابواب منازلهم وشبابيكها والوقوف في شرفاتها خلال انعقاده، وفي وقت تتفق الآراء بأن اتفاق دايتون الاميركي اوقف الحرب بالقوة العسكرية ولم يحقق السلام، وان القتال سيعود دموياً - حسب المؤشرات الراهنة - اذا انسحبت القوات الاطلسية من البوسنة. اسئلة بلقانية وصفت وسائل الاعلام في البلقان المؤتمر بأنه ظهر "سخياً في عرض المبادئ، الا انه لم يحدد التفاصيل المهمة" وهو ما فسر بأنه "ترك الخيوط كلها بيد الادارة الاميركية لتحرّكها حسب ما يناسبها ويلائم مصالحها". ودعا الرئيس كلينتون خلال تصريحاته في ساراييفو الاشخاص "ان يأتوا الى هنا ويروا". ووعد بأن تلعب الولاياتالمتحدة دورها في جلب الرفاهية الى منطقة البلقان. وقال: "سأطلب من الكونغرس تخفيض الرسوم الجمركية بالنسبة لواردت عدد من البضائع البلقانية، وتقديم 150 مليون دولار لمساعدة الشركات الاميركية للاستثمار في المنطقة". وأثار هذا الوعد اسئلة في دول بلقانية، لأن هذه الدول لا تملك ما تصدره الى الولاياتالمتحدة لتأتيها "الرفاهية" من خلال تخفيض الرسوم على عدد من بضائعها، وثم ان 150 مليون دولار هي للشركات الاميركية التي صار ينظر اليها بالريبة في المنطقة، لأن ما فعلته زاد من معاناة شعوبها الحياتية والمعيشية، لانها "ركزت على الهيمنة السياسية والاعلامية والتحكم بقراراتها الوطنية". ولم يخف الرئيس كلينتون ان امله في مؤتمر الاستقرار هو عزلة الرئيس ميلوشيفيتش. وقال: "ينبغي على الغرب ان لا يقدم أي مساعدات لإعمار صربيا طالما بقي ميلوشيفيتش في سدة الحكم". الا انه لم يسمع احد بنوع المساعدات العملية للبلقان باستثناء تخصيص الولاياتالمتحدة 15 مليون دولار "لمساعدة الديموقراطية في صربيا ودعم وسائل الاعلام المستقلة وجماعات المعارضة". الى ذلك يوزع الاميركيون ملايين الدولارات، من دون رقيب، على وسائل اعلام صربية كي تحرض الشعب ضد الحكومة ويدفعون ملايين اخرى للمعارضة. واذا كان كل هذا يتم من دون توافر ديموقراطية او حرية في صربيا، فيا ترى ما هو شكل الديموقراطية الذي "تكافح" من اجله الادارة الاميركية؟ وبناء على ذلك فان الدول البلقانية ، وبما فيها جمهورية الجبل الاسود، هي حالياً بالمكاييل الاميركية، باستثناء صربيا "تنعم بالحرية والديموقراطية" وهذا يعني ان مؤتمر قمة ساراييفو عقد اصلاً للهيمنة الكاملة على يوغوسلافيا، ولكن من الصعب ان يؤدي هذا الاحتواء الشامل الى استقرار في البلقان، وهو ما جعل المخاوف تزداد في المنطقة. فهل هو السبب الذي جعل القائمين على المؤتمر، يصدرون بياناً مطولاً عنه، ويوزعونه على وسائل الاعلام لنشره من دون ان يحمل توقيع أي من دول البلقان؟