حلقات لَطم أخيراً وبعد انتظار طويل، وصلت جثَّةُ سعيد الوحش. فقد تسلمتها مجموعة من الرجال عند الظهر في بوابة مندلبوم. وها هي العربة التي تحمل الجثة تتقدَّمُ ببطء وتشق كبد الأرض. كان كل شيء يجري بصمت وذهول، حتى حدقات النّاس التي أطلّت على المشهد من خلال الشرفات والنوافذ بقيت جاحظة لبعض الوقت وكأنها من دون أجفان. سكون تام كما لو كانت القرية في غير مكانها، والهواء ملقى على الأشجار كالمعطف الثقيل. العربة وصلت دوّار القرية الوحيد، وتلكأ الرجال الذين فيها عن النزول، مفسحين المجال لوصول الحشد الذي هبط سريعاً من جانبيِّ الوادي كما تهبط حبّاتَ القمح من كيس مثقوب. فقد انتهت الطريق المعبدة، ولا بد من حمل الجثة على الأكتاف، والسير بها حتى بيت القتيل. ارتفعت الجثة فوق الأكف، فيما الحشد يتدافع خلفها ويزحف، ومع الخطوات الأولى للجنازة هتف أحدهم "يا ناس هللوا" عند ذلك اندفع الكل يردد بصوت واحد عظيم "لا إله إلا الله". ما ان وصلت الجنازة الحي الغربي حيث بيت القتيل حتى ارتفع في السماء صدى لنواح جماعي، كان كل شيء يئن وينشج. كانت القرية تبدو مثل قدر ضخمة لأصوات تغلي وتفيض على حوافّ الجبال المحيطة. وعلى إيقاع موسيقى خفية تحركت أجساد النساء وتلوّت، في هذه اللحظة جمَعَ الرجال أنفسهم وانسلّوا الى الحوش. في الخارج شكلت النساء الملفعات بالسواد مجموعة من الحلقات الخاصة. في البداية جلسن على الأرض وأخذن يولولن ويبكين. ثم صارت جذوعهن تتحرك يميناً ويساراً، بعصبية مددن أيديهن وخبطن التراب، وبرشقاتٍ متتابعة ضربن خدودهن، ثم ماجت الأجساد وترجلت في شبه وقفة كأنها تترنح أو كأنها خفيفة وتحاول الطيران. ثم بهستيريا انطلقت الأجساد تهتز وتتقوس تتشنج تارة وترق تارة أخرى رفاتٍ سريعة ومتلاحقة كأنها جوقة نسور. استمرت الأجساد ترقص فيما استمرت الأيدي بضرب الصدور والخدود. في هذه الأثناء اندفعت واحدة من النساء الى داخل الحلقة وأخذت بشق الثوب وتمزيقه كأنها تريد أن تحرِّر ألسنة النار الهائجة تحته من ذلك القماش الأسود السميك، وعلى الفور تبعتها واحدة فأخرى فأخرى. وسط حالة الهياج تلك تقدمت من النساء مجموعةٌ من الرجال الصامتين الذين كانوا يحملون العباءات بين أيديهم، فيفردونها ثم بحركات سريعة يضمّون بها تلك الأجساد المجنونة العارية. حصان أبي حين قرأت ديوان الشاعر "محمود درويش"، "لماذا تركت الحصان وحيداً" تذكرت أبي وقصته مع حصانه، وقت الخروج الأول من الوطن. "لماذا تركت الحصان وحيداً" يسأل "محمود درويش" فيرد عليه الأب قائلاً "لكي يؤنس البيت يا ولدي". أبي كان عنده حصان، ولكنه لم يتركه لكي يؤنس شيئاً. في غمرة الرحيل من خربة "البويرة" الواقعة بجوار مدينة "اللد"، أخذت أُمي ما استطاعت أخذه: بضعة أرغفة طابون، شيئاً من الطعام والملابس، واستعدت للرحلة التي اعتقدت أنها لن تستغرق أكثر من يومين. أما أبي فقد كان مشغولاً برفيق حياته الحصان. لقد هيأَهُ للسفر. "يا الله" هتف أبي، فانطلقت الأسرة الصغيرة، غير أن الحصان بعد خطوات قليلة وقف، وأخذ يتأمل المكان بعينين دامعتين. "هيا لنمشِ أيها الحصان". غير أن الحصان تسمّر في الأرض. شدَّ أبي اللجام بقوة فعانده الحصان، ورجع خطوة الى الخلف. "ما الذي تريده يا حبيبي وتاج رأسي في هذه اللحظة بالذات، والقنابل تتساقط فوق رؤوسنا؟". "لم يكن الوقت يسمح بالحوار مع الحصان" قالت أمي "وبالترغيب والترهيب استطاع أبوك أن يقود الحصان مسافة قصيرة، حتى وصلنا الى منطقة خطرة. كان الطريق يبدو ضيّقاً. وقريباً منّا كانت الأرض تبدو مقطوعة بسكين ضخمة. هناك خطر في بال الحصان أن يعود الى الخربة، فاشتبك أبوك معه، وأخذ يوبخه بشتى أنواع الشتائم. بعينين دامعتين ومحمّرتين حدَّق فينا الحصان، ثم التفت الى الخلف، رفع قائمتيه الأماميتين واستدار نصف استدارة. أبوك مد يده وقفز عالياً في الهواء وبسرعة البرق هوى بها على وجه الحصان، الحصان الذي ترنح ومثل غيمةٍ سقط في الجرف. في كل مرة كُنا نتحلق حول أبي، كنا نطلب منه أن يحدثنا عن حكايته مع الحصان. إلا أنه كان يتجنب الخوض في تفاصيل تلك القصة، خصوصاً الجانب المتعلق بقتل الحصان. كان أبي في كل مرة يرفع عنقه وبعينين دامعتين ومحمرتين يشيح بوجهه عنا، ويستدير به الى الخلف نصف استدارة، كأنه غادر "الخربة" ليس قبل خمسين سنة وإنما قبل لحظات قليلة، ويود الرجوع اليها. انها محض قماش في منتصف الستينيات، أو قبل ذلك بقليل. كان علينا أن ننتقل الى بيتٍ آخر حديث. وبالقروش القليلة التي جمعها من عمله في ورشات البناء، قام أبي بإبرام واحدة من أهم الاتفاقيات في حياته مع إحدى الكسارات المتنقلة التي جاءت الى القرية. والتي حطّت رحالها بجانب الشارع العام بجوار شجرتي الكينا العملاقتين. وبإشارة منه بدأنا بنقل الحجارة المتناثرة هنا وهناك تمهيداً لطحنِها... وما هي إلا ساعات قليلة حتى تكوَّنَ لدينا تلاّن كبيران: واحد من الحصى وآخر من الرمل. بعد ذلك اجتمع الأقارب لمساعدتنا في بناء البيت، فارتفعت الجدران، وانتقلنا سريعاً للإِقامة فيه وذلك قبل أن يتم بناءُ السقف. السقف لم يكن وحده هو المشكلة، كان البيت دون بابٍ ودون شبابيك، أخيراً أبي تدبَّرَ الأمر مع الباب. لقد صنعهُ بشكلٍ بدائي من ألواح الخشب التي استخدمت في البناء. إذاً لم يبقَ أمامه من مشاكل مستعجلة إلا مشكلة الشبابيك. لم يكن سهلاً عليه أن يدبِّج ألواحاً كيفما اتفق من أجل أن يسدّ بها الفتحات الكبيرة المتروكة في الجدران. لم يكن لديه الفلوس الكافية. أو على وجه الدقة لم يكن لديه فلوس إطلاقاً. في مساء ذلك اليوم غاب أبي. وما ان استيقظنا من النوم في صباح اليوم التالي حتى جاء أبي محمّلاً بكيس ضخم أَلقاه بين يدي أُمي. فتحت أمي الكيس وأخذت تفرد أمامنا محتوياته. وكم كانت دهشتنا شديدة حين رأينا قطعاً هائلة من القماش الأبيض المسطّر بخطوط زرقاء طويلة، والأكثر من ذلك تلك النجوم السداسية التي كانت تنتشر وسطها. على عجلٍ حاكت أُمي قطع القماش، وما ان حلت الظهيرة حتى وجدنا الشبابيك قد غطيت تماماً بذلك القماش الغريب! انتهت مشكلة الشبابيك... ووجدت أمي لديها فائضاً من القماش. فما كان منها الا أن جددت به وجوه المخدات والأغطية. أمّا نحن الأطفال فلم نكن مرتاحين لكلِّ الذي حدث. فقد كنّا نصطدم بالنجوم السداسية باستمرار. أيضاً كُنّا نضع رؤوسنا على تلك النجوم حين ننام فتسبب لنا الكوابيس. وكنا نسأل أنفسنا: ترى ما الذي حدث؟ وما الذي دفع أبي ليزين شبابيك البيت بأعلام الأعداء؟ فيما بعد عرفنا بعض التفاصيل: لقد سرق أبي تلك الأعلام من ساحة احدى المستعمرات القريبة. بعد تردُّدٍ طويل فاجأناه بالسؤال، غير أنه لم يرتبك كما كنا نتوقع، بل غرق في نوبةٍ عارمة من الضحك وقال لنا: هذه ليست أعلاماً يا أحبائي، إنها محض قماش.