كان ذلك في أواخر الشتاء، ولكن الشمس كانت ساطعة حين توقفت السيارة الصغيرة البيضاء على شاطيء البحر. قالت أمي وهي تطفىء المحرك: - احذروا أن تبللوا ملابسكم. اندفعنا باتجاه البحر نرتجف شوقاً إليه. شريف ورفيق وياسر وأنا. شمرتُ أطراف البنطلون وكذلك فعل الآخرون. خعلنا أحذيتنا وركضنا نحو الماء ونحن نحجل على الحصى الصغير المتناثر على رمل أبيض. لسعتْ برودةٌ باطن قدمي واخترقتْ جلدي قشريرةُ فرح فتوغلتُ في الماء غير آبه بالبلل وهو ينقع البنطلون حتى فخديّ. فجأة، لطم خدي نثار ماء. التفتُ، كان رفيق يعاود الانحناء ليملأ كفيه من ماء البحر. ولكن قبل أن يعتدل، صوبتُ نحوه رشة بقدمي اليسرى التي اعتدت أن أركل بها الكرة. ودون أن ندري، كنا جميعاً في وسط البحر نتقاذف الماء حتى سمعت صوت أمي يناديني غاضباً. التفتُ مرغماً، وجدتها تلوح من بعيد وهي تسند ظهرها على باب السيارة. خرجتُ الى الشاطيء ومشيت نحوها متردداً والماء يقطر من ملابسي شاعراً بالأسى لانتهاء المتعة سريعاً، لكنها حين اقتربتُ قالت: - اخلع ملابسك. ضعها هنا على سقف السيارة لتجف. - ملابسي كلها؟ - كلها، تستطيع أن تسبح اذا شئت. هل الماء بارد؟ - قليلاً. - إذن هيا، وليفعل اخوتك مثلك. بلمح البصر، كنت قد خلعت ملابسي حتى لم يبق سوى القطعة الداخلية الأخيرة، ورجعت طليقاً نحو اخوتي الذين ما أن رأوني حتى تراكضوا نحو الشاطيء وهم يتخلّصون من ملابسهم شيئاً فشيئاً، وسرعان ما اختفت معالم السيارة تحت الملابس المنشورة عليها. أحسست بكل ذرّة في جسدي تتوتر وبعضلاتي تتجمد وأنا أرتمي على الماء. غصتُ حتى عنقي، ولكن البحر كان دافئاً. ضربت الماء بذراعيّ قليلاً، ثم انقلبت على ظهري وتركت نفسي مرتخياً أنظر إلى سماء زرقاء صافية. ثم أغمضت عيني وأنا أحس بجسدي يتهادى على الموج الخفيف حتى انتابني شعور بأني توغلت مسافة كبيرة داخل البحر. عندها فتحت عيني فزعاً وجاهدت لأقف على قدميّ فاذا بهما تلمسان الأرض واذا بي قريب من الشاطىء. كان رفيق وشريف يرشان احدهما الآخر بالماء، أما ياسر أصغرنا فقد وقف بجسده الناحل ينتفض مرتجفاً على حافة البحر. أشرت إليه أن يأتي: - هنا الماء دافيء، تعال، لا تخف. تطلع إلي متردداً، فهتفت: - أمسك يدي. لكنه تراجع إلى الخلف ضاماً ذراعيه إلى صدره وعيناه تعانقان البحر شوقاً. بعد نحو عشرين سنة، حين رأيته مسجى على طاولة المشرحة وقد جيء به من جبهة القتال. كان جسده العاري ناحلاً شاحباً وذراعاه مضموتين الى صدره، مما ذكرني بصورته ذلك اليوم وهو واقف على الشاطىء يرتعش خوفاً ولهفة. وشعرت بالأسى لأن الخوف يومها ابتلع رغبته في مجاراتنا، وها نحن لن نذهب الى البحر معاً بعد الآن. كان وجهه هادئاً، وعيناه مفتوحتين على بحار وسموات غير مرئية. همستُ يائساً: - لماذا لم تنزل الى البحر؟ كان الماء دافئاً والشمس ساطعة. لكنه ظل يتراجع حتى استدار راكضاً. خرجت وراءه مهدداً أن أجرّه الى البحر، فلاذ بأمنا التي كانت تقف الى جوار السيارة الصغيرة. حين اقتربنا، فوجئنا بها تمسك بسيجارةرفعتها حين رأتنا الى فمها ونفثت دخانها في وجهينا وهي ترقب ذهولنا بعينين باسمتين. كانت المرة الأولى في حياتنا التي نرى فيها أمنا تدخن سيجارة. هتف ياسر: - دعيني أجرب. فوضعت السيجارة في فمه ولكنه حين حاول أن يسحب الدخان انفجر في سعال مخنوق. تشجعت واقتربت وعاجلت الى امتصاص السيجارة بعمق ونفثت الدخان مرتين بمهارة حيث كنت قد جربت التدخين قبل ذلك. ومع تبدد الدخان في هواء ذلك اليوم الشتائي، بدأت أرى أميّ بضوء مختلف، متواطئة وصديقة ، وفي الوقت نفسه كان يتنامى بداخلي شعور بالقلق من براعتها في اخفاء هذا الأمر عنا حتى أننا لم نعثر يوماً على آثار سيجارة في بيتنا. ولكنها كانت قادرة على اخفاء أمور أخرى توجتها بقفزها من شباك غرفتها بعد خمس سنوات من يوم الشاطىء ذاك، وارتطامها على سلم العمارة الخارجي بدويّ ظل يرن في أذني سنوات طوال بعد ذلك. أتذكر تحلّقنا حول جثتها المرمية بغير عناية على السلم ونحن نحدق ببلاهة اليقظة المفاجئة من غيبوبة عميقة. نحاول أن نفهم لماذا ترتمي أمنا بلا حراك على سلم العمارة، وجهها شديد الشحوب غائباً عما حوله. - حان وقت الرجوع. قالت أمي وانهمكت في مساعدة ياسر على ارتداء ملابسه. برز رأس رفيق من تحت الماء وقد أحمر وجهه وتندت عيناه. نفض شعره المبلل وأشار إلى بقعة بعيدة على الشاطىء حين سألته عن شريف. واتجهت بنظري إلى حيث كان شريف ينحني على الأرض يجمع القواقع في كيس ورق. - هيا يا رفيق حان وقت الرجوع. غطس مرة أخرى وانتظرت لحظات قبل أن يرتفع رأسه وهو يصيح: - هل رأيت هذه الحركة؟ - هيا أخرج. - ولكن هل رأيت هذه الحركة؟ - استطيع أن أبقى مدة أطول منك تحت الماء. - تعال، ولنر من يستطيع أن يقاوم أكثر. التفتُ الى أمي ثم ترددت هنيهة قبل أن أقفز إلى البحر. - واحد، اثنان، ثلاثة. وغطسنا معاً في وقت واحد. كتمت نَفسي حتى أحسست بصدري يكاد ينفجر، فرفعت رأسي وأنا أشهق في اللحظة نفسها التي ظهر فيها وجه رفيق. نظرنا كل منا إلى الآخر بتحّدٍ ثم انفجرنا ضاحكين. قلت له هيا لاتدع أمنا تنتظر. راقبته وهو يخرج من الماء يمشي خافض الرأس كعادته وكأنه مستغرق في تفكير عميق، كان رفيق أكثر ذكاء وتفوقاً مني في المدرسة. ينجح دون أن يبذل جهداً في هذا السبيل. بل كان يقضي أوقاته يلعب الكرة مع أولاد الجيران أويتمدد على سرير أمنا وكان أشدنا التصاقاً بها يحدق في السقف حالماً. كان يفعل ذلك حين اقتحمتُ عليه الغرفة ثائراً بعد سنوات، وهو استمع إليّ أعنفه دون أن تتحرك قسمات وجهه. ولكني حين أطحتُ بزجاجة الخمر التي كان يضعها تحت السرير، نهض متثاقلاً محاولاً أن يمسك يدي. فلطمته وهززته من كتفيه علّه يصحو، لكنه كان غائباً عما حوله. ظل جالساً يستمع إليّ خافض الرأس حتى انتهيت وعندئذ رفع وجهه فلمحت دمعتين تجريان على خديه. حدق في وجهي ملياً ثم تحامل على قدميه ومشى مترنحاً حتى جاوز باب الغرفة حيث أقف، ثم التفت وابتسم كما خُيل إليّ معتذراً وغادر البيت. آخر ما رأيته كان محنيّ الظهر ومطرق الرأس كأنه مستغرق في تفكير عميق. - شريف تعال. اعتدل شريف حين اقتربت منه وقال وهو يريني ما بداخل الكيس الورقي: - انظر، ماذا وجدت، قواقع كبيرة ملونة. - ماذا ستفعل بكل هذه القواقع؟ - غمغم بشيء ما، وسوّى وضع نظارته، وسار معي وهو ينحني بين حين وآخر ليلتقط قوقعة هنا وأخرى هناك. ودون أن أدري وجدتني اتنقل ببصري بين الرمل ومخلفات الشاطىء لألقط القواقع وأسقطها في كيسه الورقي. وجدت واحدة مقفلة، وقفنا نحاول فتحها، فلما استعصتْ طوحتُ بها إلى البحر، ثم أخذنا نتبارى فيمن يرمي أبعد من الآخر. كان شريف أقرب أخوتي الى نفسي، ربما لأنه كان يصغرني بعام واحد فقط. كنا لا نكاد نفترق وحتى عندما حصل بعد انتهاء الحرب على عقد عمل في دولة عربية ظل يراسلني سنوات عدة بانتظام وفي كل رسالة يعد بأن هذا هو عامه الأخير في الغربة وأن عودته صارت وشيكة. ويمر العام ويمضي آخر. بل أن رسائله ظلت تتباعد حتى انقطعت نهائياً، وبدا وكأنه غاب عني الى الأبد. توقفنا نفحص قوقعة لامعة بخطوط صفراء وبنية، ثم سمعنا صوت نفير السيارة يتعالى بالحاح، فحثثنا السير. أذكر الآن بوضوح صوت قرقعة القواقع في الكيس الورقي يطوحه شريف وهو يسرع الى جانبي، لا أدري ماذا فعل شريف بالقواقع بعد ذلك. على الأرجح أنه ركنها في جانب في غرفتنا ونسيها. لكن صوت قرقعتها يملأ عليّ الآن زنزانتي الانفرادية وأنا منكفىء على وجهي متورم الجسم، ممتليء بقروح تنزّ ألماً. كان صمت الزنزانة يثقل أذني بطنين غريب بعد ساعات التحقيق الطويلة. ولكن جسدي يضج بألم زاعق في حين لا استطيع أن أحرك عضلة واحدة في جثتي المنكفئة، كنت أود أن أنهض، أغادر المكان، أركض. - هيا يا شريف، لا تدع أمنّا تنتظر. كانوا قد اقتادوني عبر ردهة طويلة معصوب العينين. وصلنا الى السيارة، اختطفنا ملابسنا وارتديناها قطعة، قطعة. كانت ما تزال ندية، لكن من يعبأ؟ قفزنا الى السيارة، ياسر في المقعد الأمامي الى جانب أمّنا. سمعتُ صرير باب يُدفع ويُطلب مني أن أجلس وأن أرفع العصابة عن عيني. كان الضابط الذي يواجهني يماثلني في السن ويرتدي ملابس مدنية. سألني عن اسمي وعملي وقدم لي سيجارة. كانت رقته مثيرة للريبة. مرت ربع ساعة تقريباً وهو يرمي إليّ بأسئلة عامة وشخصية، ثم فجأة اكتست ملامحه غلظة وجموداً وهو يشدد على كل كلمة من سؤاله المباغت: ما صلتك بالجماعة؟ وقبل أن أجيب، التفتتْ إلينا أمّنا، هل كان وجهها شديد الشحوب، غائباً عما حوله؟ نظرت في وجوهنا واحداً واحداً، أولادها الأربعة، وسألتنا: - ما رأيكم بهذه النزهة؟ - تصايحنا كانت نزهة جميلة، لماذا لا نذهب الى البحر كثيراً؟. اعتدلت في جلستها وأدارت محرك السيارة وانطلقنا. عبثت أصابع أمي بمؤشر المذياع. توقفت عند موسيقى مألوفة. انساب صوت عبدالحليم حافظ دافئاً أهواك واتمنى لو أنساك. وصدح صوت أمي وانسى روحي وياك. - الله، الله. صوتك جميل يا أمي. أهواك.. ارتفعت حناجرنا جميعاً حتى أغرقت صوت المغني. أسرعت السيارة باتجاه المدينة وخمس أصوات زاعقة تغني بهمة وحماس على وقع الموسيقى، وأسمع ياسر وهو يصرخ وسط الضجيج المنغم: ماذا يعني أهواك؟ وصوت أمي يرتفع فيملأ فراغ الزنزانة: - أحبك. * كاتبة عراقية تقيم في القاهرة