يبدو ان السلطة في الصين الشعبية تمكنت من تحقيق هدفها في موضوع حركة "فالون غونغ"، إذ أدت الحملة المكثفة التي شنتها الاجهزة الرسمية الصينية الى تقويض فعلي لهذه الحركة في أرجاء الصين، وذلك في المرحلة الحالية على الأقل. إلا ان الوضع يختلف عند استعراض نتائج هذه الحملة في الولاياتالمتحدة. فالمسؤولون عن "فالون غونغ" في الولاياتالمتحدة يصرّون على نفي أي طابع سياسي لنشاطهم، بل يرفضون اعتبار ظاهرتهم حركة، لما ينطوي عليه المصطلح من افتراض صيغة تنظيمية يؤكدون انتفاءها عنها. التعريف المطروح لهذه الظاهرة التي انطلقت من نيويورك عام 1992 هو، اذن، ان "فالون غونغ" هي رياضة روحية وجسدية، وتمرس يهدف الى تنقية النفس والبدن على السواء من الشوائب الشخصية والاجتماعية عبر مجموعة بسيطة من التمارين وصيغ التأمل. وعليه، فإن "فالون غونغ"، كما يقدمها القائمون عليها، لا تختلف عن غيرها من أشكال التمرس الشائعة في أوساط الصينيين، في الوطن الأم والمهاجر، مثل "تاي تشي" وجلسات التأمل التي تعتمدها المذاهب البوذية المختلفة. ويعتبر هؤلاء المسؤولون ان الاجراءات التي اتخذتها السلطات الصينية بحق ممارسي هذه الرياضة في الصين لا ينطلق من أي تقييم موضوعي لطبيعتها، بل هي ردة فعل غريزية لنظام تسلطي لم يتمكن من تجاوز منطق "الثورة الثقافية" الذي لا يقبل أية تعددية ولا أي اختلاف. وقد نشط المسؤولون عن "فالون غونغ" في الاسابيع الماضية، اثر حملة القمع التي شهدتها الصين، في نقد الموقف الصني الرسمي ونقضه في الاعلام الاميركي. ولا يخفى ان صوت "فالون غونغ" المعادي لحكومة الصين قد وجد آذاناً صاغية لدى العديد من المواطنين الأميركيين، نتيجة للنفور الضمني الكامن في مختلف الأوساط الرسمية والشعبية الاميركية من النظام الصيني، باعتباره البقية المتبقية من الشيوعية البغيضة التي سقطت أمام النموذج الديموقراطي الاميركي، ونتيجة للإغراق الاعلامي حول تورط الصين، بالصيغة الآحادية الجماعية، في التجسس والفساد والإفساد في الولاياتالمتحدة. والواقع ان حملة القمع التي تعرضت لها "فالون غونغ" في الصين قد أهلتها، في الولاياتالمتحدة، للانتقال من موقع الفئة المجهولة الى الواجهة الموقتة للاهتمام الرسمي والشعبي، والتي تتناوب عليها الاسماء والوجوه وفق مقتضى الأحوال. فقد أبدى مختلف السياسيين الاميركيين اعتراضهم على مصاب هذه الحركة في الصين. الا انهم على رغم اجماعم على موقف مبدئي يدين حملة القمع ويدعو الحكمة الصينية الى التراجع عن الخطوات التي اتخذتها، فإن الرغبة الاميركية الرسمية في المحافظة على علاقة طيبة مع الصين، وهي رغبة تحظى بشبه اجماع في الحزبين الديموقراطي والجمهوري، قد أدت الى إلزام صيغة النقد طابع العتب لا التوبيخ. ولكن، وفي مقابل ما يشبه تخلفاً عن التشدد في الإدانة، فإن العديد من السياسيين قد استقبل وفوداً من "فالون غونغ" لهدف الإطلاع على وجهات النظر، وطمأنة المعارضين للحكم في الصين حول عدم إهمال الموضوع. فقد التقى المسؤولون عن "فالون غونغ" نتيجة ذلك عدداً من الشخصيات البارزة مثل ريتشارد غيبهارت رئيس الكتلة الديموقراطية في مجلس النواب في الكونغرس، وغيره من النواب والمبعوثين. ويتضح مدى الحضور الاعلامي لحركة "فالون غونغ" في الولاياتالمتحدة من خلال نجاح أعضائها في تحقيق سلسلة من المكاسب الرمزية في عدد من المدن الاميركية الرئيسية. فابتداء من أواخر حزيران يونيو الماضي، ووصولاًَ الى منتصف هذا الاسبوع المنصرم، توالت شيكاغو وسان خوسيه وجيرسي سيتي وبالتيمور وفيلادلفيا، بقرار من عمدتها أو مجالس بلديتها، على إعلان أيام رسمية احتفالية وتكريمية لحركة "فالون غونغ" ومؤسسها هونغجي لي. بل إن عمدة العاصمة الاميركية واشنطن نفسها، أصدر تعميماً يعتبر اسبوع العمل من 9 الى 13 آب أغسطس اسبوعاً تكريمياً لهذه الحركة، وحض المواطنين على المشاركة بالنشاطات المعدّة لهذا الغرض . وعلى رغم ان هذه الاحتفالات لا تتجاوز الطابع الرمزي، وعلى رغم استفادتها من الريبة الشعبية إزاء الصين ومن السمة الوطنية التي يراها الاميركيون شعاراً لأميركيتهم، أي اندفاعهم الى نصرة المظلوم وإن كان تطبيق هذه السمة انتقائياً أو اعتباطياً أو حتى نفاقياً من جهة نظر غيرهم، فإنها تشير الى مدى التنظيم والنفوذ والقدرة لدى هذه الحركة التي تنفي عن نفسها أية صفة تنظيمية. والواقع ان لهذه الحركة انتشارا واسع النطاق في أرجاء الولاياتالمتحدة حيث تقيم جاليات صينية، وفي أوساط الطلبة الصينيين غير المجنسين على حد سواء. ويأخذ هذا الانتشار شكلاً تنظيمياً صارماً يعتمد الخلايا والفروع والمنظمات المناطقية، وترتبط به مؤسسات مختلفة تعنى بالنشر والدعوة وإعداد الحلقات للمريدين، وتحضير ندوات لمن يرغبون في الانتساب. وقد باشرت الحركة، منذ تسليط الأضواء الإعلامية عليها، بالتوسع لاستقطاب غير الصينيين من الاعضاء. ويرى البعض ان الجهات الرسمية والشعبية في الولاياتالمتحدة ربما تسرعت في منح "فالون غونغ" صكوك البراءة من مجمل التهم التي أغدقتها عليها السلطات الصينية. فالواقع أن ثمة اختلافا جوهريا بين "فالون غونغ" وسائر الرياضات التأملية الصينية. ويتضح هذا الاختلاف في كتاب مؤسسها هونغجي لي. فهو يدعو، من جهة، الى التحرر من قيود العبودية للمادة والأهواء عبر التزام الاخلاق الحميدة مثل الصدق والعفو والتسامح، إلا أنه، من جهة أخرى، ينصب نفسه حلولاً للحق الكلي، فيصدر جملة من الفرائض لمريديه يتخلون معها عن إرادتهم ويسلمون له في العديد من المسائل، لا سيما إزاء الاقتصار على معالجة علل البدن بالتأمل والتمرس دون الطب، والاعتماد المطلق على كتابه كدليل يومي للحياة. أي ان العقيدة التي يطرحها هونغجي لي لا تختلف في بعض مضمونها عن تلك التي تلزمها بعض الجماعات المريبة لأعضائها. وبغض النظر عن الجانب العقائدي الذي اعتبرته السلطات الصينية إمعاناً في الغيبيات وتسفيهاً للنظريات العلمية، فإن هونغجي لي يحظى في أوساط أتباعه ومريديه بولاء شديد ذي صبغة دينية، وقد تجسد هذا الولاء في تلبية المريدين في الصين لدعواته الى التظاهر والاعتصام. وهو ما يتبين في الولاياتالمتحدة في الثروة الهائلة التي تحققت لهذه الحركة، عبر التبرعات الطوعية التي تجمعها من أعضائها. وفي حين ينفي هونغجي لي عن نفسه وعن حركته، أي طابع سياسي، فإن أسلوبه الكلامي يعكس قناعته بسلطته المعنوية. وتظهر هذه القناعة جلياً في الرسالة التي وجهها الى القيادة الصينية، من الند الى الند، يطالبها بالتراجع عن مذكرة التوقيف التي أصدرتها بحقه، ويدعوها الى الاستفادة من المبادئ التي تنادي بها حركته. والسلطات الاميركية بدورها لا تعتبر نفسها ملزمة بمذكرة التوقيف الدولية هذه والتي حاولت حكومة الصين الشعبية تعميمها عبر الانتربول. بل ان ادارة الانتربول أشارت الى ان هذه المذكرة ليست من صلاحيتها كونها تتعلق بمسألة غير جنائية. فالمذكرة حُجّمت اذن الى شأن سياسي صيني داخلي تحاول السلطات من خلاله تقييد حرية التعبير والتنظيم لهونغجي لي وجماعته، بغية منعه من تشكيل خطر على النظام. والنجاح الذي تحقق في الصين هو الذي دفع "فالون غونغ" من العمل العلني الى العمل السري وتقويض مؤسساتها. لكن النجاح في الصين قد أدى الى نتيجة عكسية في الولاياتالمتحدة، حيث اكتسب هونغجي لي المزيد من البروز والنفوذ. وبما ان الجالية الصينية الاميركية هي، في آن واحد، على قدر ملحوظ من الثراء وعلى تواصل حميم مع الوطن الأم، فإن تضاعف نفوذ حركة "فالون غونغ" في أوساطها قد يؤدي الى تغذية النشاط السري لهذه الحركة في الصين نفسها، والدفع حكماً نحو معارضة النظام سياسياً، فتكون السلطات الصينية قد دفعت ثمناً باهظاً للتقويض الآني الذي أرادته للحركة هذه.