اقالة حكومة سيرغي ستيباشين مشهد من مسرحية يخرجها الرئيس بوريس يلتسن ويتابعها مواطنو روسيا كتراجيديا تنثر الملح على جروحهم الكثيرة، بينما يتفرج عليها العالم وكأنها كوميديا تستثير لدى البعض مشاعر الشماتة ولدى البعض الآخر شعوراً بالشفقة على دولة لم يبق لها من مقومات "العظمة" سوى الهراوة النووية التي يمكن ان تفقدها قريباً. ولئن كان تغيير الحكومات في ايطاليا، مثيراً، امراً "مألوفاً" فانه في الوقت ذاته لا يحدث هزات كما في روسيا. وذكر رئيس مجلس الفيديرالية يغور سترويف ان المبالغ التي تخسرها روسيا مع كل تغيير وزاري توازي كل القروض التي يقدمها "صندوق النقد الدولي"، اي ان موسكو خسرت خلال 17 شهراً خمسة اضعاف القروض التي تحصل عليها بالكاد وبشروط تحد من استقلاليتها وموقعها كدولة كبرى. وهنا ثبت بالازمات السياسية الوزارية التي احدثتها قرارات الرئيس الروسي: - 23/3/98 اقيلت حكومة فيكتور تشيرنوميردين. - 23/8/98 اقيلت حكومة سيرغي كريينكو. - 23/8/98 عيّن تشيرنوميردين رئيساً للحكومة ورفض البرلمان المصادقة على التعيين، فاسند المنصب الى يفغيني بريماكوف. 12/5/99 اقيلت حكومة بريماكوف. - 9/8/99 اقيلت حكومة سيرغي ستيباشين وكلف فلاديمير بوتين تشكيل وزارة جديدة. وكل مرة كان رئيس الدولة يسوق ذرائع لاقالة الحكومة، ويتهمها بالتراخي او التباطؤ في معالجة المشاكل الاقتصادية، وان كان المحللون يجمعون على ان الاسباب سياسية في جوهرها، اذ ان يلتسن منذ توليه السلطة غدا همه الاكبر الحفاظ على كرسي الحكم وابعاد كل من يتوهم انه يطمح الى منافسته عليه. وعند اقالته حكومة ستيباشين لم يكلف الرئيس نفسه عناء سوق الاعذار والحجج، بل انه شكر رئيس الوزراء لنجاحه في "تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي وتشكيل فريق حكومة قوي". اذاً، رئيس الوزراء فقد موقعه بسبب ايجابياته؟ ام انها واحدة من نزوات الرئيس الذي يردد وراء لويس الرابع عشر "الدولة انا"؟ وهذه الاسئلة تبقى تقريرية، اذ على رغم تجاهل يلتسن لشعبه وازدرائه بالبرلمان الذي لا يستشيره في تعيين واعفاء الحكمات، تشير غالبية المحللين الى ان الدافع الحقيقي المحرك لسلوك الرئيس هو خوفه الشخصي من اقتراب موعد تسليم السلطة، وما يترتب على ذلك من فتح ملفات المحاسبة السياسية والقضائية عن الكوارث الكبرى، وبدء مساءلات عن مصدر اموال الكثيرين من المقربين الى رئيس الدولة. ومن هذا المنطلق كان المطلوب من ستيباشين، وزير الداخلية السابق، ان يعمل على حظر الحزب الشيوعي بوصفه الطرف الاقوى في المعارضة "التقليدية" وتحجيم دور محافظ موسكو يوري لوجكوف الذي صار غريماً يجاهر بمناوأته للكرملين على رغم انه كان واحداً من اقوى حلفاء يلتسن. وواضح ان ستيباشين اخفق في صنع التحالف بين حركة "الوطن" التي يقودها لوجكوف وكتلة "كل روسيا" التي تضم ابرز القادة الاقليميين مثل الرئيس التتري نتمير شايمييف ورئيس بشكيريا مرتضى رحيموف ومحافظ العاصمة الثانية سانت بطرسبورغ فلاديمير ياكوفليف. وغدا قيام هذا الائتلاف ناقوس خطر للكرملين نذيراً بأن البرلمان المقبل سوف يقتسمه اليساريون و"الوطن" وكتلة "كل روسيا" ويبقى يلتسن وانصاره على الهامش، ما يعني ان الرئاسة ستؤول الى شخص لا يرغب صاحب الكرملين الحالي في ان يتبوأ موقعه، وتحديداً رئيس الوزراء السابق يفغيني بريماكوف الذي لم يعد سراً انه وافق على ترؤس حركة "الوطن" وكتلة "كل روسيا" ما سيضمن لها الفوز بما لا يقل عن 30 - 40 في المئة من المقاعد، بل وحتى 50 - 60 في المئة نظراً لما يتمتع به بريماكوف من شعبية واسعة. ويتوقع المراقبون ان يتولى مهمة "تفتيت" المعارضة وتطويقها رئيس الوزراء المكلف فلاديمير بوتين مستثمراً خبراته كوزير سابق للامن، وصلاحياته كرئيس للحكومة و"خليفة" ليلتسن الذي اكد للمرة الاولى انه يعتبر بوتين "الرجل الامثل" لاستلام السلطة من الرئيس الحالي. الا ان رئيس الوزراء لا يستند الى اي قاعدة شعبية او سياسية، اذ ان الاحزاب اليمينية واليسارية اجمعت على استنكار اقالة الحكومة. اما دعم يلتسن الذي انخفضت شعبيته الى اقل من اثنين في المئة فانه نقطة ضد المرشح وليس لصالحه. اضافة الى ان تعيين "وريث" يحول روسيا عملياً من دولة جمهورية الى بلد تحكمه "سلالات" قيصرية. وان لم يفلح بوتين في تحقيق الاهداف المذكورة قد يعمد الكرملين الى اجراءات غير دستورية، وتوقع عدد من الساسة والكتاب ان يسعى الرئيس الى ارجاء او حتى الغاء الانتخابات الاشتراعية، ومن ثم الرئاسية. وثمة ثلاثة سيناريوهات لتحقيق هذا الغرض: الاول يستبعده المحللون ويقضي بتمديد صلاحيات البرلمان ورئيس الدولة لسنتين، اذ انه مخالف للدستور ولن يحظى بتأييد النواب. والاحتمال الثاني هو ان يرفض مجلس الدوما ثلاث مرات المصادقة على تعيين بوتين ما يضع في يد يلتسن ورقة دستورية لحل المجلس النيابي. وثمة ما يشبه الاجماع على ان الدوما سيوافق على التعيين لتفادي الاحتمال الاسوأ والاحتفاظ ب"قاعدة" مهمة يوفرها البرلمان للمرشحين. ولكن احد نواب اليسار قال ل"الحياة" ان كتل المعارضة، في حال اقتراعها لصالح تعيين رئيس الحكومة، ستنطلق من اعتبارات اخرى اهمها انها "لا تريد ان تبقى روسيا وجهاً لوجه مع يلتسن وحده". ولمح الى ان الكرملين قد يلجأ الى اعلان حال الطوارئ السيناريو الثالث مستغلاً ذرائع فعلية او مفتعلة، ومنها الوضع المتفاقم في القوقاز بعد اعلان "دولة اسلامية" في داغستان واشتداد ضراوة المعارك بين القوات الفيديرالية والمسلحين الاسلاميين الذين تقول موسكو انهم يحصلون على دعم من غروزني. ولا يستبعد المحللون وقوع "اعمال شغب" حقيقية او مدبرة في حال اقدام السلطة على منع الحزب الشيوعي او رفع جثمان زعيمه الراحل فلاديمير لينين من ضريحه في الساحة الحمراء. وتفعيل اي من هذه السيناريوهات يقتضي حشد الموارد السلطوية والمالية والاعلامية واحكام قبضة الكرملين عليها، ومن هنا فان تعيين وزير الامن رئاسة الحكومة قد يهدف الى منع "التسرب" الحالي للسلطة. الا ان المركز الفيديرالي لم يعد مهيمناً على الاوضاع، وصار للقادة الاقليميين كلمة نافذة خصوصاً وانهم "يطعمون" قوات الامن الداخلي والجيش والشرطة في محافظاتهم. وحتى السيطرة على موسكو لم تعد يسيرة في ظل وجود محافظها القوى لوجكوف الذي تربطه "خيوط" متشعبة بمراكز المال والاعلام وهياكل القوة. اما اذا اقدم الكرملين، رغم كل المحاذير، على خطوة انتحارية واعلن الطوارئ، فان يلتسن سيفقد شرعيته بل ويغامر بجعل الجنرالات الحكام الفعليين للبلد. وفي مطلق الاحوال فان المأساة الهزلية التي تعيشها روسيا لم تكتمل فصولاً باقالة حكومة ستيباشين، ولن تنتهي الا باسدال الستار على عهد يتمتع في ظله رئيس الدولة بصلاحيات امبراطورية يستخدمها لتكريس حكم "العائلة" وان حل في روسيا الطوفان.