هدفي من نقد تخييلات منير شفيق عن "المؤامرة" في مقاله "نظرية المؤامرة ما بين مبالغين ونافين"، أفكار 3/3/1998 ليس سجالياً بل معرفي، ليس التحقير بل الفهم. بل أنه إلى حد ما نقد ذاتي متأخر لأني كنت في مطلع شبابي أشاطر هُذاء عباس محمود العقاد: "ما من مفسدة في الدنيا إلا وراءها اصبع يهودية تديرها". كل ما أرجوه هو أن يفهم القراء الذين يفكرون بأنفسهم لا بأوهامهم عن أنفسهم وعن الآخر، نقدي كمحاولة لإزاحة عائق معرفي لاشعوري تعريفاً وكتصعيد لانفعال جامح، لأنه مكبوت إلى وضح الشعور لوعي الظاهرة موضوع النقاش في تعقيدها وأبعادها الحقيقية. أقصد بالنقد المعرفي النقد الذي يميز ما هو معرفة مما هو ليس بمعرفة: ما يعود إلى التحليل وما يعود إلى التخييل. في هذا المنظور لا بد من إلقاء الأضواء على هذه الظاهرة في مسارها التاريخي. لأن التفسير التآمري للتاريخ له تاريخ يجهله منير شفيق ومن يأخذون مثله بنظرية المؤامرة اليهودية التي تتحكم في العالم على هواها، لذلك جاء خطابه انشائياً بارانوياً عارياً من أية شرعية معرفية. حاول استخدام الاغلوطة بما هي استدلال قائم على مسلّمات غير مسلّم بها: الحقيقة وسط بين تطرفين، فأدان إدانة لفظية سهلة الافراط في التفسير بالمؤامرة: الوجه الأول يكاد يفسر كل ما يقع من أحداث سلبية في الأمة بالمؤامرة"، والتفريط في التفسير بها. "والوجه الثاني يذهب إلى الطرف النقيض من خلال رفض تفسير أي حدث من الأحداث بالمؤامرة إلى حد ينكر معه وجود أية مؤامرة". هذا الاستدلال الانشائي المضلل وظيفته تأكيد صحة التفسير التآمري للتاريخ والحال أن هذا الفانتازم لا يمتلك مؤهلات الفرضية، لأنه ما أن يدور الحديث عن تفسير المسارات التاريخية الموضوعية بالمؤامرة، حتى نخرج من التحليل إلى التخييل البارانوي ومن التفسير البرهاني إلى التفسير الهاذي Dژlire d'interprژtation الذي يشكل عائقاً معرفياً يعيق العقل عن تعقّل الاتجاهات التاريخية. وهو عائق لا يعتقل عقل منير شفيق وحسب، بل أيضاً عقول قطاع من المثقفين مما يجعل محاولة رفعه ضرورة. وهو ما سأحاوله هنا باختصار شديد. نظرية المؤامرة ليست فرضية تاريخية قائمة على معطيات موضوعية تساعد المؤرخ على فهم نصف موضوعه كما توهم شفيق، بل هي هُذاء بارانوي يقلب به المريض لاشعورياً مشاعره رأساً على عقب: "انني أكرهه تنقلب إلى: أنه يكرهني" انني اكره اليهودي تتحول إلى: اليهودي يكرهني ويتآمر عليّ! وهكذا ينخرط المريض في الجدلية الجهنمية: هذاء الاضطهاد وهذاء الانتقام الرمزي أو الفعلي من المضطهدين الذين ليسوا غالباً إلا كبش فداء فصلته الذات المأخوذة بعشق ذاتها على مقاسها لتبرر به لاشعورياً عجزها المَرَضي عن ممارسة نقدها الذاتي الذي يمكّنها من وضع أوهامها عن نفسها وعن الآخر موضع تساؤل وشك. لأن الوظيفة النفسية للتفسير التآمرين للتاريخ هي بالضبط تبرئة الذات النرجسية العاجزة عن اكتشاف اختلالاتها البنيوية عبر ممارسة نقدها الذاتي الذي تسميه على لسان منير شفيق "جلد الذات": "أما المنجاة عند منكري نظرية المؤامرة فلا تكون إلا بجلد الذات وإلقاء القمامات عليها وتحميلها المسؤولية ... وهكذا مرة أخرى نكون أمام اتجاه في التحليل ينطلق من رفض نظرية المؤامرة ... متمسكاً بإلقاء الضوء على جانب واحد هو الذات وتحميلها كل المسؤولية فيما آل إليه... ضعفها". تقبيح نقد الذات لذاتها الذي يتحول إلى "جلد الذات وإلقاء القمامات عليها..." يكثّف رهاب منير شفيق من تعرية نواقص الذات. وهذا مفهوم لأن تبرئة الذات حاجة نرجسية لحمايتها من التأنيب والتذنيب. كيف؟ بالبحث عن مشجب تعلّق عليه أخطاءها، عن كبش فداء تحمّله مسؤولية اخفاقاتها وعجزها عن التكيّف مع متطلبات عصرها. على رأس قائمة نواقص الذات، المطلوب تحميلها للاشباح المتآمرين، عجزها البنيوي عن التحليل العقلاني للمواقف، أي حساب الربح والخسارة قبل اتخاذ القرار بالقراءة الصحيحة لموازين القوى بين الدول التي تهزأ باعتبارات العدل والحق الاخلاقية التي لم تعد تزن في موازين السياسة منذ الحداثة حَّبة خردل. في 1830 تصدى الأمير عبدالقادر للجيش الفرنسي زاعماً أنه يتسلح بالفتوى الفقهية "الجهاد فرض عَيْن"، فُهزم لينتهي به المطاف بعد أسره عميلاً لاستخبارات فرنسا وعضواً وقوراً في محفلها الماسوني! أما الأمبراطور الياباني فلم يتسلح في 1853 إلا بقراءة ميزان القوى بين اليابان والولايات المتحدة، لذلك أذعن لكل ما أملاه عليه قائد الاسطول الأميركي لأنه أدرك ان خيار الحرب يعني الانتحار بشق البطن، فأعطت قراءته العقلانية لميزان القوى اليابان المعاصرة. للتفسير التآمري للتاريخ تاريخ طويل لحمته وسداه تبرئة الذات من كل ما ينكأ جراحها النرجسية ويصدع وحدتها: تحت وقع صدمة الفتنة الكبرى، اختُرعت شخصية عبدالله بن سبأ، اليهودي الأصل، و"الذي كان يُبطن الكفر ويظهر الايمان" لتحميله مسؤولية إنشاب القتال بين الجيشين المتواجهين. نلتقي أيضاً بكبش الفداء المتآمر المرصود لاشعورياً إلى إعادة التماسك إلى صفوف "الأمة" المتصدعة في أوروبا القرون الوسطى، حيث ما تكاد تحل هزيمة أو ينتشر وباء حتى يُشار بأصبع الاتهام إلى اليهود وسحرهم الأسود! الاصولية الاسبانية كانت وما زالت تؤكد أنه لولا تآمر اليهود مع المسلمين لما فتح هؤلاء الأندلس! في فرنسا منتصف القرن الرابع عشر تقصّ علينا قصيدة "حكم ملك نافاريا" للشاعر غيوم دوماشو إحدى قصص المؤامرات اليهودية التي ما زالت أشباحها تطارد الاصوليين المعاصرين وجمهورهم الهستيري: يقوم اليهود والمتواطئون معهم من المسيحيين بتسميم الأنهار، الآبار والعيون فتتكفل السماء بفضح المتآمرين بأماراتها الدامغة: "تمطر السماء حجراً، تدمر العواصف مدناً بكاملها، تعمّ الفيضانات ويستمر الجفاف طويلاً. وهكذا تضع العدالة الالهية حداً للجرائم بفضح فاعليها" من اليهود ومَن والأهم الذين يلقون مصارعهم غالباً ذبحاً أو حرقاً. يلاحظ روني جيرار في كتابه "كبش الفداء" ان "الشاعر يعكس رأياً عاماً هستيرياً ... لكن الأموات العديدين الذين تحدث عنهم حقيقيون حصدهم الطاعون الأسود الشهير الذي اجتاح شمال فرنسا بين 1349 و1350، ومذابح اليهود هي أيضاً حقيقية بررتها في نظر الجموع القاتلة شائعات التسميم التي ترددت في كل مكان تقريباً. الرعب العام الذي سبّبه المرض هو الذي أعطى وزناً كافياً لهذه الشائعات لارتكاب المجازر المذكورة"، إذ في فترات الأزمات التي تهشش نفسيات الناس تصبح الجماهير أكثر استعداداً للانفعالات الهستيرية ولاطلاق العنان لهذيانها الجماعي. يعلّل روني جيرار تكّون تخييل المؤامرة اليهودية في رؤوس ناس العصور الوسطى بواقع ان سلطات القرون الوسطى كانت تخشى الطاعون إلى درجة الامتناع عن ذكر اسمه وتالياً اتخاذ التدابير الضرورية للوقاية منه مما جعل عواقبه وخيمة. ينضم السكان على بكرة أبيهم طائعين إلى هذا النوع من التعامي عن الواقع. هذه الإرادة اليائسة المصرة على إنكار الواقع تشجع على مطادرة كبش الفداء اليهودي بتهمة التآمر. ويضيف: "في بعض مدن أوروبا في العصور الوسطى كان اليهود يُذبحون قبل ظهور الطاعون لمجرد سماع اشاعة عن اجتياحه لبعض الأماكن المجاورة". ظهور الحداثة بثوراتها المعرفية المتعاقبة حجّم الفكر السحري الإحيائي لدى جمهور أوروبا الغربية فلم يعرف هستيريا وهذياناً جماعيين من حجم ما روته قصيدة دوماشو على الأقل. لكن الاتجاه التقليدي المضاد للحداثة وعقلانيتها ظل مقيماً على أوهامه. فقد تراءت لأقصى اليمين الفرنسي مؤامرة يهودية - ماسونية وراء الثورتين الفرنسية والروسية. لكن الانتلجانسيا الغربية تدرك أن ذلك لا يعدو أن يكون هذاء التفسير البارانوي. أما حيث ما زال النقل مسيطراً على العقل والخرافة على العلم، فالتفسير التآمري الاصولي لسقوط الخلافة العثمانية بمؤامرة دبرها يهود الدونمة الذين يُنسب لهم مصطفى كمال أتاتورك تخييلاً، ما زال يلقى اذاناً صاغية لدى المثقفين الاصوليين ووزير الدفاع السوري العماد مصطفى طلاس! كما لَمَحَ منير شفيق، بين آخرين، وراء العولمة لا اتجاهاً تاريخياً نحو تدامج السوق الدولية تحمله ثورة اتصالات غير مسبوقة، بل أصابع: "الصهيونية الأميركية ... والاجتياح الثقافي من قبل ثقافة واحدة هي الثقافة الأميركية المصهينة سياسياً"! الجذر التربيعي للمؤامرة اليهودية هو كراهية اليهودي. فما هي الأسباب الموضوعية والنفسية لهذه الكرهية الدفينة؟ خلوّ اليهودية من الإقرار بحياة ثانية بعد الموت. فإله اليهودية على غرار آلهة الديانات القديمة كالرومانية ضامن للخلاص القومي لا للخلاص الفردي. فهو حام لإسرائيل كما أن آلهة روما حامية لحمى الدولة أو المدينة. حال هذا الخلوّ، كما يؤكد فرويد، دون تحول اليهودية إلى ديانة كونية، لأنها عاجزة عن تلبية توجيه الكائن البشري المتمثلة في ديمومة الأنا، أي خلود الروح. بقاؤها ديانة قومية جعلها مكروهة من "الأقوام" المستبعدين من حظيرة شعب الله المختار. تجريم الكنيسة للشعب اليهودي بصلب الرب رغم خلو التوراة من حد الصلب، لأن حد القتل فيها هو الرجم. حمامات الدم التي ارتكبتها المنظمات الارهابية اليهودية أو الدولة اليهودية نفسها ضد الفلسطينيين، واللبنانيين والمصريين منذ دير ياسين إلى قتل الأسرى المصريين في 1967، إلى مذابح صبرا وشاتيلا وقانا... فضلاً عن حرب حزيران يونيو 1967 وحصار بيروت في 1982، أضف إلى كل ذلك رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، باستثناء حكومة رابين - بيريز، السلام مع العرب! العامل النفسي لكراهية اليهود حاول تفسيره المحلل النفسي الفرنسي جون لويس ميزون نوف في كتابه "أقصى اليمين على أريكة التحليل النفسي" الذي كشف الحيل النفسية اللاشعورية التي تشكل قاعدة هذا الهذاء البارانوي المتمكن من النفس البشرية إلى درجة أنه لا يوجد فيه إلا 2000 يهودي من 125 مليون ساكن! لماذا؟ لأن عداء اليهود يحرك تخييلات اليابانيين! السبب؟ لأن كل أمة، كما يقول ميزون نوف، في حاجة إلى يهودي "ها" لاستخدامه كمنفر وككبش فداء في آن. وإذا لم يكن هذا اليهودي موجوداً، فعليها أن تخلقه ليقوم بوظيفة رمزية لا بديل لها: منع انفجار الوحدة القومية وتفكك الاجماع الاجتماعي الذي استطاع به كل واحد من أعضاء الأمة ان يعيد بناء الاندماج والذوبان الاصليين في جسد الأم. لهذا السبب لا بد من خلق اليهودي إن لم يكن موجوداً كتخييل ضروري للتأكد، عبر الاتصال به، من أن "نحن" أي العائلة، القبيلة، الطائفة، الدولة والأمة موجودة حقاً والدليل على وجودها هو استبعاد اليهودي من حظيرتها. اليهودي بتأكيده لهويته، ببقائه "آخداً" يطمئن غير اليهودي، أي الذين يفرون من فرديتهم، يحتجون على انتقالهم من الطفولة إلى الرشد، على استقلالهم عن جسد الأم المرضعة. كيف؟ الأجنبي، خصوصاً اليهودي، يعيدان إلى ذاكرة رضيع الأمس وراشد اليوم ذكرى مأساته التي عاشها كرضيع بين الشهرين التاسع والعاشر بعد الولادة عندما فطمته أمه، أي فصلته عن جسدها. مأساة قطيعته وانفصاله عن جسد الأم هي التي جعلت نفسياً من الأجنبي، خصوصاً اليهودي، "كبش الفداء" التاريخي. يقول ميزوف نوف: اليهودي يخاطب في كل منا جرحاً نرجسياً لم يندمل: جرح فطامنا وانفصالنا عن أحضان الأم الذي استقر في لاشعورنا كقطيعة، كخِصاء أبدي، كموت وكمأساة لشرطنا الانساني لا تعلو عليها مأساة. كراهية الأجنبي واليهودي دفاع لاشعوري ضد هذه المأساة الجارحة، ضد استقلالنا الجسدي والنفسي الضروري والمؤلم في آن عن آلام وحنين جارف إلى تلك الراحة النرجسية التي يوفرها اندماج الرضيع بجسد أمه. "الأعداء" هم الأجانب واليهود الذين تتهمهم شتى الأصوليات بأنهم غير قابلين للاندماج في ال "نحن" في "الأمة" أي في جسد الأم. هَوَس الاصوليين بالعودة إلى الاصول، إلى الأصالة. أي إلى ما قبل الحداثة، إلى الماضي، إلى التراث تعبير لاشعوري عن الحنين إلى الطفولة الأولى، إلى التبعية الكاملة لجسد الأم أي إلى ما قبل الفطام، إلى ما قبل الانفصال عن جسد الأم. يحاول رضيع الأمس الذي غدا اليوم راشداً في عين القانون لا في عين نفسه أن يتناسى مأساة أنه أصبح فرداً وحيداً ومستقلاً عن الأم بالنكوص إلى الاندماج بها من خلال اندماجه في "نحن" الكيانات الجمعية التي ترمز إلى بطن الأم. اتهم شارل مورا Maurras منظّر اليمين الفرنسي في ما بين الحربين، أحد محاميي دريفوس بأنه "متشبع باليهودية"، عدو للدولة ونصير للفردية" الحديثة الكريهة لأنها فصلته عن الأم. هذا النكوص العارم إلى ماضٍ مضى يعبّر، كما يقول المحلل النفسي الفرنسي، عن غريزة الموت التي تدفع دفعاً شتى الاصوليات إلى الحنين إلى أشكال عنيفة للذة "الطفل العاري"، الرضيع، قبل مأساة اكتشافه لفرديته، لحريته، لاستقلاله عن جسد الأم بالفطام ودفاع ضد غريزة الحياة المنفتحة على المستقبل!