لم تمر الذكرى الأربعون لحرب حزيران 1967 قبل شهرين مرورا اعتياديا أو احتفاليا كما عهدنا سابقا. كثير من الكتاب والمعلقين والمحللين الإسرائيليين اعتبروا أن تبعات هذه الحرب أثرت سلبا على الدولة وكينونتها، فهي حرب لم يتبعها السلام أو توفير الأمن بقدر ما أتبعها التقوقع على الذات وعلى استجلاب الأمن. ومن حرب فاشلة أو خاسرة على لبنان في صيف العام الماضي 2006 إلى العودة لبحث التفاوض مع سوريا للانسحاب "المشروط" من مرتفعات الجولان، لا يزال الصراع يحتدم داخل إسرائيل حول كل من الأمرين، يأتي صدور كتاب "الانتصار على هتلر" لصاحبه "إفراهام بورغ" رئيس الكنيست سابقا، ليضيف سجالا إضافيا داخل الأوساط السياسية والثقافية والدينية الإسرائيلية. ذاك أنه أحدث صدمة قاسية لدى النخبة الإسرائيلية بعد إعلانه جهارا نهارا "طلاقه" للصهيونية، ومطالبته بإلغاء الطابع اليهودي لدولة إسرائيل.ولا تنبع أهمية وتاريخية ما جاء في كتاب بورغ لأن مؤلفه هو رئيس سابق للكنيست ومن قادة حزب العمل سابقا، بل لأن بورغ شغل سابقا منصب رئيس الوكالة اليهودية التي تعتبر أهم وأكبر مؤسسة تجسد الفكرة الصهيونية، علاوة على مسئوليتها عن تهجير يهود العالم لإسرائيل، ولأنه (بورغ) أيضا نجل الدكتور يوسف بورغ من مؤسسي حزب "المفدال" الديني المتطرف، والذي ينظر إليه كرمز "وطني" وظل وزيرا معظم فتراته كان وزيرا للداخلية في حكومات إسرائيل من العام 1948 حتى العام 1983. وقد اعتزل بورغ الحياة السياسية بعد تركه منصب رئاسة الكنيست، وهو الآن رجل أعمال وناشط في حركة "السلام الآن" المناهضة للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويبدو أن هذا الكتاب سيكون "المؤلَف الصدمة"، ولن يتوقف النقاش حوله إلا بعد فترة ليست بالقصيرة، فالشاهد هذه المرة من "أهلها". وقد بدأ الساسة وممثلو النخب المثقفة في إسرائيل يتبارون في مهاجمة بورغ. رئيس الكنيست الحالي والمرشح لرئاسة الدولة "روبي ريفلين" اعتبر أن الكتاب سيكون أفضل سلاح في أيدي أعداء إسرائيل لمهاجمتها، في حين اعتبره نائب رئيس الوزراء إفيجدور ليبرمان جريمة ضد الشعب الإسرائيلي. وفي كتابه، يسخر بورغ من زعم إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية، معتبرا أنه لا يمكن الجمع بين اليهودية والديمقراطية. ويسدد بورغ سهامه لعدد من "الأبقار الصهيونية المقدسة"، ويطالب بالتنازل عن الطابع اليهودي، قائلا: "إن الدولة هي وسيلة علمانية لا تهتم تماما بالشحنة الروحانية أو الصوفية أو الدينية... إن تعريف إسرائيل أنها دولة يهودية يصبح شيئا قابلا للانفجار".ويشير بورغ إلى أن مفتاح نهاية إسرائيل هو الطابع اليهودي للدولة؛ لأنه - وعلى خلاف ادعاء الحركة الصهيونية بأن إسرائيل هي دولة يهودية وديمقراطية - لا يمكن الجمع بين اليهودية والديمقراطية،. وبالتالي يرفع بورغ شعارا ينكر الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، بل يطالب بإلغاء تعريف الدولة في القانون الأساسي على أنها دولة اليهود، قائلا: "أن نسميها دولة يهودية على أساس ديني أو عقائدي فهذا أمر مرفوض، ثم نضيف لتسميتها ديمقراطية.. عندها يصبح الأمر غير قابل للاحتمال". وأضاف: "إن هذه المعادلة المسماة دولة اليهود غير مجدية ولا تعمل أبدا.. أن تطلق على إسرائيل تسمية دولة اليهود، معناه تحديد نهايتها منذ الآن... دولة يهود هذا يعني برأيي مادة قابلة للانفجار". وينتقد الكاتب الكثير من القوانين التي يعتبرها صهيونية وعنصرية مثل قانون العودة الذي يضمن لكل يهودي في أي بقعة من العالم الحق في الهجرة إلى إسرائيل وأن يصبح مواطنا فيها، ويطالب بإلغاء هذا القانون "الاعتذاري" الذي يمثل مرآة تعكس صورة هتلر، قائلا: "لا أريد أن يحدد لي هتلر هويتي... أنا كديمقراطي وكإنساني يفرض القانون علي تناقضا... قانون العودة يفصل بيننا وبين يهود الشتات وبيننا وبين العرب".ويرجع بورغ دعوته لحل الحركة الصهيونية إلى كون مؤسس الحركة "تيودور هرتزل" ذاته قد قال: إن هذه الحركة "كانت بمثابة الصقالة لإقامة البيت ولكن يجب حلها بعد إقامة الدولة". الاستلاب لمفهوم القوة وهاجم بورغ بشدة استلاب المجتمع الإسرائيلي لمفهوم القوة، قائلا: "أحب أن تعرفوا أن الإسرائيلي يفهم القوة فقط... لو كان شخص ما كتب أن العربي يفهم القوة فقط أو أن التركماني يفهم القوة فقط، لكان اتهم فورا بأنه عنصري". وأضاف: "أرى مجتمعي يذوي أمام ناظري... أردت أن يدرك التيار المركزي أنه عندما ندع الجيش ينتصر (بحسب الشعار الإسرائيلي الذي يرفعه اليمين الإسرائيلي)، فإنه غير قادر على ذلك (وغير قادر على) أن يعي أن القوة ليست هي الحل... إن الحديث عن محو غزة مثلا يدل على أننا لم نستوعب الدرس". ويرجع بورغ هذا الاستلاب لمفهوم القوة إلى عدد من العناصر، أهمها أن ثمة إحساسا كبيرا بالمهانة القومية، وإحساسا برفض العالم، وهزائم لا تفسير لها في الحروب. وكان من نتيجة ذلك مركزية الإيمان بالقوة في الهوية، ومكانة ضباط الاحتياط في المجتمع، وكمية المواطنين المسلحين في إسرائيل في الشارع. ويرى بورغ أن الاستلاب للقوة قد جعل من إسرائيل دولة "جيتو صهيوني" تمارس الاغتيالات والقتل بحق الفلسطينيين، وتندفع نحو الحروب بتسرع. وهنا وبرغم إشادته برئيس الوزراء إيهود أولمرت واعتباره موهوبا، فإنه ينتقد اتخاذه قرار الحرب على لبنان، قائلا: "إنه بذلك يفكر على طريقة الرئيس الأمريكي جورج بوش". ولم يغفل بورغ الحديث عن السلاح النووي الإسرائيلي ومركزيته في هذه المعادلة، ويعتقد أن هذا السلاح خطر على إسرائيل لأنه يفقدها مصداقية الحديث عن السلام. يقول بورغ في ذلك، في حوار مع صحيفة هآرتس يوم 9 يونيو الجاري: "سيكون يوم حل القنبلة أهم يوم في حياة دولة إسرائيل .. سيكون هذا هو اليوم الذي سنحرز فيه صفقة حسنة جدا مع الجانب الثاني بحيث لا نحتاج إلى قنبلة .. يجب أن يكون هذا طموحنا... أنا متفائل جدا على نحو عام... ابتدأت الكتاب حزينا لكنني انتهيت منه متفائلا". مجتمع مذعور ودولة فاشية ويعتبر بورغ أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع "مذعور" من جانب، ومصاب بمرض الذهان (بارانويا) من جانب آخر، وهو في هذين السمتين يشبه المجتمع الألماني ما قبل النازية. ويقول: "إننا معوقون نفسيا، وإسرائيل تعاني صدمة نفسية دائمة... صدمة النازية أفقدتنا توازننا... إننا نعيش بشعور أن كل العالم ينفر منا... التشدد يسيطر على هويتنا... إننا مجتمع يعيش على سيفه، وهذا الشعور ورثناه من ألمانيا، وكأن ما سلبوه منا خلال 12 عاما يحتم أن يكون سيفنا كبيرا جدا... أليس جدار الفصل الذي نقيمه في الأراضي الفلسطينية خير دليل على انفصام الشخصية الذي نعانيه؟.. إن (جدار الفصل) ناجم عن هذه البارانويا... إنه يعني أن ثمة همجيين وراء ذلك الخط. وهذا نوع من كره الأجانب ومثير للشقفة". ويندد بورغ أيضا بعمليات "التصفية" التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في حق الناشطين الفلسطينيين، بل اعتبر أن "بعضها جرائم قتل".وبسبب هذا الذعر النفسي وسيطرة كل ما هو أمني على العقل اليهودي، يرى بورغ أن إسرائيل باتت مع الوقت دولة فاشية بها كافة المناحي العنصرية القاتلة. يقول بورغ: "الفاشية هنا الآن... إسرائيل دولة بلطجية ومستقوية وقاسية وإمبريالية وسطحية فاقدة لأصالة الروح ومنطوية على نفسها... الدعوات المتتالية إلى قتل الفلسطينيين وهدم منازلهم وترحيلهم والقتل وشرعنة سياسة الترحيل (الترانسفير) من خلال مشاركة أصحاب هذه السياسة في الائتلاف الحكومي، دليل كاف على انتشار الفاشية". ويضيف: "لقد تجاوزنا عددا هائلا من الخطوط الحمراء في السنوات الأخيرة... وهناك احتمال لا أستبعده ولا يستهان به لأن يشرع الكنيست في السنوات المقبلة قوانين ضد العرب تضاهي بعنصريتها قوانين نورمبيرغ، مثل حظر التزاوج بين فلسطيني 1948 واليهوديات، وأن تمنع بوسائل إدارية العرب من تشغيل مساعدات بيوت وعمال يهود.. سيحدث كل هذا، بل إنه أصبح يحدث بالفعل".