مع كل انتاج سينمائي سوري جديد يعاد فتح ملف الاشكالات التي تعاني منها السينما السورية، وهي اشكالات قائمة منذ عدة عقود، لم يتم يتجاوزها حتى الآن، بل وتزداد تعقيداً مع تسارع التطور في عالم السينما. في هذا الحوار مع المخرج السوري نبيل المالح، حاولنا الوقوف على بعض تلك الاشكالات، كونه واحداً من أهم معاصري السينما السورية، والعاملين فيها. قدم نبيل المالح للسينما السورية مجموعة من أفضل أفلامها، مثل "كومبارس" و"الفهد" و"بقايا صور"، كما كانت له تجربة مميزة في الانتاج الفني بشكل عام. كانت انطلاقة السينما السورية مواكبة لانطلاقة السينما المصرية التي بدأت في العشرينات تقريباً، إلا أن السينما المصرية استطاعت ان ترسي دعائم صناعة سينمائية متينة، في حين لم تصل السينما السورية الى مرحلة الصناعة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ما تعليلك لذلك؟ - لا بد من الاعتراف ان السينما، وإلى حد كبير، هي صناعة، والسينما في سورية لم تعامل كصناعة الا في فترة الستينات. عوملت السينما على أساس انها فعل شجاعة من قبل بعض الهواة وحالة عشق منهم لهذا الفن، ولم تكن هناك مؤسسات تقنين هذا العشق. وفي منتصف الستينات دخل نادر الأتاسي حقل الانتاج لاعتبارات عديدة قد تكون تجارية أو لحبه للسينما، وكان يفهم ان السينما صناعة، فاستثمر أمواله في الانتاج السينمائي بالتعاون مع تحسين قوادري، الى جانب عبدالرزاق غانم وفايز سلكا والأول مستمر حتى الآن في الاستثمار والتوزيع السينمائي وأسماء أخرى ظهرت واختفت. وهؤلاء جميعاً تمكنوا من صنع سينما القطاع الخاص، رغم المآخذ على تلك الصناعة كاستعارة انموذج الفيلم المصري وموضوعاته. وبعد انشاء المؤسسة العامة للسينما أصبحت هي الجهة الوحيدة المنتجة للعمل السينمائي، وقد صنعت سينما وطنية رغم قلة الأفلام التي انتجتها. كانت تلك الأفلام رغم بعض هناتها، على مستوى فني وتعبيري جيدين. وحاولت المؤسسة استكمال بناها التحتية والحرفية لانشاء صناعة سينمائية سورية لكنها لا تزال في طور المحاولة حتى اليوم. الفيلم السوري لا يمتلك سوقاً عربية بسبب هيمنة الفيلم المصري والسياسة الترويجية للجهة المنتجة وطريقة صنع النجوم وتقديمهم، وهي خبرة لا نمتلكها في سورية. ومع هذا حققنا أفلاماً صارت ذات صفة عالمية. لنعرف كيف نقدم العمل إن أرقام التوزيع وخارطته لا تدلان على وجود صفة العالمية في الفيلم السوري؟ - المسألة تحتاج الى مؤسسات مختصة بترويج الفيلم السوري، ونحن بصدد السؤال عن الأولوية، هل هي للترويج أم لصناعة الفيلم؟ هناك من يقول ان الأفضل هو انتاج الفيلم بدلاً من انفاق الأموال على الملصقات والاعلانات والعلاقات العامة. ويجب أن نتذكر ان ميزانية المؤسسة لها حدود، والأولوية لتسخير الأموال لتحسين الانتاج وتحسين القاعدة التقنية. القضية أيضاً هي وضع رؤوس أموال لعملية التسويق لا للانتاج فقط. يجب أن نعرف كيف نقدم العمل ونرعاه ونقنع به العالم. في كثير من الأحيان يتعرض الفيلم لدينا اما لمديح زائد أو لنقد حاد، دون قراءة نقدية حرفية. الفيلم السوري بحاجة الى دراسات نقدية جادة، وقد صدرت مثل تلك الدراسات في الخارج ووضعت الفيلم السوري في مكانته الصحيحة، لكننا لم نستفد منها ولم نقرأها في صحفنا. هناك مخرجون يتهمون القطاع الخاص بهبوط المستوى وكأن الجودة تتعارض مع النجاح التجاري؟ - هذا منطق متعال وغير جاد. من شروط العمل الجيد وجود متلق، وهذا المتلقي لا يحدد مقدما. يجب ايجاد المفردات المناسبة للتواصل مع المتلقي دون الاستخفاف به أو التقليل من ذكائه. ان مقياس الانتشار ليس مقياساً تجارياً وانما مقياس الاستقبال، والوجبة الفكرية اذا صنعت بشكل جيد ستجد من يتلقاها، وانصراف الناس الى الرخيص سببه عدم توفر الجيد. ان سقوط فيلم ما سببه المخرج وليس الجمهور، والفيلم الناجح هو الذي يجد نقاط التواصل مع الجمهور، وسيكون الانتشار أوسع كلما اكتشف المخرج مفاتيح التواصل مع المشاهد. ففي داخل كل مشاهد شيء جميل وساحر وعلى المخرج ان يكتشف ذلك الشيء ويتواصل معه. كثيراً ما يقال اننا لا نمتلك أساسيات صناعة السينما، كمعامل التحميض والطبع والتجهيزات الحديثة، ما مدى دقة هذا القول؟ - هذا الكلام غير دقيق لأن المؤسسة العامة للسينما تستكمل أدواتها التقنية بشكل مستمر. لدينا اليوم معمل تحميض وأجهزة صوت متميزة وفنيون. لكن ما يلعب الدور الأساس هو وتيرة الانتاج، فعندما يكون هناك خمسة أفلام قيد الانتاج فإن ذلك سيحقق تطوراً في نوعية الأداء، اما قلة الانتاج فتنعكس بلا شك سلباً على الخبرة ونوعية العمل. الأساسيات موجودة لكن المشكلة هي القصور في تمويل الخطاب الثقافي، وأنا أخص هنا رجال الأعمال والممولين، فهم بعيدون تماماً عن العملية الثقافية. والمؤسسة العامة للسينما تفعل ما في وسعها للحصول على تمويل لمشاريعها السينمائية وبناها التقنية. نحو صندوق وطني للسينما ألا تعتقد ان بعد الممولين سببه التعقيدات الكبيرة لنظم الدولة والقطاع العام التي تقف حائلاً أمامهم في استثمار أموالهم في المجال الثقافي؟ - لو كان هناك صندوق وطني للثقافة، ينشأ من فرض ضريبة معينة على كل رؤوس الأموال لوجدنا انقلاباً هائلاً في المنتج الثقافي. وأنا أطالب بانشاء صندوق وطني للسينما والتلفزيون أو للثقافة عموماً. ويجب أن يدير هذا الصندوق مثقفون ضمن استراتيجية ثقافية واضحة. وهذه التجربة موجودة في أوروبا واليابان وأميركا وكندا واستراليا، وبأشكال مختلفة. وهي فكرة ممكنة التحقيق نظراً للامكانيات المالية المتوفرة إذا توقف الهدر في كثير من المظاهر التي نراها كل يوم. المعروف ان المؤسسة العامة للسينما تشرف مباشرة على انتاج فيلم جاد وثقافي، لماذا لا يشارك القطاع الخاص في الانتاج، حتى لو انتج كماً كبيراً من الأفلام لا بد أن يكون بعضها جيداً أو مقبولاً، لا سيما وان هناك معادلة تجارية تقوم عليها الصناعة يجب أخذها بعين الاعتبار؟ - طبعاً على القطاع الخاص ان يشارك في الانتاج، أما استراتيجيات انفاق موارد الصندوق الوطني للسينما فيجب أن يترك قرارها للمفكرين والسينمائيين. ان تعاون القطاعين العام والخاص في انتاج الدراما السورية كان تجربة مثمرة، أليس كذلك؟ - لا أحد يمكنه أن يؤكد ان الدراما السورية تعتبر جزءا من الاستراتيجية الثقافية، فالدراما التي نجحت جاءت تكريساً للماضي وليس قراءة للمستقبل. لا يوجد أي عمل يناقش الوضع العربي القائم حقاً ولا ما هو قادم. ليس لدى هذه المسلسلات سوى هدف واحد هو أن تكون مقبولة من قبل المحطات العربية لتحقيق الربح وبدون أي منظور استراتيجي ثقافي. وبالنسبة لتعاون القطاعين العام والخاص فهو موجود نظرياً في أنظمة المؤسسة لكن الجانبين لم يقبلا عليه كثيراً. اعتقد ان الطريق مفتوح للقيام بانتاج مشترك مع المؤسسة، فأنا على سبيل المثال أحضر حالياً لانتاج فيلم بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما، سيكون سابقة لاقبال المنتجين والمخرجين غير الموظفين في المؤسسة، وهذا سيزيد وتيرة الانتاج دون شك في حال نجاح التجربة. برأيك هل خدمت المؤسسة العامة السينما كصناعة؟ - نعم انها أنشأت قاعدة تحتية لصناعة السينما، وهي تملك اليوم المعامل والاستوديوهات والمعدات، والحاجة الآن اما زيادة التمويل للمؤسسة أو وضع استراتيجيات جديدة وفق المستجدات التقنية والفنية في العالم وهذا يتطلب اجتماع السينمائيين لتقرير الاستراتيجيات المطلوبة بالتعاون مع مؤسسات السينما. المشاهدة السينمائية خُنقت بالنسبة لحصر الرقابة والاستيراد في المؤسسة ألم يخنق هذا، الانتاج السينمائي الخاص؟ - هذا صحيح، لقد أدى الى خنق المشاهدة السينمائية، ويمكن إعادة النظر في هذا المرسوم، ومن الممكن تواجد القطاع الخاص الى جانب استمرار المؤسسة العامة للسينما كجهة حاضنة للمشروع السينمائي السوري ككل. من موقعك كمخرج سينمائي، ومتابعتك للسينما العربية ترى أين تقع السينما السورية على خارطة السينما العربية؟ - رغم قلة الانتاج يمكن اعتبار السينما السورية من أهم السينمات الوطنية العربية. هناك تنوع في المواضيع والمعالجات، ومع أن قلة الانتاج تفقد المهارة التقنية والتلقائية، وهذا أمر ملاحظ في السينما السورية، فالمخرج والفنان يحتاجان دائماً لشحذ أدواتهما، فأنا أفضل صنع عشرة أعمال عادية أو متوسطة الجودة في التلفزيون أو السينما على التوقف فترات طويلة لانتاج عمل مميز. نلاحظ انه رغم ضآلة الانتاج فثمة أفلام تناولت مواضيع متشابهة تخص فترة زمنية محددة، "كالليل" و"الترحال"، ألا يعد هذا تكراراً؟ - ان لكل مخرج أدواته وخبرته وأشكاله الفنية، والسمة العامة للسينما السورية هي الجدية، الزائدة عن اللزوم أحياناً، كأن المخرج يريد ان يثبت جدارته عن طريق التعامل الجاف مع الهموم والمعطيات التي يتعامل بها "لخلق سينما جادة ينبغي ان أكون جاداً"، هذا مفهوم متخلف في رأيي. النقطة الثانية هي ان كل مخرج يعتقد أن فيلمه الذي يخرجه سيكون الأول والأخير لذلك يحمّله جرعات من الأفكار والأشكال الفنية المتباينة الأمر الذي ينتقص من فنية العمل. الميزة المهمة في السينما السورية هي ان معظم المخرجين جاد في محاولة صنع شيء مهم. هناك نواقص حرفية وتقنية وتعبيرية واضحة المعالم، لكن هناك لحظات تألق هامة جداً في المقابل. الجيل الجديد من المخرجين اتجه نحو سينما السيرة الذاتية وكأن كل مخرج يحاول تقديم نفسه قبل تقديم الفيلم، بم تفسر هذا؟ - التوجه نحو السيرة الذاتية حصل في عدد محدود من الأفلام، ولا يعتبر توجهاً عاماً للسينما السورية. البعض يعتقد أن الحركة داخل مائه الخاص أفضل من المغامرة نحو عوالم ليس متأكدا منها، وهي طريقة لمقاربة العالم المحيط، لكن لا يمكن القول انها ظاهرة شائعة، فهي لا تعدو أن تكون محاولة. كانت السينما في عقدي السبعينات والثمانينات تقارب القضايا القومية والهموم الكبرى، ما هو التوجه اليوم؟ - تقع السينما في حالة ضياع كثيراً من الاحيان. هناك مسألة الرقابة، مع ان هامش الرقابة في المؤسسة العامة للسينما هامش واسع قياساً للرقابة العربية. وكمخرج تمر بي حالات قلق وجودي، فكثيراً ما أشعر كم هي ملحة قضية فلسطين وتؤثر على حياتي اليومية، لكنني لا أقاربها في عمل سينمائي كونها في حالة غليان وتحول، وأي فيلم انتجه عنها سيصبح قديماً في فترة قصيرة. لذلك لم أصنع سوى أربعة أفلام قصيرة عن القضية الفلسطينية. الحرب اللبنانية التي دمرت المنطقة، لم يكن من الممكن تناولها قبل فترة لأن الفيلم الذي يتحقق ضمن حالة الغليان لن يكون موضوعياً تماماً. ربما اليوم يمكن مقاربة الحرب اللبنانية بموضوعية. السينمائي هو شاهد عصره وله الحق ان يتحدث عن الهموم الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية التي يعيشها وطنه... ولكن لا يمكنه ذلك إلا مع حفظ الفاصل الزمني. لكن السينما السورية نفذت فيلم "كفر قاسم" في وقت ليس بعيداً عن الحدث، ورغم مضي عدة عقود ما زال الفيلم مؤثراً كونه وثيقة ادانة لجرائم اسرائيل ضد الفلسطينيين. ان ابتعاد السينما اليوم عن الهم القومي لم يكن لصالح الاقتراب من الواقع اليومي المعاش كما يجب؟ - المنتج الثقافي العربي عموماً بعيد عن الواقع اليومي للناس، اذ سار المنتج الثقافي المروج اعلامياً باتجاه غير متوافق مع الواقع العربي الحي. فالاعلام صنع واقعاً موازياً، غير موجود، عبر المسلسلات والبرامج والأخبار والندوات، في حين ان هناك حياة عربية مهملة تسير من سيء الى أسوأ. وهذا ما يتجلى في الشرذمة العربية وزيادة مهانة المواطن العربي وتهميشه واتساع الفوارق الطبقية، كل ذلك ضمن المستجدات العالمية التي لا تقاربها الثقافة والاعلام الرسميين الا بشكل شاحب. وكأن ثمة اتفاقاً غير معلن بين التلفزيونات والاذاعات على نوعية معينة من البرامج والمسلسلات لتكريس ما هو سائد أو ما كان دون البحث فيه. ليس هناك بحث في ما يحدث اليوم أو ما سيحدث مستقبلاً. ومن موقعي كسينمائي أرى ان من أولويات عملي اليوم مقاربة الحياة اليومية للبشر وإعادة الاعتبار للحلم والرفض والحوار وحق المواطن في المساهمة بما يجري وما يتعلق بمستقبله.