اقتصر الحضور العربي في مهرجان "فجر" السينمائي الدولي على عدم لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ففي بادرة شجاعة تعتبر الأولى من نوعها حضر المخرج المصري خيري بشارة ومواطنه الناقد الدكتور رفيق الصبان، وكذلك الناقد السوري صلاح دهني ومعه المخرج السوري محمد ملص وكاتب هذه السطور. وكانت تلك الاحتفالية مناسبة للحديث عن واقع السينما الايرانية وحال السينما العربية وشجون اخرى جمعتني مع المخرج محمد ملص وكان من بينها هذا الحوار. فالمخرج ملص صاحب فيلمين روائيين "أحلام المدينة" 1984 و"الليل" 1992، وأربعة أفلام وثائقية "قنيطرة 74" 1974 و"الذاكرة" 1975 و"فرات" 1980 و"المنام" 1987. تحضر هذا المهرجان للمرة الأولى، كيف ترى السينما الايرانية عبر هذه التظاهرة باعتبارك مخرجاً مكرساً؟ - في الحقيقة حضوري المهرجان بحد ذاته فرصة كبيرة ومهمة للتعرف عن كثب للآليات التي تقف وراء هذه السينما - الظاهرة، سواء على صعيد الانتاج أو التنوع. لقد أتيحت لي مشاهدة عدد مهم من الافلام الايرانية، التي لفتت انتباهي وأثارت لدى الفضول من خلال متابعاتي لنتاجها في المهرجانات الدولية أو صالات العرض السينمائي، خصوصاً ان هذه الظاهرة تلفت النظر وان الكثير من نتاجها تمكن من إحداث نقلة نوعية كبيرة سواء على صعيد اللغة السينمائية أو على صعيد التعبير والموضوعات المطروقة. فقد تمكنت هذه السينما من ان تصل ليس الى المشاهد الايراني فقط، وانما أثارت اهتمام المشاهد الأوروبي الآخر، فتبنتها البلدان الأوروبية وكرستها وأتاحت فرصة مشاهدتها للجمهور. أقول انها فرصة مناسبة ان تتاح لي مشاهدة هذه الافلام في بلد الانتاج وبين ما يمكن وصفه بفضاء الحياة، فبين مشاهدة الفيلم والخروج الى الشارع لا يتولد لديك احساس النقلة الكبيرة بين ما شاهدته ونبض الشارع الزاخر بحركة الناس والسيارات. وضمن هذا المناخ أو الفضاء لا بد من ان يكون استقبال الفيلم ذا مذاق خاص ومؤثر. لقد عزمت منذ وصولي الى هذا المهرجان على ان أكرس أكبر وقت ممكن لمشاهدة هذه الافلام ومقاومة الرغبة بمشاهدة أفلام من بلدان أخرى. ما الذي استوقفك في هذه السينما؟ - لا بد من القول ان السينما الايرانية تستوقفني وقفة طويلة من زوايا وجوانب متعددة ومختلفة وربما لآلام متنوعة تعيشها السينما في البلدان العربية. فهذه السينما تستوقفني بهذا الكم من الانتاج، وهذا التنوع على صعيد اللغة السينمائية، وهذا المناخ الذي تعيشه الصناعة في هذا البلد وكيفية تعاملها مع الرقابة. وأتساءل مطولاً: كيف تمكن السينائيون الايرانيون من التعايش مع معطيات النظام الحالي، واستطاعوا ان يصيغوا لأنفسهم طريقة في التعبير لم تكن سيئة بل كانت منشطة وفعالة تمكنوا من خلالها من استنباط لغة تتحايل على الرقيب من أجل استمرار هذه السينما؟ ولكني في الوقت نفسه لا استطيع ان أكون حكماً على الحياة السينمائية بمجملها في ايران، أو ان أكون قادراً على تحديد مدى تقويم واستقبال الجمهور الايراني لهذه الأفلام، أو مدى مساهمة النقد السينمائي في تحقيق الموازاة النقدية الضرورية لوجود الانتاج وتنوعه ومجالاته التعبيرية. انني مهتم بمجمل الجوانب التي ساعدت في صياغة فرص التعبير المتاحة وساهمت بنمو هذه الظاهرة. لذا أحاول التعرف على المدارس المؤسسة لهؤلاء السينمائيين الذين تبين لي ان الكثيرين منهم درسوا السينما في وطنهم ما يدل على وجود فرص فنية يمكن تسميتها "أكاديمية الكوادر السينمائية الايرانية". أحاول أيضاً التعرف على قوانين ونظم الانتاج المتبعة في مؤسسة الفارابي، فواقع الانتاج استطاع ان يصيغ لنفسه فرصاً مساعدة كبيرة بحيث لم تحتكره الدولة، بل هي حاولت عبر مؤسسة الفارابي المساهمة في الانتاج وتقديم المساعدات المالية الضرورية لدعم هذه السينما. ما هي الأفلام التي وجدت فيها لمسة خاصة؟ - أتيحت لي الفرصة لمشاهدة كماً كبيراً من الافلام، وهذا يحتاج الى مزيد من التأمل والتفكير لاعطاء تقييم دقيق خال من الانحياز والحب الشخصيين لبعضها، تقييم من زاوية أين تتميز هذه الافلام وأين تكمن عناصر ضعفها؟ كانطباع أولي توقفت عند عدد من الافلام منها شريط "رقصة التراب" لأبو الفضل جليلي، فهو شريط مدهش وجميل وصادق بل خارق الدهشة وفائق الجمال، وله لكنته التعبيرية الخاصة ولمسته الشخصية في اختياره لموضوعه. وعلى رغم ميلي للبحث عن الخصوصية التي تميز السينمائي في خياره التعبيري، فإنني أحس بأن عدداً من الافلام استطاع ان يمتلك فعلاً هذا الصوت الداخلي للمؤلف السينمائي المحسوس في كل لقطة وعبر كل تكوين وتتابع حدثي أو درامي أو جمالي. ربما استوقفك، وهذا ما استوقفني ايضاً، ان بعض الافلام التي شاهدناها لا تتميز في الصنعة بقدر ما تتميز في الهواجس التي تشغل بال السينمائي، وربما كان فيلم "ساغر" أحدها، فالهواجس التي تشغل مؤلفه، على رغم الملاحظات العديدة التي أحسستها عند مشاهدته، تقاطعت مع هواجسي الداخلية ليس على صعيد طريقة التعبير وانما على صعيد الافكار التي تشغل بال مؤلفه. وأرى ان شريط "سيدة شهر مايو" للمخرجة الممتازة رخشان بني اعتماد يفصح ويعبر مرة اخرى عن كونها مخرجة متمكنة على صعيد صناعة شريط شخصي ومختلف، وكذلك على صعيد التعبير السينمائي. اعتقد ان مشاهدة 15 فيلماً تحتاج الى حديث مطول، وكل واحد منها يتيح فرصة قراءته بمستويات متعددة مختلفة. ولكن بصورة عامة، لفتني بقوة ان يلجأ أحد المخرجين للحديث عن البيئة في فيلم لا استطيع قراءته إلا قراءة سياسية بحتة. لقد أذهلني ان يستطيع مخرج تحويل الشعب كله الى شعب يعيش على الكمامات وزجاجات الاوكسجين ويخرج من المدينة الى مكان مجهول في الأعالي حيث يختفي وراء الجبل. ان المذاقات ومستويات القراءة المتعددة تنبهنا أيضاً الى اللغة التي يلجأ اليها السينمائي والى فرص التعبير التي تجتاز ما يحيط بها من صعوبات رقابية أو غيرها. اعتقد بأن السينما الايرانية على حالتها هذه تعلن الانذار وتشعل الاضاءة الحمراء حول الواقع. انني أضعها تحت عنوان كبير بكونها سينما السؤال والتساؤل، انها سينما لم تعش مرحلة الانضباط واليأس أو الفشل كما في بلدان أخرى. وطرح السؤال يفضي الى اختيار الطريق وتلمس الأمل، وهنا أقول انه من سوء حظنا ان السينما الايرانية نجحت من حيث فشلت السينما العربية. نحن عشنا مرحلة السؤال والأمل في منتصف الستينات، وربما قبيل وأثناء وما بعد هزيمة حزيران، إذ كان الأمل بالحياة وإعادة بناء المجتمع سواء على أسس قومية أو على أسس من الديموقراطية والحرية. بيد أن الايديولوجيا بكل أشكالها لعبت دوراً كبيراً في تفويت فرصة استخراج محاولة للجواب على السؤال المطروح. وعلى رغم التفاوت الزمني بين بلداننا وايران، فقد استطاعت السينما الايرانية ان تعيش السؤال حول الأمل بالثورة الاسلامية، بينما فشلنا نحن في خلق نهضة سينمائية توازي طموحاتنا، فلقد اختنقنا ولم نعد نتمكن من التعبير. نحن لا يمكننا اليوم أن نصنع سينما مماثلة للسينما الايرانية، إذ قضت تجربتنا على الاسئلة كلها وربما لم يبق لنا سوى سينما تعبر عن الذاكرة وغياب الأمل. في معرض اجابتك تطرقت الى أكثر من نقطة، لكني أتوقف عند السينما الايرانية وتمكنها من اختراق شيئين مهمين: الانتاج والتعاطي مع الرقابة. فكيف تمكنت هذه السينما من أن تنتج لغتها التعبيرية والبصرية في حين أخفقت السينما العربية؟ - أود أن أشير الى أنني لم أقل ان السينما الايرانية تعايشت مع الرقابة أو ما هو سائد، فقد احتالت على ما يواجهها من صعوبات واستعارت لغة تعبير تفصح عما يدور في رأس السينمائي من دون أن تقع في فخ الرقابة. وهذه حقيقة تاريخية على صعيد الابداع إذ أن أحد الأوجه التي تعيد تجديد لغة التعبير هو الاحتيال على الرقابة. النقطة الثانية هي انني لا أحاول أو لا أريد أو لا أسمح لنفسي بمقارنة حقيقة السينما العربية وظاهرة السينما الايرانية. غير أنني أقول اننا في مرحلة السؤال حول الأمل. حاولنا اختراق السينما التقليدية السائدة في المنطقة العربية، لكننا لم نستطع أن نحدث تبدلاً جذرياً في طرق الانتاج والتوزيع والاستقبال ولم نتحول الى ظاهرة لها حضورها. ويبدو لي ان السينما الايرانية تمكنت حيث لم نتمكن، فقد اتجهنا الى مجال آخر وحاولنا التجديد من دون تكوين ظاهرة محددة، وتحولت محاولاتنا الى نوع من "الخربشة" في السينما السائدة عبر بعض الأفلام التي قد يتاح أو لا يتاح للمشاهد العربي رؤيتها. من خلال متابعاتي لهذه السينما وجدت أن هناك غلبة في الأفلام المعنية بالحاضر، فهي لم تستعر من الماضي بطولاته وانما حصرت همها في اليوم على خلاف السينما العربية، والسورية بالذات؟ - لا أوافقك على ان السينما العربية، أو السورية على وجه الخصوص، غير معنية بالحاضر. فالسينما السورية على رغم انتاجها القليل وضعف انتشار دور العرض السينمائي، لا زالت جزءاً هامشياً في حياة مجتمعنا، وضمن هذه الحالة نجد ان هناك محاولات جادة للاقتراب من الحاضر. اما موضوع اهتمام السينما الايرانية بالحاضر فيتطلب مني الاطلاع أكثر حتى أتمكن من الجزم. وهنا تبرز قضية الرقابة، سواء كانت في ايران أو في المنطقة العربية، فانها صارمة تحمل في طياتها الكثير من الممنوعات. وفي الوقت الذي تتصدى الرقابة في ايران الى الثقافة ككل من أجل صياغة ثقافة من نوع آخر، فإن الرقابة في العالم العربي ترتعش وترتعب مما يمس حرمة النظام السياسي، تحمل بيدها سيف السلطة لتتسلط على الشريط السينمائي أو على رقاب صانعيه. هل العلة إذا في شروط القطاع العام؟ - العلة ليست في القطاع العام ولكن في المجتمع ككل، اذ كيف يمكن أن يعيش مجتمع من دون سينما؟ هذا يعني انها هم جزئي، وتخص السينمائيين أكثر مما تخص سوق العرض والطلب. العلة في مجتمع يتقدم فيه سوق التلفزيون وليس النتاج السينمائي. ومن هنا نفهم ظاهرة هروب منتجي السينما الى التلفزيون لربحيته، في ظل ارتفاع تكاليف الانتاج السينمائي وغياب السوق المحلي. لذا فإن بقاء القطاع العام منتجاً هو بحد ذاته نعمة كبيرة وقلق يومي نعيشه في زمن انتهاء القطاعات العامة. نحن ننظر الى سلبيات القطاع العام كسلبيات يمكن التعايش معها والتحايل عليها. يبدو أن لك تعليقاً لم تفصح عنه؟ - تعليقي على السينما الايرانية هو في هذا اللجوء المتكرر الى الحكاية بواسطة الأطفال أو من هم على وشك البلوغ. ترى هل هو قاعدة للسينمائيين أم حنين لعالم الطفولة، أم العدوى السارية بين السينمائيين في ظل احتياجات الانتاجات الكثيرة التي يتطلبها السوق المحلي من دون التوقف عند التكرار في الأفكار والتعبير والاقتباسات؟ يلفت نظري ايضاً في هذه السينما أن معظم نتاجها يقوم على الحكاية لحظة غياب "الأب"، هل هو الأب بالمعنى الفرويدي الذي يجب قتله أم بالمعنى السياسي؟ هل هو الرمز الذي يجتمع عنده الجميع، ولحظة غيابه توفر الفرصة الأفضل كي نتحرر ونلهو كما نشاء؟ انها أسئلة تحتاج الى المزيد من التأمل والاستنتاج والربط لأنها في جوهرها تعبير عن كونها "ظاهرة" لا بد من تأملها واكتساب الحرارة من دفئها كي نتجاوز الفترات التي تأسرنا نحن كسينمائيين عرب.