انتهى المخرج السينمائي السوري عبداللطيف عبدالحميد أخيراً من عمليات مونتاج فيلمه الروائي الطويل الجديد «مطر أيلول»، وهو الآن كما يقول في حواره مع «الحياة» في انتظار الانتهاء من بعض العمليات «الكومبيوترية» الخاصة التي تجري لبعض مشاهده من قبل، «مطر أيلول» فيلم مليء بالمشاعر والأحاسيس النبيلة التي بتنا نفتقدها في حياتنا المعاصرة، والأحداث التي تدور فيه كانت موجودة أمامنا على الدوام، ولكن لم يتم التطرق إليها سينمائياً من قبل، ولم يحدث أن رأيناها قط أو أحسسنا بها من قبل». ويضيف المخرج السوري: «فيلمي الجديد مفعم بالحب والموسيقى والوجع». وعبداللطيف عبدالحميد يدرك أن معظم أفلامه كانت أيضاً تعزف على هذه الأوتار مجتمعة، ولكنه يستبق السؤال بالهمس: «هنا الجرعة في هذا الفيلم زائدة، انتظر لتشاهد وترى وتحكم». هنا حوار مع المخرج حول الفيلم ومغزى انضمامه انتاجياً إلى دائرة القطاع الخاص السوري الذي يشهد بحسب بعض المتابعات المتفرقة هنا وهناك «صحوة» سينمائية من نوع ما. ولكن ما يقوله عبدالحميد في السياق قد يجيء مخالفاً لكثير من التوقعات، ولكثير من الآراء، مجتمعة أو متفرقة، أو حتى متناثرة في أكثر من مكان، ودائماً بلسان واحد. والفيلم من تمثيل أيمن زيدان وسمر سامي وقاسم ملحو وجمال قبش، ومجموعة كبيرة من خريجي المعهد العالي للعلوم المسرحية بدمشق، وأدار التصوير فيه جود كوراني. ما رأيك وقد أنجزت للتو فيلماً للقطاع الخاص عن صحوة سينمائية تجتاحه الآن؟ - للأسف، القطاع الخاص عندنا ليس سورياً بالمعنى الدقيق للكلمة، فالإنتاج السينمائي يتم بتمويل من الخارج، ولكنه يدار من قبل سوريين. وإذا ما استثنينا شركة سوريا الدولية التي دخلت على خط الانتاج السينمائي من خلال فيلم «مرة أخرى»، لجود سعيد، فإنه بالكاد يكون هناك شيء يذكر. ليس هناك صحوة لدى هذا القطاع، وما أعرفه أن هناك فيلم «سيلينا» للمخرج حاتم علي أنتجه نادر أتاسي الذي اشتهر بولعه بالانتاج السينمائي المتفرق بين الفينة والأخرى. ولكن القطاع الخاص برأيي ليس لديه مثل هذه الصحوة، وإذا ما استثنينا تجربة المخرج هيثم حقي في مضمار الإنتاج، وهو سينمائي محب للسينما، ولديه هم سينمائي، لا أرى أن هناك من يمكنه أو يريد المجازفة والمغامرة في عملية انتاجية ليس بوسعها أن تشيل همها لجهة دورة رأس المال وعودته. من يخلّص من؟ ولكن تتردد حالياً بعض الأسماء المهتمة، وهي تطلق تصريحات بهذا الشأن في مختلف الاتجاهات؟ - يشاع أن هناك بالفعل بعض الأسماء التي تريد أن تنتج أفلاماً سينمائية، ولكن على أرض الواقع، ومن خلال ما تحقق حتى الآن من انتاج خاص بشركة «ريل فيلمز» التي يشرف عليها هيثم حقي لحساب محطة «أوربت»، فإنه ليس هناك من يهتم عملياً بالانتاج السينمائي في سورية. تكرر في الآونة الأخيرة مصطلح الفيلم السوري المخلّص... برأيك هل القطاع الخاص في وضعه الحالي قادر على أن يقدم للجمهور السوري مثل هذا الفيلم السحري؟! - برأيي أنه يجب أن نبدأ من المصطلح نفسه، فنسبر أغواره ومدى صلاحيته. المخلّص يعني المنقذ، وبالتالي هو سينقذ ماذا وممن؟ ينبغي أن نفهم ماهية هذا المصطلح حتى يمكن الإجابة على سؤالك؟ هل يعني هذا أنك غير موافق على شيوع هذا المصطلح؟ - لا... غير موافق على الإطلاق لجهة استخدامه أو حتى تبرير استخدامه. ما أعرفه أنه في خلال السنوات الماضية ثمة مخرجون سوريون يدورون بأفلامهم على المهرجانات المختلفة، وهم من صنعوا اسم ومجد هذه السينما باعتراف وتتويج من هذه المهرجانات. وليس مهرجان دمشق من بينها حتى لا نتهم بالتحيز لأنفسنا، ولكن من دون الالتفات إلى فكرة الفيلم المخلّص أبداً، اذ لا يجوز ذلك أيضاً. ولكن شيوع المصطلح واستخدامه جاء بسبب من أن هناك أزمة غير مرئية تطاول السينما السورية حالياً؟! - أعتقد أن هناك أزمة مرئية وملموسة، ويكاد تشتم لها رائحة أيضاً. وأجزم باختصار شديد أن عملية التمويل هي أساس المشكلة، فعندما يخصص سنوياً للمؤسسة العامة للسينما مبلغ محدد لصناعة فيلمين روائيين طويلين وثلاثة أفلام قصيرة، فأنت عملياً ترصد مبلغاً بالكاد ينتج فيلماً واحداً إذا ما أردت سوية عالمية. هناك مشكلة تمويل مزمنة لا أعرف كيف يمكن الفكاك منها، أنت تصور فيلماً، وتنتهي منه، وتدخل مرحلة المونتاج، فتبدأ المشاكل الحقيقية باعتراض طريقك، وهي مشاكل مرتبطة بالطباعة والصوت والصورة. هناك أشياء نحن محرومون منها، بالرغم من أنه يوجد في المؤسسة العامة للسينما مثلاً معدات وتجهيزات غير متوفرة على صعيد الشرق الأوسط، ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود كادرات مهيئة للعمل عليها، والمؤسسة غير قادرة على تعيين الكفاءات المطلوبة المنافسة لضحالة الرواتب التي يقدمها رأس المال الحكومي. يمكن القول بهذا المعنى إن الأزمة مرشحة لتمتد وتطول؟ - الإجابة هنا مرتبطة بمدى اهتمام الدولة بالسينما، فهل ستقدم لها ما يكفي لدعم هذه الصناعة. الإجابة تكمن عندها، وليس عند السينمائيين السوريين. فهم ليسوا أصحاب رؤوس أموال، ورواتبهم بالكاد تكفي لتسديد فواتير معينة. هذا هو الشق المتعلق بالقطاع الحكومي، ولكن من الملاحظ أيضاً أن القطاع الخاص، وهو خجول ومتردد لا يمتلك الجرأة المطلوبة التي تسمح له بتجاوز العراقيل والمطبات الموجودة في طريق الانتاج السينمائي الموعود، وهو لا يؤمن أصلاً بجدواه لغياب الربحية التي تحققت له في الدراما التلفزيونية؟ - هذه بدايات على أية حال، وإذا كان الانتاج السينمائي محصوراً الآن في مكان واحد، فإنه قد لا يظل هكذا في المستقبل. ولكن أعتقد أن هناك أيضاً أزمة حقيقية تكمن في النص السينمائي المكتوب، وأنا أعرف أن نصوصاً كثيرة قدمت إلى هيثم حقي، ولم تتم الموافقة عليها بسبب من تدني مستواها. استقلال ما... هل يمكن الجزم بتدني مستوى كل تلك النصوص من وجهة نظرك؟ - أنا شخصياً لم أقرأ هذه السيناريوات لأحكم عليها، وليس من اختصاصي الحديث عنها. كيف تنظر إلى تجربتك مع القطاع الخاص ممثلاً بهيثم حقي بالمقارنة مع تجربتك الطويلة كماً ونوعاً مع المؤسسة العامة للسينما؟ - بما يتعلق بي كعبداللطيف عبدالحميد لم يتدخل أحد بعملي إطلاقاً لا من قريب ولا من بعيد. أنا قدمت النص وجرت الموافقة عليه في خلال ساعتين. هاتان الساعتان هما اللتان تميزان عمل القطاع الخاص من حيث المبدأ عن عمل القطاع العام. وأنا المتهم بأنني الابن المدلل للمؤسسة لو قدمت لها «مطر أيلول» ما كانت ستتم المصادقة عليه بالسرعة المطلوبة، فهو سيمر من خلال سلسلة معقدة من الروتين ستمتد إلى شهرين على أقل تقدير. الفارق هنا ليس لفظياً بين ساعتين وشهرين، فالمؤسسة العامة للسينما مكبلة بقوانين يجب إعادة النظر فيها جذرياً، وهي ليست بمنأى عن نطاق عمل المؤسسات الحكومية المختلفة، وهذه من أعقد مشكلاتها، فهنا يتم التعامل معها كما لو أنها مؤسسة عامة للأحذية. كأن الغلبة ستكون في النهاية للقطاع الخاص؟ - أنا واحد من الذين وقعوا بيان السينمائيين السوريين في نهاية عام 2000، وفيه تدارسنا حينها أسس الانتاج السينمائي وإزالة القوانين التي تكبل هذا الانتاج في القطاع العام الذي يملك الكثير من الإيجابيات والدليل هو أفلامنا التي قدمناها على مدى ربع قرن وأكثر. على أية حال القطاع الخاص يمتلك من دون شك مرونة أكبر، وهكذا تفترض طبيعته من حيث المبدأ. في رأيك أليس هناك أمل بأن تنفتح (طاقة ما) أمام السينمائيين السوريين ليتخلصوا من كابوس التمويل؟ - الإجابة مرهونة بالجهات الحكومية، وما إذا كانت تريد بالفعل صناعة سينمائية حقيقية في هذا البلد. وإذا كانت الإجابة بنعم، فلتستمع إلى طلبات السينمائيين السوريين وادارة المؤسسة العامة للسينما، وأنا بالمناسبة كنت عضواً في أكثر من لجنة رفعت توصيات إلى أعلى المستويات في هذا البلد وما زلنا حتى اللحظة ننتظر الإجابة عنها. من خلال ما تسرب عن فيلمك، تبدو وكأن الأصوات التي تعرفت إليها في أزمان مختلفة هي المهيمنة على مجرى الأحداث؟ - لا يساورني شك أن هناك تحية لشيء اسمه ابداع عبر أناس لم يحظوا بأي تكريم في هذا البلد، ناهيك من أن هذا التكريم ترافقه هنا لغة سينمائية حقيقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى لرجل اسمه محمد عبدالكريم، وهو أمير البزق كما نعرف جميعاً، وهو في فيلمي لم يأت في سياق تقديمه بهدف التكريم، ولم يكن مقحماً، بل جاء في سياق درامي مرسوم بدقة من البداية وحتى النهاية. ما زلت تعتقد أن هذه الأصوات المقبلة من الماضي البعيد يمكن أن تلعب دوراً في أفلامك؟ - أنا أتكلم عن نفسي، وما أقوم به الآن في «مطر أيلول» هو تطويع لهذه الأصوات ضمن السياق الدرامي، وهي لا تتواجد هنا بهدف الاستمتاع بها فقط. هل تعتقد أن «مطر أيلول» هو الفيلم المخلّص؟ - «مطر أيلول» جزء حميم من تجربتي، وما هو مهم برأيي متروك للمتلقي سواء كان مخلّصاً أم لا، مع تحفظي الشديد على المصطلح وشيوعه واستخدامه.