أكد آية الله محمد يزدي رئيس السلطة القضائية في ايران، في خطبة له يوم الجمعة 7 أيار مايو 1999 ان رقابة الكتب هي أهم من أي شيء آخر. وقبل ذلك بأيام، وفي رسالة مفتوحة الى الرئيس محمد خاتمي، وقعها 349 صحافياً ايرانياً، احتجوا ضد فرض الرقابة على الصحف وطالبوا بوضع حد لممارسات اولئك الذين يريدون الكبت ومصادرة حرية الكلمة. واضافت الرسالة ان الجهة المختصة بالبتّ في مخالفات الصحف، طبقاً للمادة 168 من الدستور، هي المحاكم العدلية وتكون مداولاتها علنية وبحضور لجنة التحليف، لكن ما يجري في الواقع خلاف ذلك تماماً حيث اكد الموقعون ان اغلاق صحيفة "زن" المرأة اليومية هو عمل يخالف الدستور. وأضافوا انه تم في العام الماضي اغلاق ثماني صحف يومية واسبوعية. وينهي الصحافيون رسالتهم الى خاتمي بالقول انه "في ظروف لا توجد فيها أية مؤسسة مدنية مستقلة عن النظام، نرى ان الدفاع عن الصحافة هو دفاع عن المجتمع المدني الذي وعدتنا وتعدنا به دائماً". وعلى رغم ان الايرانيين ليسوا وحدهم ضحايا الرقابة وان هناك شعوباً عديدة تواجه سيطرة أحادية الفكر، الا ان لكل شعب ظروفاً خاصة به كما له اساليبه الخاصة ايضاً لمواجهة الرقابة. فتاريخ ايران حافل بالرقابة وبأشكال من المقاومة ضدها. ففي ايران ما قبل الاسلام، كانت هناك سلسلة من الموظفين يقال عنهم "عيون الشاه وآذانه" مهمتهم مراقبة اعمال الناس. وبعد الفتح العربي الاسلامي عندما نضجت الافكار الشيعية والشعوبية وأقبلت اليها جماعات من الايرانيين المناهضين للحكم الأموي او العباسي، تم تشديد الرقابة، واصبحت هي والخوف منها جزءاً من الوعي الفردي والجماعي في ايران. ولأن الرقابة والخوف منها او المقاومة ضدها استمرت قروناً متتالية توجد في الأمثال الشعبية الايرانية عبارات مثل: "للحائط فأر وللفأر أُذُن والنتيجة هي ان للحائط أُذُن" والتي يقابلها باللغة العربية "للجدران آذان". كما يوجد مثل آخر يُقال بالعربية هو: "أُستُر ذهبَك ومذهبَك"، ومثل ثالث يقول: "يا قلبي تعوَّد على الوحدة/ لأن معاشرة الناس هي مصدر الآفات"، ومثل رابع يقول: "اللسان الأحمر يذهب بالرأس الاخض أدراج الرياح". ونتيجة لسيطرة الرقابة نرى ان الأدب الفارسي الكلاسيكي حافل بالرموز والايحاءات، خصوصاً عند اكبر شاعر فارسي غائي اي حافظ الشيرازي 1320 - 1389. فعلى سبيل المثال، يشير حافظ الى حسين بن منصور الحلاج في بيت شعري معناه: "ان جريمة ذلك الصديق الذي اعتزت المشنقة برفع جثمانه فوقها/ لم تكن الا انه كان يكشف الأسرار ويتفوه بها". بهذه الروحية وفي اجواء تاريخية ودينية وأدبية حافلة بالرقابة ومقاومتها، دخل المثقف الايراني عصر الحداثة وتعرف على حق الانسان المواطن في حرية التعبير على رغم انه لم يقذه مرة واحدة نتيجة لاستمرار الديكتاتورية السياسية والدينية في اطوارها الحديثة. تذوق المثقف الايراني الحداثة قبل أي شيء بأساليب وأجهزة القمع الحديثة جداً. فالرقابة اصبحت لها دائرة رسمية في وزارة الثقافة مهمتها كشف ما دار في ذهن الكاتب حينما حاول كتابة شعر او مقال. فعدد ضحايا الرقابة لا يعدّ ولا يحصى. وأولى الضحايا هي الحقيقة ذاتها والكلمة، حيث لا يفسح الطريق امامها لتظهر الى العلن، كتاباً كانت او مقالاً او شعراً. وثانيها الانسان المتعطش لمعرفة الحقيقة والذي تبعده الرقابة عن هذا الطريق. وثالثها المبدع الذي قد يضطر للصمت او الهرب او يتعرض للاغتيال او السجن او الاعدام. ولكل من هذه الحالات امثلة نشير في ما يلي الى بعضها: "جمال الدين الأفغاني" المعروف عند الايرانيين بأسد آبادي قُبض عليه ونُفي الى خارج البلاد بتهمة الكفر 1306 هجرية و"أُرسل مقيّد اليدين والرجلين الى بغداد"، اما "ميرزا نصرالله ملك المتكلمين" الكاتب والخطيب و"جهانكير خان" مدير جريدة "صور اسرافيل" أثناء الثورة الدستورية فتم اعدامهما 1908 لدورهما المحرّض في تلك الثورة التي وقعت عام 1906، والشاعر "ميرزاده عشقي" مدير جريدة "قرن بيستم" القرن العشرون اغتيل بأمر من رضا شاه 1924، والشاعر "فرخي يزدي" مدير جريدة "طوفان" أُلقي القبض عليه وخاطوا شفتيه بالابرة ليموت في السجن 1929، و"الدكتور تقي أراني" مؤسس ومدير مجلة "دنيا" اعتقل وتعرض للتعذيب وقُتل في السجن 1939، كما تم اغتيال المؤرخ واللساني والكاتب والناقد احمد كسروي بأيدي المتعصبين من جماعة فدائيي الاسلام 1945، والصحافي كريم بور شيرازي مدير جريدة "شُورِش" الانتفاضة وهو من انصار الدكتور محمد مصدق تم اعدامه حرقاً بعد سقوط حكومة مصدق 1953. وهناك المئات بل الآلاف من اصحاب الفكر الحر والمثقفين تم اسكاتهم سواء في عهد الشاه او عهد الخميني، وأخيراً موجة الاغتيالات التي استهدفت المثقفين في السنوات الاخيرة. هناك فارق بين المثقف العربي والمثقف الايراني في مواجهة الرقابة المستشرية في كل مكان من منطقتنا. فإذا كان المثقف العربي يشعر بالضيق بامكانه ان يسافر او يهرب او يلجأ الى بلد عربي آخر وبامكانه ان يقول كلمته ويكتب ويخاطب جمهوره العربي هناك أيضاً اي من منفاه. اما المثقف الايراني، غالباً ما كان عليه ان يبقى في دائرته المحدودة الضيقة، ويبدع لغة رمزية ليستكشف كيف يمكنه ان يتخلص بمهارة من الرقابة وسيفها المسلط، وذلك من طريق ايحاءات وتعرجات وترميزات اصبحت جميعها بعد فترة مفهومة لدى القراء الواعين. ومن بين الأمثلة يمكن ان نذكر: في ظل حكم الشاه حاول صحافي ليبرالي معروف ان ينتقد سياسة القمع واستعمال اليد الحديد ضد المعارضين وان يستخدم عبارة "براثن نظام الشاه الحديد"، فلجأ الى حيلة اختلاق جماعة معارضة وقام بمهاجمتها حيث يقول: "لو لم تكن براثن نظام الشاهنشاه الحديد تمسك بقوة بمقاليد الأمور لثار الشعب عليكم واستأصلكم عن بكرة أبيكم". كما ان نيما يوشيج ابو الشعر الفارسي الحديث عندما يكتب عن الليل يقول: "هذا هو الليل، نَعم الليل" يفهم من كلامه الاشارة الى ظروف الديكتاتورية المسيطرة ايام الشاه. والشاعر مهدي اخوان ثالث حينما أهدى شعره الى بير محمد احمد آبادي كان يقصد الدكتور مصدق السجين في قريته احمد آباد. قبل مجيء محمد خاتمي بقليل، خصوصاً بعد انتخابه كرئيس للجمهورية، تثير الدهشة عند تصفح الصحف والمطبوعات تلك الفسحة لطرح الكثير من القضايا التي يواجهها الشعب الايراني هذه الأيام مقارنة بالوضع الذي كان سائداً تحت حكم الشاه والخميني. ولكن، هل يمكننا ان نقول ان حرية التعبير مضمونة في ايران؟ الأرجح: لا. فالايرانيون لم يعيشوا "ربيع حرية التعبير" الا في فترات كان الحكم المركزي غير قادر فيها على القمع السريع والمباشر. استغلوا تلك الفترات القصيرة جداً للتعبير عن آرائهم وبشكل عفوي وغير منظم خوفاً من ان تفلت الفرصة من ايديهم. هكذا الأمر في بداية الثورة الدستورية 1906 وأيضاً بعد سقوط رضا شاه 1941 وإثر سقوط ابنه محمد رضا شاه 1979 واخيراً وفي الظروف الحالية التي تعيشها ايران منذ سنتين، بامكان الناس ان ينتقدوا، في اطار عدم تجاوز الخطوط الحمراء طبعاً، واحياناً بلغة الرمز، وان يكتبوا وان يصرخوا، الا انه ليس هناك قانون يدافع عنهم، بل يمكن للأجهزة المسيطرة على رقابهم القبض عليهم او خطفهم وقتلهم من دون عقاب يذكر - اذا كان هناك عقاب -، او محاكمتهم واعدامهم. من هنا لا بد من القول انه لا توجد حرية للتعبير وحرية للمعارضة بل هناك بعض التغاضي عن المعارضة الداخلية - اي داخل النظام - حسب موازين القوى. هناك دعوات هذه الأيام لسيادة دولة القانون والتأكيد عليها من قبل بعض رموز النظام مثل الرئيس خاتمي. الا ان الأمر لا يتعلق بمن يعارض نظام ولاية الفقيه وطبيعتها، بل ينحصر الأمر في اطار المعارضة داخل النظام أي لمن يعتبر من العائلة وليس من "الغرباء" "خودي" و"غير خودي" بالفارسية. دائرة المحرمات و"التابوهات" كانت ولا تزال واسعة جداً. فهناك كتاب للشاعر الكلاسيكي الفارسي سعدي الشيرازي يسمى "نصيحة الملوك" كان ممنوعاً أيام الشاه، كما كان محرماً التعرض بالنقد او الهجاء او الكاريكاتور حيال العائلة المالكة او العلاقات الاميركية - الايرانية او الايرانية - الاسرائيلية. يكفي ان نشير الى ان 50 في المئة من منشورات "دار امير كبير للنشر" وهي الأهم بين دور النشر في ايران، واجهت الرقابة او المنع والحجز. وفي ظل النظام الحالي توسعت دائرة الممنوعات لتصل الى منع ومصادرة كتب ألفها بعض رجال الدين من مؤسسي النظام مثل آية الله مطهري، ناهيك عن الكتب العلمانية او اليسارية والروايات التي تلصق بها تهمة الخلاعة. فالطبعة الجديدة لأعمال الكاتب الايراني الكبير صادق هدايت نشرت بعد ان حذفوا منها فقرات عديدة افقدتها الصدقية. كما حذفوا من احدى الروايات عبارة تقول "ان اوراق الشجر كانت ترقص وهي تسقط على الارض…" لأن الرقص "خليع". كما حذفوا من ديوان للشاعرة الكبيرة فروغ فرخزاد كلمات مثل "الثدي" لأن العفاف يقتضي عدم التفوه بمثل هذه الكلمات. وممنوع ايضاً أي تعرض لكسوة رجال الدين العمامة… ودورهم في المجتمع، ناهيك عن توجيه النقد أو التعريض بولاية الفقيه التي أصبحت ركناً من أركان النظام الاسلامي الايراني او للقوانين والاحكام الدينية بالكلام او الكاريكاتور. وفي قانون الجزاء الاسلامي المطبق في ايران مادة تنص على عقاب من يسخر من الامام الخميني او الولي الفقيه الحالي بالاعدام. وجدير بالذكر ان الاخطر من الرقابة هو أثرها النفسي، أي الرقابة الذاتية، بحيث كلما يخطر في بال الكاتب ان يكتب سطراً أو كلمة يشعر بامكانية ان يفقد عمله او يتم استجوابه او أكثر. فكم من الابداعات تم خنقها في المهد تحت تأثير هذا السيف المسلط فوق الأعناق. ثلاثون عاماً والكتّاب الايرانيون يحاولون بكل الوسائل المتاحة ان يشكلوا اتحاداً للكتاب على اساس حرية الرأي وحرية التعبير مما عرضهم للاعتقالات والاغتيالات ولم يتمكنوا حتى الآن ان يقيموا اتحادهم كما كانوا يرغبون ويريدون. وعلى رغم كل هذا، استمرت المقاومة ضد الديكتاتورية سواء في النظام السابق او الحالي بأشكال مختلفة. نورد مثالين عليها عن طريق الرسم الكاريكاتوري: نشرت جريدة "كيهان" اليومية بتاريخ 19 آب اغسطس 1968 الذي يصادف 28 مرداد حسب التقويم الايراني ذكرى الانقلاب الاميركي - البريطاني على مصدق 1953 كاريكاتوراً بريشة الفنان اردشير محصص. ويظهر في الرسم رجل يقرأ جريدة بعناوين كبيرة هي: "17 آب: غارات اميركية على هانوي… 18 آب: غارات اسرائيلية على القواعد الفلسطينية في الاردن 19 آب: ......." تم اعتبار هذا الرسم محظوراً لأنه كان يقارن بين الانقلاب على مصدق والغارات الاميركية والاسرائيلية فور صدور الطبعة الاولى للجريدة. وفي الطبعة الثانية، عصر ذلك اليوم، كان العمود أبيض. وفي عهد الجمهورية الاسلامية عاشت الصحف ظروفاً اكثر قسوة من عهد الشاه. فالفنان، رسام الكاريكاتور كريم زاده، ظل في السجن سنوات لأنه رسم صورة لأحد لاعبي كرة القدم وقد فقد احد رجليه، فقُدم الرسام للمحاكمة لأن صورة اللاعب كانت تشبه صورة الإمام الخميني. وأخيراً حُكم على فائزة رفسنجاني النائبة في المجلس النيابي ومديرة جريدة "زن" النسائية بمنع اصدارها الجريدة لأنها نشرت كاريكاتوراً اعتبرته المحكمة تعريضاً بقانون القصاص الاسلامي الذي يرى ان ديّة قتل المرأة هي نصف ديّة قتل الرجل. وفي خضم الاخبار اليومية عن الاغتيالات المتتالية ضد المثقفين يشير الكاريكاتور الى ان مسلحاً يدخل بيتاً ليقتل من فيه، الا ان الرجل يقترح على المسلح ان يقتل المرأة لأن ديّتها أقل! * كاتب ايراني مقيم في ألمانيا.