التظاهرات والاحتجاجات الطالبية اخيراً في جامعة طهران، واستمرار الاعتصامات والاستقالات الجماعية لهيئة ادارة الجامعة وتضامن الحركة الطالبية في بعض المحافظات، خصوصاً في تبريز، وانعكاس تلك التطورات على الوضع السياسي في ايران، يذكّر بما لهذه الجامعة وللحركة الطالبية عموماً من تاريخ حافل بتطورات وتقاليد نضالية عريقة في ايران الحديثة. تأسست جامعة طهران بهيكلها الحديث عام 1935، وكان بعض المدارس العليا قد انشئ في فترات سابقة. ومن بين الاسباب التي دعت حكومة رضا شاه 1925 - 1941 الى الاسراع الى تأسيس جامعة طهران ان الطلاب الذين كانوا يذهبون الى الخارج بمنح دراسية من الحكومة نفسها كانوا "يعودون بأفكار بلشفية" كما شكا من الامر رضا شاه نفسه. كانت الجامعة مرآة للتطورات والنقاشات والتطلعات التي تسود البلاد في مختلف المراحل. فأثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها أي في الاربعينات من هذا القرن حتى سقوط حكومة محمد مصدق عام 1953 كانت ايران تعيش نوعاً من التعددية واللامركزية، ولم يكن للحكم في طهران امكانية قمع المعارضة كما حصل في الفترات اللاحقة، وكانت الجامعة مسرحاً للأفكار والنقاشات المتباينة، فكنت ترى ممثلين لجميع التيارات الناشطة في المجتمع آنذاك، سواء بين الاساتذة او الطلاب، من الملكيين والاقطاعيين وأنصار العلاقات الوثيقة التقليدية مع "بريطانيا العظمى" والغرب، الى الشيوعيين حزب توده وأنصاره والمعادين للفاشية تقدميين وعلمانيين الى القوميين المتطرفين حزب سومكا المنادي بالعنصر الآري والجبهة الوطنية، مروراً بتيار "احمد كسروي" المؤرخ واللغوي والمنتقد للطقوس الدينية والصوفية، وبعض الاصلاحيين الدينيين مثل المهندس مهدي بازركان او الشيخ شريعت سنكلجي، الذي يمكننا مقارنته بمحمد عبده ورشيد رضا والجماعات الدينية المتطرفة مثل فدائيي الاسلام. وتشكل هذه التيارات جذوراً للعديد من التيارات الفكرية والسياسية التي تشكلت في الفترات اللاحقة وحتى اليوم. فجامعة طهران ظلت وتظل المرآة والمختبر والورشة في آن واحد لايران الغد، كما بقيت مركزاً للاحتجاج والمقاومة ضد كل ما يمس الحريات والتطلعات المستقبلية. وتتوجت هذه المرحلة بالتطورات الدراماتيكية والاحداث الهامة مثل مشاركة حزب توده في الحكومة 1946، سقوط الجمهورية الكردية في مهاباد، وانسحاب القوات السوفياتية من اذربيجان والاغتيالات العديدة، مثل اغتيال الجنرال رزم آرا رئيس الوزراء 1949. وضمن هذا السياق وصل الدكتور محمد مصدق، رئيس الكتلة الوطنية في المجلس النيابي، الى الحكم ليجعل من أولى مهماته حل مشكلة النفط مع بريطانيا وتأميمه. فأيام حكمه تعتبر استمراراً للمد الفكري والسياسي الذي كان يسود المجتمع الايراني، كما انها كانت تجربة ديموقراطية فريدة في تاريخ ايران وكانت جامعة طهران مرآة ومختبراً لها. اما الانقلاب على مصدق وسقوط حكومته 1953 وقمع اليسار الذي كان يمثله آنذاك حزب توده حزب الشعب فكانا ضربة أليمة للحركة الطلابية واستقلالية جامعة طهران بشكل عام. فادارة الجامعة برئاستها واطاراتها كانت منتخبة حتى ذلك الوقت، الا انها اصبحت تحت سيطرة وزارة التعليم وإمرة الشاه نفسه. فبعد اقل من اربعة اشهر من الانقلاب، هاجم الجيش الحرم الجامعي وأطلق النار على الطلاب المضربين الذين احتجوا على النفوذ الاميركي في ايران وعودة الديكتاتورية، وقتل ثلاثة من الطلاب في كلية الهندسة في 16 آذار مارس 1332 7 كانون الأول/ ديسمبر 1953. وهذا اليوم اصبح رمزاً للنضالات الطالبية إبان حكم الشاه وحتى اليوم. وبعد ان أوكلت ادارة صناعة النفط المؤممة الى رابطة من الشركات النفطية الاميركية والبريطانية الكنسورسيوم عام 1955 قام الاساتذة وعددهم 11 بينهم مهدي بازركان ويدالله سحابي مع عدد من الشخصيات الوطنية بينهم علي اكبر دهخدا، صاحب اكبر موسوعة فارسية يصل عددهم الى 60، بتوقيع رسالة احتجاج الى المجلس النيابي ينددون فيها بتلك الاتفاقية التي ذهبت بمكتسبات الشعب وبتأميم النفط ادراج الرياح. فعلى الرغم من الاعتقالات بين صفوف الطلاب وفصل الاساتذة المحتجين ظلت جامعة طهران وفية بدعم النضالات العمالية والشعبية طوال الخمسينات، ولم يتمكن نظام الشاه من اخماد الحركة في الجامعة بكل ما كان لديه من البوليس السياسي السافاك وعلى رغم سياسة الجزرة والعصا. وفي اعوام 1960 - 1963 أُرغم الشاه بعد مجيء جون كينيدي الى الحكم في الولاياتالمتحدة على السماح للمعارضة الوطنية بالنشاط العلني، وقام الشاه "بثورته البيضاء" وعملية الاصلاح الزراعي، فأصبحت الجامعة من جديد مسرحاً للتظاهرات والاعتصامات، وكانت حرب التحرير الجزائرية في تلك الأيام في اوجها ومصدراً لاستلهام الشباب سواء في الجامعات وفي الثانويات، ولعبت الحركة الطالبية دوراً تعبوياً لمساندة التطلعات الوطنية والافكار اليسارية. ففي يوم "1 بهمن 1340" 21 شباط/ فبراير 1964 قامت قوات البوليس والجيش باقتحام الجامعة، مما ادى الى احتجاج رسمي من رئيس الجامعة الدكتور احمد فرهاد. هذا الموقف الجريء لم يكن له مثيل منذ اطاحة حكومة مصدق، ونص البيان التاريخي لفرهاد على ما يلي: "اليوم، الأحد الأول من بهمن 21 شباط 1964، وفي الساعة الحادية عشرة والربع، قامت قوات من العسكريين ومن دون ان يكون هناك امر يقتضي تدخلهم، باقتحام الحرم الجامعي، وانهالوا على جمع من الطلاب بالضرب. ان الجامعة تحتج رسمياً على هذا التدخل وتطالب الحكومة بفتح تحقيق حول الموضوع كما تطالب بمعاقبة المرتكبين. وطالما لسنا على اطلاع على نتيجة التحقيق، فانني وعموم رؤساء الكليات نعلن امتناعنا عن ممارسة العمل في الجامعة. التوقيع رئيس جامعة طهران، الدكتور فرهاد". ان تراكم التجارب والوعي ادى الى نهوض ثقافي وسياسي في الستينات وانتهى الى نشوء مجموعات ثورية قامت في السبعينات بالعمل المسلح على غرار التجربة الكوبية والى تعاطف شعبي كبير مع الحركة الثورية في فلسطين. وفي السبعينات وعلى الرغم من المحاكمات والاعدامات التي حصلت بين صفوف المثقفين وطلاب الجامعات كانت الحماسة المتزايدة في مناهضة النظام تنتشر في المجتمع، واستقطبت حتى العديد من الشباب والشابات المنحدرين من العائلات الميسورة والمشاركة في الحكم ومهدت بدورها الطريق، الى جانب العوامل الاخرى، لاسقاط النظام الشاهنشاهي في عام 1979. مثل هذا المركز العلمي الحداثي، شأنه شأن العديد من جامعات العالم، كان منبراً وساحة خلاقة للتحديث، وذلك ما لم يكن في امكان الاصوليين القابعين في الحوزات العلمية في قم ومشهد ومدن اخرى ان يقفوا امامه مكتوفي الأيدي. وجدير بالذكر ان المؤسسة الدينية الشيعية نشأت كمؤسسة في عهد الصفوية قبل حوالى 300 سنة، وهي مؤسسة مستقلة مالياً، وكانت دائماً اما شريكة في الحكم او في خلاف او في منافسة معه. اي ان علاقة المؤسسة مع الحكم لم تكن كما هي الحال في بلدان السنة حيث تخضع المؤسسات الدينية لحكم اولي الأمر وطاعته. فمثلاً لا احد يعلم من أين المبالغ المالية الهائلة التي يصرفها كبار رجال الدين في ادارة امورهم وتوسيع نفوذهم سواء كانوا في قم او النجف او اي مكان آخر. والأمر ليس جديداً بل استمر على المنوال نفسه منذ قرون حتى الآن. انهم كانوا دوماً دولة داخل الدولة. فالمؤسسة الدينية لم تكن تسيطر على الاحوال الشخصية والحقوق الخاصة والعبادات فحسب، بل وصلت سيطرتها الى القضاء والتعليم ايضاً، تماماً كما كانت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى. الا ان رضا شاه الذي حكم ايران في فترة ما بين الحربين العالميتين قام بتحجيم دور رجال الدين، وعلى رغم استغلاله لبعض المشاعر الدينية في البداية حاول وتمكن من اخراج رجال الدين من طور التأثير الفعلي ومن كبح جماح مؤسسة كانت تتطلع الى بسط سيطرتها على الدولة. فبتضييق الخناق على رجال الدين وحصر نشاطهم في الحوزات العلمية الدينية وتقييد تحركاتهم بتصريح حكومي حتى في ايام العزاء في شهري محرم وصفر، وتحديد الذين لهم حق ارتداء زي رجال الدين، لم يبق لهذه المؤسسة الا ان تعيش على هامش المجتمع. الا انه وبعد سقوط رضا شاه 1941 اتخذ الشاه الجديد محمد رضا سياسة ارضاء واستمالة رجال الدين والتقرب منهم وفتح الطريق امامهم، وذلك في حربه ضد الشيوعية والتيارات الديموقراطية العلمانية، وزاد الطين بلة عندما أيد كبير المجتهدين آية الله حسين بروجردي الانقلاب على مصدق وبارك عودة الشاه الى البلاد، وكتب بعض رجال الدين كتباً ومقالات ضد الشيوعية بينهم احد اقطاب الهيئة الحالية لمدرسي الحوزة العلمية في قم آية الله ناصر مكارم شيرازي، الذي حصل آنذاك على الجائزة الملكية بكتابه "فيلسوف نماها" اشباه الفلاسفة. كما كان الشاه يحاول استعادة شعبيته عن طريق التمسك بالعقيدة الدينية. فهو يكتب في كتابه "رسالتي من اجل الوطن" انه نجا من اخطار مميتة لأنه رأى في المنام عباس بن علي وهو ينقذه بيده، الى غير ذلك من الكرامات. المهم ان المؤسسة الدينية كانت تستغل شتى الوسائل لاستعادة دورها بما في ذلك التنافس مع الجامعات الحديثة. اي انها كانت تنتقد الجامعة لابتعادها عن القيم الدينية وفي الوقت نفسه كانت تستفيد من بعض اساليبها، فباجراء الامتحانات في اواسط الخمسينات ثارت ضجة كبيرة في النجف. وهناك من يتذكر ان الصحف العراقية كتبت بعناوين كبيرة ان "علماء الشيعة حرموا الامتحانات". الا ان بعض رجال الدين الشباب دخلوا الجامعة وتخرجوا منها مثل محمد حسين بهشتي ومحمد جواد باهنر وأضافوا الى عنوانهم كحجة الاسلام عنوان الدكتور ايضاً. والأهم من ذلك قام آية الله العظمى كاظم شريعتمداري بتنفيذ خطة نموذجية لعصرنة الحوزة العلمية في قم، وذلك بشراء فندق ضخم وتحويله الى مدرسة سماها "دار التبليغ"، وأدخل مواد دراسية حديثة وأجهزة عصرية لم يسبق لها ان كانت في متناول الطلاب. وجدير بالذكر ان الجامعة كانت قامت من قبل بفتح كلية تسمى "كلية المعقول والمنقول" يكمن اختصاصها في التفقه في الدين والتاريخ الاسلامي حتى لا يكون المجال مقصوراً على الحوزات الدينية ولكن النتيجة لم تكن مشجعة. كما استقطبت الجامعة عدداً من المجتهدين والمدرسين في الحوزات العلمية وعينتهم اساتذة في كليات مثل الحقوق والآداب، بينهم محمود شهابي والدكتور عميد ومحمد مشكوة في الحقوق، وآية الله مطهري وسبزواري وآيتي في المعقول والمنقول، وجلال همائي وفروزانفر في الآداب. كان ذلك في الستينات والسبعينات وقبل مجيء الخميني الى الحكم. ان التنافس بين الجامعة وبين الحوزات الدينية ظل قائماً على الرغم من الموقف الذي اتخذه رجال الدين ضد الاصلاح الزراعي وضد حق المرأة في المشاركة في الانتخابات في بداية الستينات وإبعاد الخميني الى تركيا ومن ثم الى العراق والخلاف بين بعض رجال الدين وحكم الشاه. فليس من قبيل المصادفة ان خريجي الحوزات الدينية وعلى رأسهم الخميني نفسه، ما ان وصلوا الى السلطة حتى قاموا بالسيطرة على الجامعة وأقاموا هناك صلاة الجمعة وجعلوا من جامعة طهران منبراً رسمياً لهم ولم تزل كذلك حتى الآن. انهم طرحوا في البداية شعار "وحدة الحوزة والجامعة" وحاولوا عن طريق شخصيات مثل حجة الاسلام الدكتور محمد مفتح الذي كان خريج المدرستين ان يضعوا مصير الجامعة في قبضتهم ويغيروا الدروس والاساتذة والمناهج كما يشاؤون، الا ان الامر لم يكن سهلاً، فقاموا باقتحام الجامعات في كل انحاء ايران في 21 نيسان ابريل 1980 وكان القتلى والجرحى والمعتقلين من الطلاب بالآلاف وسموا هذه العملية "الثورة الثقافية" وكان الدكتور عبدالكريم سروش وصادق زيبا كلام ممن اسند اليهم تنفيذ هذه "الثورة". تم اغلاق الجامعة لمدة ثلاث سنوات كما تم فصل الاساتذة الذين كانوا على صلة بالنظام السابق، او الذين كانوا متعاطفين مع المعارضة اليسارية او الوطنية، اما الذين يشكون في عقائدهم الدينية والذين كان في الامكان رصد نشاطاتهم وممارسة الرقابة عليهم فقد تم ابقاؤهم بعقود موقتة قابلة للتجديد سنوياً. وكان للجان التزكية المؤلفة من عناصر متزمتة ليست لديهم أية مؤهلات علمية الحق في التشهير والتنكيل برجال العلم والأدب وفصلهم من خدمة الجامعة على رغم ان بعضهم كان منذ عشرات السنين من الاساتذة والباحثين البارزين. والآن يعيش الآلاف من الأساتذة وخريجي الجامعات الايرانية في الخارج كلاجئين سياسيين او مهاجرين. اما المناهج الدراسية الجامعية والثانوية فتم شحنها بمواد ذات طبيعة دينية، عقائد كانت او احكاماً او تواريخ. وهناك العديد من الطلاب والتلامذة الذين اعتبروا راسبين بسبب المادة الدينية على رغم انهم نجحوا في جميع المواد العلمية. ووصل الأمر الى ان رفسنجاني شكا مرة في خطبة يوم الجمعة من الافراط في الاسئلة الدينية حيث قال "يطالبون الشباب بالرد على اسئلة لم نكن نحن في الحوزات الدينية نعرفها ولم نكن نهتم بها". وتم منع الفتيات من الدراسة في بعض الكليات، كما تم الفصل بين الذكور والاناث من الصفوف. ومنع الاختلاط والحديث خارج الدروس بين الطلاب والطالبات كما أُرغمت الطالبات على ارتداء الحجاب الخ... ماذا كانت نتيجة هذا كله؟ ان طلاب الجامعات الذين يطالبون بالحرية وينتقدون النظام الحاكم ويتعرضون للضرب والحبس والقتل هم الذين ولدوا في ظل هذا النظام او تربوا في مدارسه منذ الصف الأول الابتدائي. فاحتجاجهم ضد النظام هو في الواقع هزيمة "للثورة الثقافية". ان الانتفاضة الطالبية الاخيرة التي دامت ستة أيام هي مرآة للأزمة الشاملة التي يغرق فيها النظام والمجتمع الايراني ككل، مرآة للأسئلة الحقيقية من جهة والردود والحلول المزيفة التي يقترحها النظام من جهة اخرى، واحتجاج على ما قام ويقوم به النظام، بأن يكون مصير المجتمع بيده هو وحده. والجدير بالذكر ان التظاهرات كانت رسمياً تحت قيادة التنظيمات الطالبية الوفية للنظام، التي كانت مهمتها ضبط النشاطات الطالبية في اطار الاصلاحية الخاتمية ومنع الطلاب من الذهاب بعيداً، الا انها تجاوزت كثيراً الخطوط الحمر ونادت بشعارات لم تكن المنظمات الاسلامية الحكومية فكرت فيها مثل الشعار الذي كان ينادي بأن "الجناة هم تحت عباءة خامنئي". وعلى الرغم من ان الحركة الطالبية اليوم ليس في امكانها ان تستفيد من تجاربها التاريخية، ولأن التيارات العلمانية واليسارية ليس لها حق التنظيم وكذلك بعض التيارات الاسلامية على غرار تيار شريعتي وبازركان، فإننا نرى ان الواقع الذي يعيشه المجتمع وما يجري في العالم اليوم قد اعطى الطلاب وعياً وحساسية وطموحاً لصنع مستقبل آخر غير الذي خطط النظام له. * كاتب ايراني مقيم في ألمانيا