كشفت واقعة اقتحام السفارة الإيرانية في لندن من قبل أتباع التيار الشيرازي أخيراً، القناع عن الخلافات والتناحر القديم والمتجدد بين تيارات الإسلام السياسي الشيعية في إيران والنظريات التي تبنتها بعض المرجعيات والمنبثقة من داخل رحم الحوزة في قم والنجف، لتضاعف الخلافات في صلب نظام الملالي المثخن بالأزمات السياسية داخلياً وخارجياً وتضرب «ولاية الفقيه» في خاصرتها من حيث لا تحتسب بعودة بروز الخلاف ما بين الخمينية والشيرازية أو ما أسماه بعض المراقبين ب «صراع العمائم»، ليزيد من أوجاع النظام الناجمة عن تفاقم الاحتجاجات الشعبية العارمة في أرجاء البلاد كنتيجة واقعية لتردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية وتفشي الفساد وغياب العدالة الاجتماعية، ولم يعد قادراً على امتصاص غضب الشارع الإيراني بكافة أطيافه ومكوناته إلا من خلال القمع المفرط ورفع المشانق للمعارضين. وتوضيحاً لجذور الخلاف «الخميني – الشيرازي»، فإن الخميني هو أحد أهم منظري «ولاية الفقيه» ولم يكن أول من طرح هذه النظرية الأقرب للفرضية في الفقه الشيعي السياسي، فقد سبقه في طرحها عدد من علماء الشيعة، أولهم أحمد النراقي قبل أكثر من 200 عام ونقضها في حينه المرجع مرتضى الأنصاري والمجتهد الأكبر النائيني ودحضوا جميع أقوال النراقي في «ولاية الفقيه»، ولكن الخميني كان أهم من وظف «ولاية الفقيه» وطورها كمشروع سياسي ثوري، ويفترض طرح الخميني في هذه النظرية وجوب أن يكون للأمة الإسلامية إمام عليها أو ما يسمى ب «المرشد الأعلى للثورة الإسلامية» لينوب عن المهدي المنتظر إلى حين عودته، ويشترط في هذا «الولي الفقيه» أن يكون الأكثر علماً بين رجال الدين ويقع الاختيار عليه بناء على انتخابه من قبل «آيات الله» أي مجلس خبراء شؤون الإمامة، وتكون ولايته مطلقة وطاعته واجبة على جميع المسلمين في العالم وفي شتى الأمور السياسية والدينية والدنيوية والعامة والخاصة..إلخ، والخروج عن طاعته تعد ردة وكفرا وخروجا عن طاعة وحكم الله، وقراراته تعتبر قوانين إلهية واجبة التنفيذ على جميع المسلمين، أي أن جميع ما نسمعه عن وجود منظومة ديموقراطية في إيران تتمثل في انتخاب الشعب لرئيس الجمهورية والبرلمان، هي عملية صورية ولا قيمة لها في ظل وجود السلطة المطلقة بيد إمام معصوم ومنزه بصك إلهي يلزم عامة المسلمين بالولاء والطاعة العمياء له. وهذه النظرية التي شرحها الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية) لم يعترف بها غالبية فقهاء الشيعة، وعارضوه فيها منذ بداية طرحها، وعلى رأسهم السيد محمد الشيرازي الذي أتى بنظرية سياسية أخرى في الحكم وهي «شورى الفقهاء»، والشيخ إسحاق فياض، والسيستاني، والسيد أبو القاسم الخوئي، ومحسن الحكيم، وابنه محمد باقر الحكيم، والشيخ بشير النجفي، وموسى الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، حتى حفيد الخميني الذي أصبح من المرجعيات لا يؤمن بنظرية جده ولا يعترف بها، وحاله في ذلك حال الكثير من المراجع الشيعية الأخرى في حوزة قم والنجف التي تقر بعدم جواز «ولاية الفقيه» شرعاً. أما تيار الشيرازية الخاص بأتباع المرجع الشيعي المعروف محمد الشيرازي، فقد كان هذا المرجع شريكاً للخميني في مشروعه الثوري ثم انقلب عليه بنظريته الدينية- السياسية «شورى الفقهاء» والتي لا تختلف في جوهرها عن «ولاية الفقيه» ولكنها تختلف في آلية التطبيق فقط، إذ يرى الشيرازي بأنه لا يجوز اختيار ولي أوحد على جميع المرجعيات والمسلمين، بل يشارك في السلطة جمع من الفقهاء، لأن الشيرازي يرى كما جاء في «موسوعة الفقه العقائد»، بأن الفقيه حجة على مقلديه وليس لفقيه حجة على فقيه آخر ومقلديه، وبالتالي لا ولاية لفقيه على فقيه آخر مطلقاً، وأن لا يجوز من وجهة نظر الشيرازي وأتباعه أن يكون هناك فقيه واحد حاكم على بلاد المسلمين وبيده زمام السلطة ولا يجب على غيره من الفقهاء أن يطيعوا حكمه، وإنما اللازم هو أن تكون السلطة ل «شورى الفقهاء والمراجع»، ودحض هذه النظرية الكثيرون من علماء الشيعة أيضاً واعتبروها فكرة غير ناضجة، ومع ذلك نجح الشيرازي في توسيع قاعدته الجماهيرية وأتباعه انتشروا في إيران وتغولوا في بنية دولة «ولاية الفقيه» حتى أصبحوا أشبه بالكيان الموازي لحركة فتح الله كولن في تركيا كما تقول دراسة أعدها محمد الصياد في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية العام الماضي، وقامت سلطات الخميني وخامنئي من بعده بقمع أتباع هذا التيار والزج بمرجعياته في السجون واغتيال العديد منهم على مدار عقود الثورة الأربعة التي ظل خلالها الخلاف قائماً. المحصلة في كل هذا، أن «الخمينية» و«الشيرازية» هما وجهان لعملة واحدة، فنظريتا «ولاية الفقيه» و«شورى الفقهاء» تهدف إلى مطامع سلطوية مطلقة من خلال توظيف الدين لتحقيق هذه الغايات لدرجة التقول على الدين، ولا فرق بينها وبين باقي تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان ونظريتهم الشهيرة «توحيد الحاكمية» التي نظر لها سيد قطب واستقاها من طروحات سابقة لأبي الأعلى المودودي الذي جاء بأن الله له الحكم والسلطة والخلق ليس لهم إلا الطاعة المطلقة، ومن يدعي أن له حرية في أن يحكم أو يصدر قوانين يخضع لها البشر فقد كفر لأنه بذلك نازع الإله في أخص خصائصه وهي الحاكمية، ومن هنا وظف قطب هذا الطرح ليكفر جميع الحكومات وأن لا حكم سوى للخلافة التي نظر لها وتؤدي دور الحاكمية لله في الأرض. لا شك أن جميع هذه الطروحات التي نظرت لها تيارات الإسلام السياسي والخلافات التي نشبت على إثرها، تقف خلفها طموحات سياسية صرفة، وما كان يمكن للخميني أن يؤسس ديكتاتوريته الثيوقراطية لولا الأخطاء الفادحة التي ارتكبها حكم الشاه في أواخر الخمسينات بتأميم قطاع النفط وطرد الشركات البريطانية والأجنبية والامتناع عن تحقيق منافع متبادلة مع منظومة الاقتصاد العالمي وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام أمثال هؤلاء للوصول إلى السلطة. والخلاصة في هذا النوع من الصراعات «الدينية السياسية» أجدها جميعاً تصب في مقولة ساخرة للراحل أحمد فؤاد نجم: «رجال الدين ليسوا نصابين، لكن النصابين أصبحوا رجال دين». [email protected] khalid_tashkndi@