على رغم نجاح ايهود باراك وحزبه في تسلم السلطة في اسرائيل، وميل السياسة الإسرائيلية نحو التسوية استجابة لتوجهات المجتمع الإسرائيلي التي أفصح عنها في الانتخابات، فإن التحركات والتصريحات السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب تؤكد أنه ما زالت ثمة فجوة واسعة بين هذا الميل وبين امكان ترجمته على أرض الواقع، ما يعني أن التحدي، الذي يمثله باراك للعرب ولعملية التسوية، بمعنى ما، لا يقل عن التحدي الذي مثله سلفه نتانياهو، ان لم يكن أكثر صعوبة وجدية. وازاء هذا التحول النوعي المهم ولو بالنسبة لإسرائيل، لا تستطيع السياسة العربية أن تتصرف وكأن شيئاً نوعياً جديداً لم يحصل، فإذا استطاع العرب إدارة الظهر لسياسات نتانياهو وحكومته وبنفس الوقت اكتساب التعاطف الدولي مع موقفهم، فإنهم لن يستطيعوا بالضرورة تجاهل السياسات والمبادرات التي يمكن أن يقدم عليها باراك لتحريك عجلة التسوية، بحكم الدعم الدولي الذي يحظى به. ومن ناحية ثانية فإن السياسة العربية لا تستطيع تجاهل الفوارق بين سياسة باراك وحزبه العمل، وبين سياسة نتانياهو وحزبه اللكيود، ذلك أن سياسة التعميم وتبسيط الأشياء تضر بالتفكير السياسي وبالمصالح العربية، كونها تتجاهل مجمل التحولات والتطورات الحاصلة في اطار المجتمع الإسرائيلي، كما تتجاهل حقيقة تأثر اسرائيل ان لم يكن ارتهانها الى حد كبير للمسارات السياسية الدولية والإقليمية. وفي الواقع فإن السياسة الإسرائيلية الخارجية المتعلقة بعملية التسوية، محكومة بمؤسسات وبتناسب قوى داخل المجتمع الإسرائيلي، وبعوامل خارجية، إقليمية ودولية، في المركز منها موقف الولاياتالمتحدة الأميركية، وسواء كان نتانياهو أو باراك أو غيرهما في رئاسة الحكومة، فإن هذه السياسة تتحرّك داخل خطوط الإجماع الاستراتيجي المتفق عليها بين الإسرائيليين، بخاصة بما يتعلق بأمن اسرائيل ومصالحها، وينحصر الخلاف بينهم حول أولوية عملية التسوية لإسرائيل وشكل تكيفها مع المتغيرات الدولية وكيفية اندماجها في المنطقة والثمن الذي يجب أن تدفعه من أجل ذلك. في هذا الإطار بالتحديد يمكن تفسير تصريحات باراك، بعيد فوزه في الانتخابات، حول خطوط حكومته بشأن الاحتفاظ بالقدس موحدة وبكتل المستوطنات وبعدم العودة لحدود ما قبل الرابع من حزيران يونيو واعتبار نهر الأردن حداً أمنياً لإسرائيل، لتؤكد هذه الحقيقة، على رغم المرونة التي يبديها هو وحزبه بما يتعلق بموضوع الدولة الفلسطينية وصلاحياتها ومساحتها، قياساً بسلفه نتانياهو، وعلى رغم حديثه عن الاستعداد لاستئناف التفاوض مع السوريين من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات قبل ثلاث سنوات، فضلاً عن تأكيده السعي الجاد للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة. وهذا يعني أن الحدود التي رسمها باراك للتسوية على جميع المسارات، هي حدود التسوية التي يجمع عليها المجتمع الإسرائيلي، في هذه المرحلة، وبالتالي فإن نجاح باراك في الانتخابات لا يعني بداهة أن عملية التسوية باتت قيد الانجاز أو أنها باتت أقرب الى التسوية التي ينشدها الأطراف العرب المعنيين. ما يزيد من عبء عملية التسوية على سياسة باراك وحكومته هو أن هذه السياسة معنية بالإجابة ليس فقط عن مجمل الاستحقاقات المتعلقة بالحلّ الانتقالي مع الفلسطينيين، التي أجّلتها حكومات رابين وبيريز ونتانياهو السابقة، وإنما هي معنية أيضاً بفتح ملفات المرحلة الأخيرة من المفاوضات والتي تشمل قضايا: اللاجئين، القدس، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الأمنية، وهذا العبء هو الذي يفسر تأنّي وحذر باراك في تحركاته السياسية الخارجية كما في تحالفاته الداخلية وهو ما يفسّر سعيه لتحقيق أوسع التفاف حول حكومته. وفي الواقع فإن التسوية مع اسرائيل تتضمن الكثير من الالتباسات والتعقيدات الداخلية والخارجية، فهذه الدولة في الحقيقة ليست دولة عادية وإنما هي دولة استيطانية وظيفية من نوع خاص، والفارق هنا هو أن الدولة العادية ليست لديها مشكلة مع التاريخ والجغرافيا والتكوين المجتمعي، على خلاف الدول الاستيطانية الوظيفية التي لم تحدد بعد حدودها الجغرافية والبشرية ولا دستورها، وهي حال اسرائيل، حتى بعد خمسين عاماً على قيامها. وعليه فإن هذه الدولة تحتاج الى وقت كبير والى عوامل داخلية وخارجية كي تستطيع أن تحسم خياراتها التاريخية، بخاصة وأن البنى والدوافع الداخلية لوحدها، تشكل شرطاً ذاتياً لازماً، ولكنه ليس كافياً لعمليات التغيير المطلوبة للتكيف أو الاندماج. وإذا كان ثمة ميل اسرائيلي نحو التسوية ونحو تكييف اسرائيل مع المتغيرات الدولية والإقليمية باتجاه تحويلها من دولة استثنائية الى دولة عادية، فإن هذه التغيرات والتحولات تشق طريقها بصعوبة وببطء، من جهة، وبمقاومة من بعض الأوساط التي ترى في أي تغيير تهديداً لوجودها أو لمصالحها، من الجهة الثانية، وهذا ما يحدث في اسرائيل اليوم والى حد كبير. وكما أثبتت التجارب السابقة، ان بالنسبة لفرنسا في الجزائر أو بالنسبة للنظام الاستيطاني العنصري في جنوب أفريقيا، فإن الدوافع والتغييرات الداخلية، في مثل هذه الأنظمة، لوحدها لا تكفي، فحتى تتغيّر اسرائيل فهي تحتاج أيضاً الى ظروف ودوافع موضوعية، اقليمية ودولية، تدعم عوامل التغيير الداخلي فيها، وتبين لها عقم المضي في سياسة القوة والغطرسة وتجاهل حقوق الآخرين، كما تبيّن لها الكلفة المعنوية والمادية جراء المضي في هذه السياسة. وهكذا فإن ثمة تغيّراً حقيقياً ونوعياً في السياسة الإسرائيلية، ولكن هذا التغير يحتاج حتى يأخذ مساراته وحتى يتجاوب مع الحد الأدنى لمتطلبات سلام عادل وشامل الى مزيد من التحولات الإسرائيلية ومزيد من الجهد الدولي للضغط على اسرائيل، وبخاصة الى مزيد من الاستعداد والفعل العربي لمجابهة التحدي الإسرائيلي، بصورة ايجابية وفاعلة وموحدة ما أمكن. والنتيجة الأساسية التي ينبغي إدراكها هنا هي أن الإسرائيليين حينما اختاروا باراك بديلاً من نتانياهو اختاروا الأفضل بالنسبة لهم وفق معاييرهم ومصالحهم وأولوياتهم هم أولاً، وليس لمصلحة أي طرف آخر، على رغم أنه يوجد فارق بين باراك ونتانياهو بالنسبة لنا أيضاً. وعليه فإن بناء الأوهام على باراك والقعود لانتظار ما يتكرّم به على العرب، أو إبداء الاستعداد لاستئناف العلاقات والمفاوضات الثنائية ومعاودة المشاركة في المفاوضات المتعددة، هي وحدها سياسة غير فاعلة وقد لا تلبي المصالح العربية، كما يمكن أن تضعف الدوافع التي تؤثر حتى على مسار تحوّل اسرائيل نحو تسوية تتجاوب مع الحد الأدنى من الحقوق العربية، بخاصة وأن الولاياتالمتحدة أعلنت أنها ستخفف من تدخلها ومن "ضغوطها" على اسرائيل، لذلك فإن السياسة العربية معنيّة بإعادة ترتيب أوضاعها وأوراقها، وتنظيم نفسها لمواجهة التحديات والاستحقاقات الجديدة لعملية التسوية، في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة. * كاتب فلسطيني.