بعد ثلاث سنوات على وجوده في السلطة، التي وصلها بفارق يقلّ عن 1 في المئة من أصوات الناخبين، متفوقاً على منافسه شيمون بيريز، سقط بنيامين نتانياهو، في الانتخابات الاسرائىلية، سقوطاً مدوياً أمام منافسه ايهود باراك، قد يدفعه، الى الانسحاب من الحياة السياسية، بسرعة لا توازيها سوى سرعة صعوده فيها. وفي هذه المرة لم يسقط نتانياهو لوحده، فقد جرّ معه حزبه الليكود، واليمين القومي، ايضاً الى الهاوية. وبالمقابل فان النتيجة المدوية، الاخرى، لهذه الانتخابات تمثّلت بقطع المسار الذي بدأ في العام 1977، حين تبوأ ليكود لأول مرة سدة السلطة في اسرائيل، كما تمثّلت بعودة حزب العمل بقوة للسلطة، متحرراً من خيار تشكيل حكومة وحدة وطنية مع الليكود ومتخلصاً من ابتزاز الاحزاب الدينية والاحزاب الصغيرة، في إمكان تشكيله للحكومة الاسرائىلية، المقبلة، وفق شروطه وبرنامجه" وهو الامر الذي افتقدت له الحكومات الاسرائىلية منذ ما يزيد عن عقدين، وهو ما أدى الى ضعف الاستقرار الحكومي والسياسي فيها وأضعف قدرتها على حسم الخيارات الأساسية التي كانت تواجهها، طوال المرحلة الماضية. واذا كان سقوط نتانياهو متوقعاً، بحسب استطلاعات الرأي الاسرائىلية، كما كان متوقعاً ازدياد نفوذ الاحزاب الدينية والإثنية على حساب الحزبين الكبيرين العمل والليكود خاصة بفضل نظام الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة، فانه لم يكن من المتوقع حصول هذا الانزياح الحاسم باتجاه اليسار والوسط في التصويت الاسرائىلي، مقابل الانهيار الكبير لكتلة اليمين القومي في الكنيست واختفاء الاحزاب اليمينية المتطرفة تقريباً. وقد أدت هذه النتائج المفاجئة الى انتهاء النظرية التي تتحدث عن انقسام المجتمع الاسرائىلي، الى قسمين متساويين تقريباً، بين معتدلين ومتطرفين في موضوع التسوية، أو بين يمين ويسار في القضايا الاجتماعية وقضايا الدين والهوية، والتي رجّحت تنامي الميل نحو التشدد واليمين، على حساب الاعتدال واليسار. ففي هذه الانتخابات تآكل المعسكر القومي المتشدد في قضايا التسوية، بخاصة انه لا يمكن احتساب الكتلة الدينية الحريدية، التي تضم حركتي "شاس" 17 مقعداً و"يهوديت هاتوراه" 5 مقاعد، على التيار المتشدد في قضايا التسوية، لانهما في خلفيتهما الدينية تكفّران الحركة الصهيونية، وتركزان على الجوانب الروحية والاجتماعية اكثر من الجوانب السياسية، وتعطيان الأولوية لحياة الانسان اليهودي على حساب الحفاظ على ما يسمى "أرض اسرائيل الكاملة". وفنّدت هذه الانتخابات بما لا يدع مجالاً للشك نظرية تحوّل المجتمع الاسرائىلي نحو اليمين، سواء في التصويت لاحزاب الوسط واليسار، أو في التصويت للاحزاب ذات الطابع الإثني، مع العلم ان حركة شاس ذاتها تحمل طابعاً إثنياً، بتعبيرها عن مصالح اليهود الشرقيين، الى جانب طابعها كحركة دينية. وكما يصحّ ذلك على انتخابات الكنيست يصح ايضاً على انتخابات رئيس الوزراء، فاذا كان يمكن جدلاً تحييد أصوات الناخبين العرب، الذين صوّتوا لباراك، والاعتماد فقط على اصوات الناخبين اليهود، فثمة فرق في التصويت اليهودي لصالح باراك، على خلاف التصويت في الانتخابات السابقة 1996، حيث كانت الفجوة كبيرة بين نتانياهو وبيريز، لصالح الاول. ايضاً لا يمكن اعتبار تصويت المتدينين لنتانياهو، على انه تصويت على نهجه السياسي، بقدر ما هو تصويت نابع من مصالح ومساومات اعتاد نتانياهو عليها لجذب المتدينين لجهته، واعتادت الاحزاب الدينية عليها لابتزاز الاحزاب الكبيرة، وتعزيز نفوذها في المجتمع الاسرائىلي. واذا كان يمكن تفسير سقوط نتانياهو بسياساته الاستعراضية، وغطرسته، وفرديته، واستعدائه لقادة الليكود، ولجميع الاطراف، دولياً واقليمياً، فان تفسير هذا الانقلاب في توجهات المجتمع الاسرائىلي يعود الى عدة عوامل أساسية منها: 1 ميل الاسرائىليين للتغيير، وهذا الميل موجود بشكل رئيسي لدى غير المنتمين، وهم يمثلون كتلة الاصوات العائمة، وتبلغ قوتهم التصويتية حوالي 8،12 في المئة من اصوات الناخبين، وهؤلاء على الاغلب يصوتون للحزب الذي يكون في المعارضة، 2 نجاح حزب العمل باستمالة قسم كبير من اليهود الشرقيين، بل انه تحالف مع بعضهم بزعامة ديفيد ليفي رئيس حركة "جيشر"، وحتى ان اسحق مردخاي الذي يعتبر من أهم زعماء اليهود الشرقيين، وهو الذي يترأس حزب الوسط، دعا الناخبين للتصويت لمصلحة باراك. وكأن باراك قد اعتذر علناً في وقت سابق لليهود الشرقيين عن السياسات المجحفة للحكومات الاسرائىلية السابقة التي تزعمها حزب العمل، ازاءهم. 3 استطاع حزب العمل ان يستعيد لنفوذه قطاعات واسعة من القادمين الجدد، بخاصة اليهود الروس، وحزبهم "اسرائىل بعليا"، بسبب استياء هؤلاء من سياسة محاباة التيارات الدينية التي انتهجها بنيامين نتانياهو، ولتخصيصه ميزانيات كبيرة للمستوطنين على حسابهم، بخاصة ان هؤلاء غير متأثرين بشعارات نتانياهو السياسية، وغير متعلقين بالايديولوجيا الصهيونية، وقد قدموا لاسرائيل أصلاً لاسباب مصلحية وشخصية، خاصة ان نتانياهو عمد الى استعدائهم بدعمه احد مستشاريه، بتشكيل حزب جديد لليهود الروس هو "اسرائيل بيتنا"، كمنافس لحزب اسرائىل بعليا. 4 قدم نتانياهو نفسه كحليف للتيارات الدينية، وهو ما استعدى عليه قسم واسع من اليمين القومي العلماني، الذي يرى خطورة كبيرة في ظاهرة ازياد نفوذ الاحزاب الدينية على طابع الدولة العلماني ونظامها الديموقراطي، في حين قدم حزب العمل نفسه باعتباره حامياً للنظام العلماني الديموقراطي الاسرائىلي، فكسب جمهور العلمانيين اليمينيين. 5 ميل العرب، الذين يشكلون حوالي 14 في المئة من الناخبين في اسرائىل للتصويت لمرشح حزب العمل، باعتباره الاقل سوءاً، ولكن مع أهمية هذه المساهمة، فان المفاجأة كانت في ان الفارق الكبير بين باراك ونتانياهو، جعل باراك متفوقاً بأصوات الناخبين الاسرائىليين اليهود، وهذا يعطيه ميزة لصالحه، ويقطع على اليمين الادعاء بأن باراك نجح بفضل أصوات العرب في اسرائيل، الذين يشكك اليمين بشرعيتهم وبولائهم للدولة، عندما يريد. 6 تضعضع حزب الليكود، وخروج عدد من قادته منه بسبب تذمرهم من سياسات نتانياهو وتفرده، وايضاً تفاقم مشكلات البطالة وتراجع الاستثمارات على خلفية جمود عملية التسوية، وكذلك نقمة قطاعات واسعة من سياسات نتانياهو من ضمن ذلك الصحفيين الذين وصفهم نتانياهو اخيراً انهم جبناء، بسبب مواقفهم النقدية له، وايضاً استياء المستوى العسكري، الذي لم ينصاع في مرات عديدة لنزوات نتانياهو. 7 يضاف الى ذلك ان العوامل الخارجية لعبت دوراً كبيراً في اضعاف صورة نتانياهو الداخلية، حيث صوّرته على اعتباره خطراً على اسرائيل، ومقوضا لمصالحها، ومهدداً لمكانتها الدولية والاقليمية، فقد تآكلت صورة اسرائيل الخارجية، وجرت عملية مقاطعة وعزل تقريباً لنتانياهو، وقد تجلّى ذلك في حالة الفتور التي سادت بين حكومة نتانياهو ودول أوروبا، وفي خلل العلاقات مع الولاياتالمتحدة الاميركية، وفي تراجع علاقاتها الاقليمية، بسبب جمود عملية التسوية. المهم ان صفحة نوعية جديدة في النظام السياسي الاسرائىلي، وفي مسيرة التسوية، قد فتحتها نتائج الانتخابات الاسرائىلية، ورغم انه من الخطورة المراهنة على سياسات باراك، أكثر من المراهنة على ما يجب ان يفعله العرب، كما هو حاصل، فثمة خلافات حقيقية بين باراك ونتانياهو بشأن قضايا الحل الانتقالي مع الفلسطينيين وبما يخص رؤية كل منهما للعلاقات الاقليمية، وللعلاقة مع الولاياتالمتحدة الاميركية، وحتى بالنسبة لبعض قضايا المرحلة الاخيرة من المفاوضات المتعلقة بموضوع المستوطنات والحدود والموقف من قيام الدولة الفلسطينية، كما بالنسبة للانسحاب من الجولان وجنوب لبنان، لكن بما يخص قضايا القدس واللاجئين وعدم العودة لحدود 1967 والأمن، فثمة اتفاق إجماع اسرائىلي حول هذه القضايا. وإن كان ثمة فوارق بين هذين الاتجاهين فهي حول الثمن الذي يجب ان تدفعه اسرائيل للتسوية مع الفلسطينيين وعلى الصعيد الاقليمي. ومن الطبيعي ان حزب العمل هو الأقدر على التعاطي مع إشكاليات وتعقيدات عملية التسوية بسبب برغماتيته، وبفضل علاقاته الدولية والاقليمية. وما يجب استنتاجه على ضوء نتائج الانتخابات الاسرائىلية، هو انه وبعد خمسة عقود على قيام اسرائيل، وبدافع من تغيّر البنية السكانية، حيث بات 60-65 في المئة من سكانها اليهود من مواليدها، وبسبب مستوى الاستقرار والتطور السياسي والاقتصادي والثقافي الذي بلغته، من المفترض ان هذه العوامل تدفع اسرائيل نحو إنتاج تصور جديد لهويتها الذاتية، ولملامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن المفترض ان عملية التسوية الجارية، بكل الامتيازات التي تمنحها لاسرائيل، وبالضمانات التي قدمتها الولاياتالمتحدة الاميركية لها، ستشكل دافعاً لاعادة تعريف اسرائيل لذاتها، ولفتح الطريق أمامها لاجراء مراجعة اسرائيلية للصهيونية، تتأسس على الواقع الذي اصبحت عليه اسرائيل اليوم، كما تتأسس على تكيّف اسرائيل مع المتغيرات الدولية والاقليمية. وجاءت نتائج الانتخابات لتفتح المجال امام حزب العمل، لاثبات صدقيته في مجال التسوية، فهو يمكنه، في حال حسمه لخياراته، التقدم في موضوعة التسوية من دون ضغط من الكنيست، او من جماعة "أرض اسرائيل الكاملة"، بخاصة وان اليمين، وخلال وجوده في السلطة وافق على اتفاقات أوسلو وعقد اتفاقي الخليل وواي بلانتيشن، وايضاً لان الاحزاب الدينية الحريدية شاس ويهوديت هاتوراه، هي احزاب ليس لديها مشكلة كبيرة مع سياسات حزب العمل ازاء التسوية. واذا كان العرب قد تصرفوا سلباً طوال المرحلة الماضية، فاكتفوا بعدم فعل اي شيء تقريباً، إبان حكم نتانياهو، مستفيدين من سياسته المتطرفة ومن عزلته الدولية، فهم اليوم لا يستطيعون ادارة الظهر لباراك، بخاصة وان أغلبهم دعا لنجاحه، ومع كل الزخم الذي جاء به الى السلطة اسرائيلياً واقليمياً ودولياً. ولعل العرب يحتاجون اليوم اكثر من اي وقت مضى الى اعادة تنظيم أوراقهم وتعزيز تضامنهم لمواجهة التحدي الاسرائىلي الجديد الذي يمثله باراك، فعلى ما يفعله وما لا يفعله العرب يتوقف الى حد كبير توجه اسرائيل لحسم جدلها الداخلي ولخياراتها بشأن التسوية، كما يتوقف عليه، الى حد ما، صورة اسرائيل المستقبلية. * كاتب سياسي فلسطيني.