أكثر من أي انتخابات عرفتها اسرائيل منذ قيامها، تبدو الانتخابات المرتقبة على غاية الحساسية والأهمية، نظراً الى درجة احتدام الخلاف بين التيارات الاسرائىلية والانعكاسات الداخلية والاقليمية والدولية. من الطبيعي ان تحتدم المعركة الانتخابية على شكل انقسامات وصراعات حادة على هوية الدولة ومستقبلها، إذ يقف العلمانيون في مواجهة المتدينين، والمعتدلون ضد المتطرفين، والشرقيون ضد الغربيين، وكل طرف يتهم الطرف الآخر بأنه يهدد بسياسته أمن الدولة وهويتها اليهودية ومصالحها المستقبلية ومكانتها الدولية والاقليمية، وانه هو الذي سيحافظ على أمنها وهويتها ومصالحها. وتحظى الانتخابات الاسرائىلية في هذه المرة باهتمام خارجي، اقليمي ودولي قلّ نظيره. وهو اهتمام فوق العادة، يفوق عدد سكان هذه الدولة ومساحتها وقدراتها الاقتصادية. وهذا الاهتمام يعود الى إنعكاسات الانتخابات على الاستقرار الاقليمي، وعلى استقرار عملية التسوية. وبغض النظر عن التداعيات الصاخبة للعملية الانتخابية في اسرائيل، وحتى عن نتائجها، تتجه هذه الدولة أكثر فأكثر نحو حسم خياراتها وتعريف حدودها، ليس فقط بدفع من المتغيرات الدولية والاقليمية، وإنما ايضاً بسبب التحولات الداخلية فيها. فهذه الدولة الاستيطانية الاحتلالية تكاد تفتقد الى عدد من الوظائف الداخلية والخارجية التي حددت طبيعتها ودورها. فهي وصلت الى سقف لم تعد تستطيع تجاوزه سواء لقدرتها على جلب المهاجرين، أو لتوسيع رقعتها، كما لقدرتها على تصدير دورها السياسي - الوظيفي في المنطقة. وعلى الصعيد الدولي يبدو الوضع أقل استجابة للإبتزاز، فلم تعد اسرائيل الطفل المدلل للغرب، بعد انتهاء الحرب الباردة، وفي ظل الهيمنة الاميركية المباشرة على النظام الدولي. وفضلاً عما تقدم، دخلت اسرائيل بعد نصف قرن على قيامها، وبعد استقرارها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، مرحلة من الاستقرار المجتمعي إذ أصبح 65 في المئة من سكانها من مواليدها. وفي ظل سياسات الخصخصة وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، بدأت وضعيتها كدولة رفاه تتآكل، وباتت تتجاذبها مسارات العولمة والانفتاح من كل جانب لتحويلها الى دولة عادية. وهذا يعني انها مضطرة الى مراجعة خياراتها انطلاقاً من حاجات ومتغيرات داخلية. وعلى ذلك، تجد اسرائيل نفسها اليوم على اعتاب مرحلة تغيير، سواء حصل ذلك آجلاً أم عاجلاً، وحصل برغبتها أم رغماً عنها. وبغض النظر عن نتائج الانتخابات المقبلة، فالتاريخ لا يصنع فقط عبر صناديق الاقتراع، وإنما تصنعه تطورات ومسارات موضوعية تشق طريقها ببطء ولكن بعمق. والمجتمع الاسرائىلي، بمختلف تياراته وفئاته، يتجه نحو الإجابة عن الاسئلة المصيرية المطروحة عليه، وبخاصة بالنسبة لعملية التسوية. والميل العام في هذا المجتمع هو نحو إعادة ترتيب أولويات الوجود الاسرائىلي في المنطقة. فحتى التيارات اليمينية القومية والدينية باتت أكثر تفهماً لحاجات هذه المراجعة، وأكثر تفهماً لمتطلبات تكييف اسرائيل مع المتغيرات الدولية والاقليمية. ويبدو ان الخلاف بين التيارات الاسرائىلية على هذا الموضوع يتعلق بثمن هذه التحولات، وحول ما يتوجب على اسرائيل ان تدفعه مقابل ذلك. أما بالنسبة لظاهرة انقسام المجتمع الاسرائىلي الى تيارين متعادلين تقريباً، أو ظاهرة الانزياح نحو اليمين، فهما نتاج الاستقطاب الحاصل بين التيارات الاساسية فيه، وهما تعبير طبيعي عن القلق المصيري المزمن لمجتمع استيطاني وظيفي، مثل اسرائىل، إذ تشكل هذه المسألة هاجساً محورياً في مختلف أوجه نشاطه. وهذا الانقسام، من ناحية اخرى، هو نتاج نمو النزعات الانتهازية المصلحية في المجتمع الاسرائىلي، التي تتجلّى بتنامي دور المجموعات الإثنية والفئوية، على حساب المصلحة المجتمعية. وهذه سمة من سمات المجتمعات الاستيطانية التي بلغت حداً معيناً من النضج والإحساس بالأمان. وهي تبرز بشكل فاقع في اسرائيل في هذه المرحلة على شكل لوبيات لجماعات المستوطنين والمتدينين والمهاجرين الروس والمهاجرين الاثيوبيين واليهود الشرقيين... الخ. وسواء نجح العمل أو الليكود لن تستطيع اسرائيل الحسم في الاسئلة المصيرية المطروحة عليها، وخصوصا سؤال التسوية. فالحسم في هذه الاسئلة يحتاج الى إجماع اسرائيلي، أو الى غالبية اسرائيلية كافية، وهذا غير متوافر في المرحلة الحالية على ما تؤكد نتائج الاستطلاعات الاسرائىلية الناشطة هذه الايام، على خلفية المعركة الانتخابية. ولكن هذا لا يعني ان النتيجة واحدة في حال نجاح مرشح الليكود أو العمل. بخلاف الليكود، من الطبيعي ان حزب العمل هو الأقدر على التعاطي مع اشكالات وتعقيدات عملية التسوية بسبب برغماتيته وخطابه السياسي المراوغ، وبفضل علاقاته الدولية والاقليمية. ومع أهمية هذا التمييز، من المهم عدم المخاطرة والوقوع في الأوهام. فحزب العمل لن يخاطر في اختراق الخطوط الحمر لعملية التسوية اذا لم يتوفر توافق اسرائىلي مناسب، فضلاً عن أن لهذا الحزب رؤية معينة لعملية التسوية لا تتجاوب حتى الآن مع الحد الأدنى للحقوق العربية، وخصوصاً الفلسطينية. فإذا لم يتم الاتفاق، بعد الانتخابات الاسرائىلية، على حكومة وحدة وطنية بين الحزبين الكبيرين، العمل والليكود وربما حزب الوسط كذلك، ترجح كل المؤشرات أن تكون الحكومة الاسرائىلية المقبلة حكومة مشلولة، بغض النظر عمن يشكلها، سواء كان نتانياهو أو باراك أو مردخاي. وستجد اسرائىل نفسها بعد سنة أو سنتين، مرة اخرى أمام استحقاق تقريب موعد الانتخابات من جديد لاعادة دراسة الاصطفافات في المجتمع الاسرائىلي، ومن دون انتخابات مباشرة لرئيس الوزراء هذه المرة. حينها ستتغير قواعد اللعبة، وستستعيد الاحزاب الكبيرة زخمها على حساب الاحزاب الصغيرة. وهكذا ستنتظر عملية التسوية انتخابات اسرائىلية اخرى. * كاتب سياسي فلسطيني