لو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب ايهود باراك اختار حزب ليكود المهزوم في الانتخابات هزيمة نكراء شريكاً ائتلافياً رئيسياً في حكومته، لضجّ جميع المعنيين بتقدم عملية السلام في الشرق الأوسط واعتبروا ان غالبية الإسرائيليين لا تريد السلام. لكن باراك انتخب رئيساً للوزراء لعكس هذا تماماً بعد أن ضجر العالم كله من سلفه بنيامين نتانياهو. وبالنظر إلى الوراء قليلاً يمكن القول الآن إن باراك أجاد لعبة المفاوضات الائتلافية لتشكيل حكومته المنتظر أن يقدمها إلى الكنيست في غضون بضعة أيام. والمقصود هنا تحديداً تفاوضه مع الكتلتين الكبيرتين في الكنيست، حزب ليكود وحركة "شاس" الدينية الشرقية. تفاوض تارة مع ليكود وأخرى مع "شاس" ربما مدركاً طوال الوقت أن ليس بوسعه أو لمصلحته أن يضم ليكود المهزوم لكن المتشدد في شروطه والمطالب ب"فيتو" على القرارات الحكومية المتصلة بعملية السلام. وتفاوض مع "شاس" بعد استقالة زعيمها السياسي ارييه درعي المقرر ان يدخل السجن تنفيذاً لحكم قضائي بعد ادانته بالفساد والرشوة. وتمكن باراك من تشكيل حكومة تستند إلى قاعدة دعم عريضة في الكنيست قوامها 77 نائباً يضاف إليهم النواب العرب ال10. علّق الجميع أهمية خاصة وكبيرة على مسألة أي من الشريكين الائتلافيين المحتملين سيختار باراك، ليكود أم "شاس"، خصوصاً أن الاختيار يعني استمرار جمود عملية السلام إذا اختار ليكود أو استئنافها واحتمال تقدمها بيسر إذا اختار "شاس". في النهاية، انهارت مفاوضات باراك مع زعيم ليكود الموقت ارييل شارون بسبب رفض الأخير مبداً الانسحاب من هضبة الجولان السورية ورفضه وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وهكذا صارت الطريق سالكة لضم حركة "شاس" التي لا تعارض إعادة الأراضي المحتلة خدمة لقضية السلام، خصوصاً إذا تمكنت من تأمين التمويل الحكومي لبرامجها الاجتماعية. وهكذا، فإن باستطاعة باراك، وسط إشارات مشجعة وتصريحات ايجابية تبادلها مع الرئيس السوري حافظ الأسد أخيراً ونشرتها "الحياة"، ان يبدأ قريباً بحل مشكلات إسرائيل الكبيرة في المنطقة، وأهمها تلك المتصلة بافتقارها إلى الأمن والاستقرار والاحترام في المجتمع الدولي بسبب احتلالها الأراضي العربية وعنادها في إعادة حتى الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني وفقاً للاتفاقات الموقعة. وتبدو واشنطن متلهفة لدعوة باراك لزيارتها خلال الشهر الجاري لتعرض عليه تفاصيل ترتيبات أمنية في الجولان يشارك فيها الأميركيون، ولتقترح عليه التقدم على المسارات الثلاثة: السوري واللبنانيوالفلسطيني. وقد عد باراك ناخبيه بسحب القوات الإسرائيلية من جنوبلبنان في غضون سنة من تسلمه الحكم. وسيبدأ العد التنازلي بعد أيام، وهو بالتأكيد عدّ يشمل المسار السوري الذي من الممكن احراز تقدم سريع فيه لأنه برغم تعدد جوانبه لجهة الترتيبات الأمنية ومراحل الانسحاب والخطوات المتزامنة... الخ، هو حل "دفعة واحدة"، بخلاف المسار الفلسطيني الذي هو حبل من العقد الكأداء التي ارجئ حلها لصعوبتها: القدس، وقضية اللاجئين، والمياه والمستوطنات. ولكن ليس أمام الفلسطينيين أي خيار سوى السعي إلى التحرر الحقيقي من الاحتلال. ومهما استقرت الأمور بين إسرائيل وجيرانها المباشرين خارج حدود فلسطين الانتدابية، فإن استقرارها الحقيقي لن يكون مضموناً من دون حل عادل ومقبول مع الشعب الفلسطيني.