"من أنا؟"، سؤالٌ ليس جديداً. وأستعيده للتوكيد، بخاصة، على السؤال الذي يقترن به ضمنياً وهو: "ما عملي؟"، أو "ما مشروعي؟"، فكل محاولة للجواب عن السؤال الأول، لا بد لها، لكي تكتسب معناها، من أن تتمّ في ضوء السؤال الثاني. يدور الأول حود تحديد "الذات" - نشأةً، وانتماءً. ويدور الثاني حول تحديدها - عملاً، وصيرورة. الأول يكشف عمّا هو "طبيعي" و"مُعطىً"، دون أي خيار أو تدخل أو إرادة من الذات. ويكشف الثاني عما هو "مكتسب"، عما هو "خلق"، وإذاً عما هو "إشكالي"، يقول على اختيار الذات، وتدخلها، وإرادتها ... الرؤية، المشروع، العمل، الصيرورة: هذه كلها، تحديداً، أشكال من "الخروج" تتجاوز بها الذات حدودها الأولية الى ما هو خارجها، الى "الآخر" - انفتاحاً، وحواراً، وتفاعلاً. "الآخر" هو الباب الذي تدخل منه الذات الى الكون. أو هو، بالأحرى، موجود في الذات - في صورة اندفاع، أو تساؤل، أو مخيلة. ويرمز فيها الى حركيتها - قلقاً، وتطلعاً، والى تجاوز واقعها في اتجاه ممكناتها. أوضح بدئياً، أمرين: الاول هو أنني أتكلم هنا على الذات - الآخر، نظرياً. وأرجىء الكلام على الممارسة التاريخية. فلهذه شأن خاص. والثاني هو انني لا أتكلم على "الآخر" الذي ينتمي الى ما تنتمي اليه الذات، لغة وثقافة ووطناً: "الآخر العربي" للذات العربية، هو كذلك شأن خاص. وإنما أتكلم على الآخر - "الأجنبي". منذ ما سميناه بْصر النهضة" تعيش "الذات" العربية المسلمة في علاقتها مع "الآخر"، وهو هنا، تحديداً، سالغرب" إشكالاً عبّر عنه كثيرون في صيغ مختلفة ومتنوّعة. هكذا يستهلّ الشاعر أدونيس مداخلته "وطن ليس وطناً" في كتاب "باحثات". وهو كتاب متخصص يصدر عن تجمع الباحثات اللبنانيات وقد دار عدده الخامس حول محور عنوانه: "الغرب في المجتمعات العربية: تمثلات وتفاعلات". وشارك فيه عدد من الباحثين والمفكّرين والكتاب العرب. ومن موضوعات الكتاب: العرب والغرب: ميراث الماضي إدوارد سعيد، هويات، هيئات، حدود: خطاب الأصل وإلحاحات العيش نهى بيومي، صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية سعيد بن سعيد العلوي، الغرب في عيون رحالة من لبنان نازك سابا يارد، الفلسفة والغرب فارس ساسين، في استقبال نيتشه سعاد حرب، وطن ليس وطناً أدونيس، صورة الغرب في المجتمعات العربية جورج خضر، الآخر في ثقافة مقهورة الطاهر لبيب، تصور الغرب في بعض أفلام يوسف شاهين جين سعيد المقدسي، صورة الغرب في العمارة العربية المعاصرة هويدا الحارثي، الرقص على ضفاف المتوسط جنى الحسن، غرب وشرق: اشكالية الحداثة والتحديث هند الصوفي عساف، سطوة الغرب الجمالية: غربة الأجساد عن مخيلتها دلال البزري، تصور عام لخبراء التنمية الأجانب لينا أأبو حبيب طرابلسي، الحليف السرّي أنيسة الأمين، تجربتي مع الغرب: مقتطفات من المعرفة والحب والحرب رجاء نعمة، في تبديد الأوهام قاسم القادري، بحر الظلمات حنان الشيخ. وررأى ادوارد سعيد في بحثه "العرب والغرب: ميراث الماضي" أن الثقافة العربية الإسلامية الغنية والمتنوعة في الأندلس شارفت على نهايتها عام 1492. مذ ذاك أصبحت العلاقة بين العرب والغرب مضطربة وغير مرضية. وغدت العداوة للعالم العربي الإسلامي تكبر في المتخيل الشعبي الأميركي، يدعمها كتّاب مرموقون أمثال نورمان ميلر وغيره، الذين هم في العادة، كتاب حكماء ومثيرون للإعجاب حين يكتبون عن مواضيع أخرى. لكنهم حين يناقشون العالم العربي، فإنهم يتسلحون بحرية، غير مقبولة، في خلق صور سلبية للثقافة والسياسة العربيتين، ولأنهم مرموقون وذوو أهلية، فإنهم يسبغون الشرعية على أحاديثهم المختلفة عن العرب. لتبيان هذا المسار لا بدّ من تفحّص مقاطع من نورمان ميلر وروبرت فريدمان وأخرى من جريدة النيو يورك تايمز. من جهة أخرى، يظهر في الإنتاج الثقافي العربي غياب لفهم الغرب. إذ لا يوجد في العالم العربي مؤسسة أكاديمية واحدة متتخصصة في دراسة الولاياتالمتحدة الأميركية. في الوقت الذي يبتلع فيه العرب السينما الأميرركية والتلفزيون والمجلات الشعبية. إضافة الى أن الأعمال الخيالية المختصة بفحص الغرب هي قليلة جداً. سياسياً، وعلى صعيد السلطة، يسود العلاقة ما بين العالم العربي والغرب اختلال في التوازن، فبينما يعتقد قادة الدوول العربية بأهمية وضرورة دعم الغرب لهم، خصوصاً الأميركي، فإن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البلاد العربية وغياب المشاركة الديموقراطية وكذلك خضوع الفرد للدولة والتجربة الاستعمارية، تخلق جميعها لدى الفرد العربي الإحساس بانعدام قوته وحيلته تجاه الغرب. هذه العلاقة المعقدة، تمّ تناولها من خلال نصوص نجيب محفوظ، الطيب صالح، الياس خوري، ومحمود درويش. وجاء في تقديم العدد: "ما هي الصور التي لدينا عن الغرب؟ هذا السؤال كان دافعنا للتفكير بهذا الكتاب. وهو سؤال جرّ الى أسئلة أخرى: لماذا نكون في العادة موضوع دراسة؟ فترسم لنا الصور السلبية المتخلف، الإرهابي، غير العقلاني، المستلب... ونواجه ذلك إما بالقبول مذعنين للادعاء القائل بعملية رؤية الغرب وموضوعيته، وإما بالانفعال الذي يقترب من الرفض، وإما بالصمت والاستكانة! ولماذا عندما حاول البعض منا أن يفهم وأن يردّ على هذه الصور، جاءت كتاباته متناثرة تدور بغالبيتها حول الأنظمة السياسية والتيارات العلمية أو الفكرية، مختزلة الغرب في تصور ذي بعد أحادي ينحو الى الإطلاق سلباً أو إيجاباً؟ لماذا وكيف شكلتت رؤية الغرب إطاراً مرجعياً لنا، حتى أننا موضعنا أنفسنا وحددنا علاقتنا مع بعضنا البعض ومع الغرب ومع الشعوب الأخرى انطلاقاً منه؟".