أشكالية... ذلك الذي يحدث على صفحات... "أخبار الأدب"... وتطالعنا به كل أسبوع عبر طلتها البهية لنتفرج من خلال صفحاتها الأدبية على مشهد النميمة الثقافي وتصفية الحسابات الصغيرة. فالجريدة "الغراء" بدلاً من أن تهتم بطرح قضايا الثقافة العربية ومدى تفاعلها مع مجتمعنا الأنساني، أصبحت بنية أولية لإثارة تلك القضايا غير ذات النفع، والتي لا تساعدنا كثيراً على فهم ما يحدث، ودأبت على التنقل بين الحقيقي والزائف، ورفعت شعارها الخالد: أن صديق اليوم هو عدو الغد، وعدو الغد سوف يصبح بإذن الله علاّم الغيوب، وعبر حسابات جهنمية صديق بعد غد. وعلى طريقة أخبار اليوم القديمة في الإثارة: أنه لا يكون للخبر قيمة الخبر في أن يعض الرجل كلباً، طلعت علينا "الغراء" بتحقيق محليّ بالصور عن "دموع أدونيس في المعرض" وأقامت تحقيقها المزري على أن: ما أبكى الرجل الكريم جملة مبالغة صدرت مني أنا المبالغ عند تقديمه... على أية حال مبالغة تفوت ولا حد يموت مثلما يقول العامة في مصر. فقط ومن باب العشم، ومحبة ربنا، وبحق الرباط المقدس الذي عادة ما يربط الكتاب الشرفاء بعضهم ببعض أردتُ وبكامل عزوفي عن المشاركة في نصب الفخاخ، أو اقامة سرادقات العزاء، أو حتى سرادقات الفرح، أو تقديم تشييع الجنازات أو الرغبة في رؤية سقوط الكريزمات الطقوسية كلها صفات وردت في الجريدة عن الشاعر الكبير أدونيس أردت أن أوضح بعض الأمور لعل وعسى أن تتفهم بعض الضمائر الحية القليل من الحقائق الصغيرة التي ما زالت صالحة لإثارة الدهشة "الجملة لطيب الذكر الصديق يحيى الطاهر عبدالله حتى لا أتهم مستقبلاً بانتحالها... لذا لزم التنويه". * باختصار... قدم المقهى الثقافي في معرض القاهرة للكتاب لقاء مع الشاعر الكبير "أدونيس" وكان على نحو من عطاء كريم، وجد الرجل نفسه بين أحباء يقدرون ما قدمته تجربته للشعر والفكر والمغامرة الإبداعية الحديثة، ويعرفون دوره في مساءلة الثوابت، وطرح الأسئلة على الماضي، وتعبيد طريق يخصه في البحث عن "الإبداع والاتباع عند العرب" عبر محاور أساسية هي: الحرية والإبداع، ولا نهائية المعرفة، ولا نهائية الكشف، ثم التغاير والاختلاف والتعدد. * باختصار ثانٍ... وبتقدير وامتنان مني تشرفت بتقديم أدونيس بكلمات مختصرة فيها المعاني السابقة الذكر، ومضافاً اليها: أننا نحتفي بأدونيس مثلما نحتفي بطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وادوار الخراط ومحمد عفيفي مطر، سلالة طيبة من سلالة، واحتوت كلماتي أبياتاً من شعر أدونيس قالها في حب مصر في قصيدته الهائلة "أحلم وأطيع آية الشمس" والتي تزيد عن الثلاثين صفحة من ديوانه "أبجدية ثانية" وهي قصيدة تتأمل أحوال القاهرة عبر صيرورتها في المكان والزمان. وزيادة في الترحيب بالرجل قلت: إن أي طفل في قرية مصرية يبدأ في تعاطي الشعر إذا ما سألته: تعرف مَن مِن الشعراء؟ لأجابك في كبرياء: أعرف أدونيس. تحية رقيقة تتفق وطبائعنا نحن المصريين بالترحيب بالغريب والقريب، وابن السبيل، والعائد من غربته فما بالك وهذا الرجل الكريم بيننا!... ولم أذكر أطفال القرى في مصر على إطلاقهم وإلا لكنت من المبالغين العظام، تلك المبالغة المجانية التي تنقلب ضد نفسها في كل الأحوال. * بعد ذلك اتصل بي محرر "أخبار الأدب"، وسألني رأيي حول... "دموع أدونيس" ظناً منه أنني المسؤول عن هذا الأمر. امتنعت عن أية اجابة وشرحت للمذكور أسبابي، وقلت له: ان لا أحد يمتلك حساً إنسانياً يمكنه الاقتراب أو الحديث عن منطقة البكاء السرية لدى أي شخص في العالم، وان بكاء الإنسان حالة شديدة الخصوصية، ثم أضفت: بكاء أدونيس تشريف للمكان الذي بكى فيه، وتعبير عن محبة لبشر قابلوه بمودة طيبة، وان ما يربطني بأدونيس - أنا كاتب القصة البائس - من علاقة إنسانية خارج أطر الثقافة والكتابة لا يجعلني أشارك في هذه الأمور، وذكرت له ما قلته في تقديمي لأدونيس من غير مبالغة. الغريب في الأمر أن محرر الجريدة لم يشر في تحقيقه المعنون "دموع في عيون أدونيس" الذي استلهمه من عنوان رواية صالح مرسي "دموع في عيون وقحة" والله عيب... الى جملتي التي أثارت كل هذا اللغط، لا من قريب ولا من بعيد، وأقام تحقيقه على طرح سؤال وجهه الى بعض المثقفين الشرفاء الذين جاءت اجاباتهم مسؤولة، ومشمولة بالفهم ومقدرة لكل الظروف، طارحاً عليهم السؤال التالي: يقول سعيد الكفراوي: أنك لو سألت أي طفل في أية قرية مصرية لمن تقرأ لأجابك بكبرياء: أدونيس! وهكذا تغيرت الأحوال من طفل يتعاطى الشعر الى كل أطفال القرى. وبكل الإصرار على الأذى والترصد، ووصفي "بأن الأمر قد وصل بالمبدعين الى هذه الدرجة من الانفصال عن الناس ليتخيلوا أن شعبية أكثر شعراء العربية غموضاً وصلت الى حد أن الأطفال يقرأونه"! * ثم ما هي حكاية الصور المنشورة هذه لرجل يبكي؟... ما الذي تعنيه بالضبط؟ أي رسالة أو معنى تريد "أخبار الأدب" أن ترسلهما؟... ولمن؟... هل بهذا الأفق الضيق تكون الصحافة الثقافية؟... صور بالأبيض والأسود... صور ملونة... صور بحجم الكارت بوستال... صورة مكبرة لرجل ينتحب واضعاً يده على ذقنه، أو قابضاً على نظارته أو معتصراً عينيه. صور أقل ما تتصف به أنها لا تعبر عن الرحمة. أية غلظة، وأية فظاظة صدرتا عن هذه الجريدة بنشرها هذه الصور؟ أي خروج على ما تربت عليه أرواحنا من الصغر... كأن كاميرا المصور البائس تحاول ضبط الشاعر في لحظة خاصة جداً، وتعرضها عرضاً تجارياً رخيصاً. إن البكاء فعل إنساني، ودلالة على رقة الروح، والألفة، والاعتراف بالجميل وصدق المشاعر. لقد علمنا من ربونا فيما مضى من أزمان طيبة: أنك إذا أدركت من يبكي أغلق عليه بابه... اتركه يفضفض. * ثم ما حكاية الاعتداء على الثقافة المصرية هذه باعتبارها ثقافة المركز، والتي تشيع هذه الأيام بين بعض المثقفين المصريين... الشوفينيين؟ أية ثقافة مصرية تقصدون بتلك المعتدى عليها؟ هل تقصدون ثقافة التلفزيون، أعني ثقافة تغييب الوعي التي تصدر عن هذا المكتشف التكنولوجي الرهيب والذي يسيطر الآن على افهام الناس باعتباره الحزب الشرعي الوحيد في الوطن السعيد؟ أم تقصدون الثقافة السلفية التي تطرح نفسها يومياً من خلال ثقافة عذاب القبر وكتب السحر، وانتظار عودة السلف، والإتيان بما هناك الى هنا لتأكيد أننا أمة لا تزال تعيش في الماضي؟ أم هي ثقافة ذات وجه واحد في خدمة النظام القائم من خلال المطبوعات الرسمية، وشعارات حرية التعبير، وأوهام العبور للقرن القادم؟ أم هي ثقافة الحرية الحقيقية، ثقافة الهامش، ثقافة من يصنعون الكتابة بصدق بعيداً عن العباءات الرسمية، ثقافة من يسعون في هذا الوقت المفتوح على الاحتمالات، ليصوغوا ثقافتهم في الفن والفكر والسياسة، خيارهم الانتماء للإبداع. لقد أصبحت الثقافة في واقعنا العربي ثقافات في هذا الواقع المرتهن للغيب، والذي يواجه الحاضر بصياغات الماضي وأراهن أن هؤلاء الصارخين دفاعاً عن الثقافة المصرية لو قدر وصدر لكل منهم كتاب في "كتاب في جريدة" لما كان هذا العويل حول الثقافة المصرية. * ثم لماذا أصبح أدونيس عند "أخبار الأدب" صاحب مسلسل درامي لا ينتهي؟ وأحد الذين يستخدمون الدموع لتقليل الخسائر... وزعيم تشيع جنازته... وصنم من الشمع يذوب تدريجها في مشهد تراجيدي... ورجل يسعى للتطبيع مع العدو. على ما أعتقد، وأتذكر، وأنا أحد الشهود، أن أدونيس هو من أفردت له "أخبار الأدب" صفحاتها محاوراً، ومحاضراً، في الحلِّ والترحال، والصور في "أخبار الأدب" شاهدة على ذلك. بل إن رئيس التحرير كثيراً ما قاد أدونيس عبر حارات الجمالية، مجالساً إياه في مقهى الفيشاوي، وسارداً عليه تواريخ العمائر... ومتأبطاً ذراعه في أروقة المساجد... سبحان مُغيّر الأحوال!!! هل في الموضوع إنّه؟ "الإنه هو الشيء الخفي الذي لا يعرفه الناس" هل كان مشروع "كتاب في جريدة" سبب هذه الحملة على أدونيس وذلك بسبب استبعاد رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب" منه، والفهم الخطأ بأن أدونيس وراء هذا الاستبعاد؟ كل الحقائق واردة، وكل الشائعات أيضاً. * انه في الوقت الذي كان يلتقي أدونيس بالمثقفين المصريين في المقهى الثقافي في لقاء حول الثقافة العربية، كان رئيس تحرير "أخبار الأدب" ومعه البعض من كهنة كتاب الستينيات الذين يحملهم الغيطاني على ظهره فارضاً إياهم على الواقع الثقافي بالقوة الجبرية، هؤلاء الذين يعيشون على ما أبدعوه في الماضي، وكان معهم روائي أصادقه من ربع قرن ولم أعرف حتى الآن ان كان معي أو ضدي... كانوا جميعاً يستظلون تحت الخيمة الفرانكفونية مجددين البيعة، ساعين بكرشة النفس نحو حلم العالمية بترجمة أعمالهم للغات ورطانات أخرى فيما هم في أوطانهم لا يزيد توزيع أي كتاب من كتبهم عن عشرات النسخ... فلا حول ولا قوة إلا بالله. أختتم كلامي مؤكداً أنني أحب الثقافة العربية، وأدين بالولاء لها، وأشعر بالامتنان بكل صداقة تربطني بالكتّاب العرب، وأشرف بهم في وطني مصر الكريمة، محسناً وفادتهم مثلما يحسنون وفادتي في أوطانهم وداخل بيوتهم، وأحترم وأقدر دور أدونيس شاعراً ومفكراً وصاحب دعوة مستمرة للخروج. وصدق أدونيس حين قال في مصر: ايزيس أتبع آية الشمس / انخرط في سلك ابن عربي لأتقن التسمية / وأسميك الأسماء كلها... * كاتب مصري